هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
شهدت مقولة حقوق الإنسان طفرة نوعية منذ نهايات القرن الماضي حتى تحولت تيارا سياسيا وفكريا يستقطب عددا كبيرا من الناشطين حول العالم. المقولة قديمة نسبيا وعرفت وجودها الرسمي مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عقب الحرب العالمية الثانية وتحديدا سنة 1948 في باريس وهو الإعلان الذي أعطاها زخما قانونيا دوليا بعد إقرارها وتبنيها من قبل الأمم المتحدة.
رغم أنّ هذا الإعلان يبقى كغيره من النصوص حبرا على ورق لأنه لم يمنع الانتهاكات الكبيرة للإنسان وحقوقه على مدار عقود طويلة، فإنّ المقولة قد تطورت في اتجاهات عديدة ومتشعبة. تطورت مقولة حقوق الإنسان كما تطورت التيارات الفكرية والاتجاهات الإيديولوجية وأصبح لها مريدوها وأتباعها ومنظماتها ومعاهدها ومواثيقها عبر العالم.
لكنّ اللافت في هذا التيار الفكري والحقوقي الجديد أنه اتخذ في البلاد العربية صبغة خاصة بسبب طبيعة المجتمعات وطبيعة الأنظمة السياسية هناك. يمكن القول دون مجازفة إنّ البلاد العربية هي المنطقة الأشد انتهاكا لحقوق الإنسان عبر العالم لكنها رغم ذلك فهي الأكثر استهلاكا لهذا الشعار بمختلف تشكيلاته وتمظهراته.
حقوق الإنسان عربيا
إن أوّل الأسئلة التي تُطرح في هذا السياق هو كيف يمكن الحديث عن حقوق الإنسان في محيط محكوم في أغلبه بأنظمة استبدادية قائمة على القمع وسلب الحريات وانتهاك حقوق الإنسان؟ من جهة مقابلة يمكن القول كذلك بأنّ مجالات الممارسة السياسة تختلف في الإقليم وهو ما يجعل من مقولة حقوق الانسان مقولة سياقية تختلف ولو نسبيا باختلاف السياق الذي تُطبّق فيه.
على المستوى السياسي وسواء كان النظام عسكريا أو أمنيا أو وراثيا أو جمهوريا بحلّة عسكرية فإنّ منظومة الحكم العربية تقوم على إلغاء أهم حقوق الإنسان شرط أن يبقى النظام قائما. لكن لسائل أن يسأل، هل حقوق الإنسان العربي تختلف عنها في بقية دول العالم؟ الجواب طبعا لا فالحقوق كونية في خطوطها الأساسية لكنها قد تتنزل في سياق ثقافي يمنحها شيئا من الخصوصية حسب طبيعة البلد.. ولمّا كانت المنطقة العربية منطقة موحّدة ثقافيا فإن طبيعة المطالب الحقوقية بها تكاد تكون نفسها.
حقوق الإنسان ليست عطاء يُمنح ولا شعارات تُرفع ولا منظمات تُطالب بل هي أساسا شروط تُنتزع انتزاعا ولا تتحقق إلا متى تحقق شرط الحرية من الاستبداد وأعوانه وثقافته وسلطانه. لا حقوق قبل تحقيق رأس الحقوق وهو مطلب الحرية الذي يتلوه مبدأ العدل وهما شرطا الإنسان وشرطا حقوق الإنسان.
لكن من جهة أخرى قامت المنطقة في تصورها للمسألة الحقوقية على محورين: يتمثل الأول في منظومة المقولات الإسلامية التي صاغت الأسس الأولى لتصوّر الفكر العربي الجمعي مقولةَ الحريات والحقوق. فقد صاغ التشريع الإسلامي الذي هو المصدر الأساسي للقوانين في عدد من الدول منظومة من القيم التي تحدد مفهوم الحريات في علاقتها بالمقدّس من ناحية وفي علاقة المؤمنين ببعضهم البعض. تأسست المقولات الإسلامية على مبدأ المساواة وعلى مبدأ العدل بين جماعة المؤمنين وهو المبدأ الذي يشكل محور منظومة القيم الإسلامية. إلى جانب هذا المبدأ جاءت مقولة التوحيد المناقضة لسلوك العبودية والشرك داعمة لمبدأ المساواة بين المؤمنين في الحقوق والواجبات.
أما المحور الثاني فهو المحور المدني الذي نهضت بتأسيسه فكرة الدولة المدنية وفكرة الدساتير والتشريعات الوضعية بمختلف صورها وأنماطها. فعلى المستوى النظري، لم تختلف هذه النصوص والتشريعات عن مثيلاتها في الدول الغربية والأنظمة الديمقراطية لكنها لم تعرف طريقها إلى التطبيق يوما.
فسواء تعلق الأمر بالمنظومات السياسية الدينية مثلما هو الأمر في السعودية أو غيرها من دول الخليج أو بالجمهوريات العسكرية فإنّ مقولات حقوق الإنسان بمصدريها المدني والديني لم تتحقق على أرض الواقع ولو في حدّها الأدنى. إنّ تغوّل السلطة التنفيذية على حساب السلطتين التشريعية والقضائية وهيمنة السياسي على كل مجالات الفرد والجماعة من الاقتصاد إلى المجتمع إلى الثقافة هو الذي منع من تمكين المواطن العربي من الحدّ الأدنى من حقوقه المدنية والسياسية.
سماسرة حقوق الإنسان
لم يقتصر الأمر على خرق كل القواعد المتعلقة باحترام الإنسان واحترام حقوقه المدنية والسياسية في حدّها الأدنى كالحق في التعبير والتنظّم والمعارضة، بل تجاوزها إلى حرمانه من أبسط الحقوق معيشية كالحق في السكن والحق في العمل والحق في التنقّل مثلا. هكذا صارت البلدان العربية نماذج عالمية في دوس الإنسان وفي دوس حقوقه وهو الأمر الذي انعكس سلبا على واقع الفرد في هذه المجتمعات بأن تحوّل إلى عنصر كميّ يفتقر إلى أبسط الشروط التي تجعل من الإنسان مواطنا كغيره من البشر في الدول المتقدمة.
أما الظاهرة الأخطر من خرق حقوق الإنسان فهي تلك المتمثلة في تحويل الحق الإنساني الكوني إلى شعار سياسي أو إيديولوجي يُغطي على بشاعة الواقع ويهدف إلى تحقيق مصالح ذاتية لهذا الطرف أو ذاك. فقد عرفت البلاد العربية طُفرة كبيرة فيما يسميه كثيرون "دكاكين حقوق الإنسان" التي اتخذت لها شعارات كثيرة مثل حقوق المرأة أو حقوق الأقليات أو حتى جمعيات الدفاع عن حقوق الحيوان. ظهرت بذلك تشكيلات الحقوقيين والحقوقيات الذين رفعوا عاليا لواء الدفاع عن حقوق الإنسان في المنطقة التي تعرف أخطر انتهاكات في حق الإنسان وهو الأمر الذي كشف عن دورها التجميلي للأنظمة الاستبدادية نفسها.
من جهة أخرى لا تكاد هذه الجمعيات الحقوقية تنفصل عن المنظمات الأمّ في الدول الغربية والأمريكية وهي التي تعتبر نفسها الراعي الرسمي والمدافع الحصري عن الإنسان وحقوقه مثل منظمة العفو الدولية وغيرها من المنظمات الأممية. شكلت هذه المنظمات في فترات كثيرة أداة للتدخل السياسي في البلاد العربية كما نجحت في تركيز أذرع محلية في مختلف الأقطار بالشكل الذي يمكّنها في مناسبات كثيرة من الضغط والتأثير على صاحب القرار العربي.
نجحت هذه المنظمات في إحراج الأنظمة العربية عندما يتعلق الأمر بحقوق الأقليات أو بأوضاع السجون والمعتقلات أو بجرائم ترتكب هنا وهناك مثلما هو الأمر مع السعودية وقضية اغتيال الصحفي جمال خاشقجي. ليس هدف المنظومات الدولية الدفاع عن حقوق الإنسان العربي أو المسلم فهو يُقتل في كل مكان ولم نسمع لها صوتا لكنها توظّف بعض الملفات للضغط والتدخل والتوجيه والاختراق والتأثير حماية لمصالحها.
ليست مقولة حقوق الإنسان في الحقيقة إلا حقا أريد به باطل وهو الأمر الذي كشفته المجازر التي رافقت ثورات الشعوب أو الانتهاكات اليومية في حق الأطفال والنساء والمدنيين في سوريا واليمن وليبيا والعراق أو في سجون الأنظمة العربية على امتداد الوطن الكبير.
حقوق الإنسان ليست عطاء يُمنح ولا شعارات تُرفع ولا منظمات تُطالب، بل هي أساسا شروط تُنتزع انتزاعا ولا تتحقق إلا متى تحقق شرط الحرية من الاستبداد وأعوانه وثقافته وسلطانه. لا حقوق قبل تحقيق رأس الحقوق وهو مطلب الحرية الذي يتلوه مبدأ العدل وهما شرطا الإنسان وشرطا حقوق الإنسان.