كتب

هل يمكن الاستفادة من تراث الماوردي في التربية الحديثة؟

 الماوردي اعتبر أن العقل أول شرط من شروط التعلم- (عربي21)
الماوردي اعتبر أن العقل أول شرط من شروط التعلم- (عربي21)

الكتاب: "الفكر التربوي عند الماوردي"
الكاتب: الدكتور فاضل عباس علي النجادي 
الناشر: تموز- ديموزي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الأولى 2021
(287 صفحة من القطع الكبير)


يواصل الكاتب والباحث التونسي توفيق المديني في الجزء الثاني والأخير من عرضه لفصول كتاب "الفكر التربوي عند الماوردي"، الصادر عن تموز- ديموزي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، مطلع العام الجاري للكاتب والباحث العراقي الدكتور فاضل عباس علي النجادي.. تسليط الضوء على شروط التعلم والعلم عند الماوردي.. 

العلم المتعلم عند الماوردي وشروط التعلم

إن العلم يعدّ الإنسان لحياة الدنيا والآخرة وإعداده هو أن يمارس دوره كاملاً في المجتمع، لذلك يؤكد الماوردي على أدب المعاملة والتعامل وأن يسود الإخاء والمحبة بين المسلمين، وأن يتعلم الإنسان عادات عصره، وأن يتمثل قيم وأخلاق المجتمع الذي يعيش فيه، ليكون مقبلا على شأنه مطيعا لأولي الأمر راضيًا قانعًا، سِلْمًا لأهل عصره، لكي يكون منسجما مع مجتمعه ويتصرف بهدى الشريعة وعرف وتقاليد ذلك المجتمع وهذا ما تعمل من أجل تحققه المؤسسات التربوية في كل البلدان، من أجل إعاداد الإنسان الصالح الذي يعرف حقوقه وواجباته، ومنسجما ومتكيفا مع بيئة مجتمعه.

إن عملية التعلم والتعليم ليست بالعملية السهلة، بل معقدة وصعبة والسبب في ذلك أنها تتعلق بتعلم الإنسان، وتساهم فيها عناصر متعددة، وتحتاج لمستلزمات وشروط كثيرة لكي تتم تهيئة جو "دراسي" ملائم من الناحية الاجتماعية والنفسية والمادية.

وقد أكد الماوردي على ضرورة توفر شروط تساعد المتعلم على التقدم في تحصيله العلمي ويحقق من خلالها النجاح والاستمرار في طلب العلم، وقد جاءت الشروط التي حددها شاملة لعناصر العملية التعليمية والتربوية، ويكون الماوردي بذلك قد سبق علماء النفس في عصرنا في مجال علم النفس التربوي الذي يهتم بشروط وعوامل تحقيق التعليم الجيد، وأن يؤخذ بعين الاعتبار الظروف التي تهيئ للمتعلم.

يقول الدكتور فاضل النجادي: وقد مهد الماوردي الشروط بمقدمة يقول فيها: "وأما الشروط التي يتوفر بها علم الطالب وينتهي معها كمال الراغب، مع ما يلاحظ به من التوفيق، ويمد به من المعونة فتسعة شروط.

أما الشروط التي ذكرها الماوردي، فهي:
 
1 ـ العقل الذي يدرك به حقائق الأمور

أكد الماوردي على العقل، ولذا اعتبره أول شرط من شروط التعلم، ومن خلال الإطلاع على الباب الأول من الكتاب يلاحظ اهتمامه الشديد بالعقل، وأنه يرى أن العقل ينقسم إلى: غريزي (ورائي) ومكتسب، وأن العقل المكتسب ينمو ويتطور بالتجربة والخبرة، ولا يمكن الفصل بين العقلين، وأن تفاعلهما هو العقل الكامل، ويرى أن العقل  أساس الفضيلة وينبوع الأدب، ويقول: إن العقل هو المعلم بالمدركات الضرورية، خلال الحواس ويعتبر العقل المكتسب هو نتيجة العقل الغريزي، وهو نهاية المعرفة وصحة السياسة وإصابة الفكر، وأن العقل لا حد له والزيادة فيه زيادة علم بالأمور، وأن العقل المكتسب لا ينفك عن العقل الغريزي، لأنه نتيجة منه.

إن رأي الماوردي هذا يتفق مع ما توصل إليه بعض العلماء من أثر الوراثة والبيئة في نمو وتطور العقل والقدرات العقلية، لأنهما يتفاعلان منذ اللحظة الأولى التي تبدأ فيها الحياة، فتؤثر الوراثة على الذكاء يتبعها الاستعداد للنمو العقلي، أما البيئة فإنها تسهل تحقيق تلك الاستعدادات الوراثية وتنميها.
 
2 ـ الفطنة التي يتصور بها غوامض العلوم
 
يؤكد الماوردي على الفطنة والتي هي كالفهم، ويعتبرها أساس التعلم الصحيح والجيد، وأن حُسن الفطنة لديه ترتبط بالعقل وتؤدي إلى سرعة الفهم والاستيعاب وأنه يعول كثيراً على الفهم ويجعله في المرتبة الأولى، ثم يليها الحفظ.

3 ـ الذكاء الذي يستقر به حفظ ما تصوره وفهم ما علمه

يرى الماوردي أن الذكاء، حدة القلب، للمتعلم عامل مهم يتم من خلاله حفظ الأشياء التي فهمها بشكل جيد، وأنه يساعد على ثبات واستقرار المعلومات والمعارف التي يتعلمها المتعلم، ويرى أن فرط الذكاء وحسن الفطنة يؤديان إلى الحدس الذي هو الظن والتخمين المؤكد في السرعة، وقد يعبر عنه بالبديهة أو الارتجال، ويرى أنه ليس للذكاء غاية.
 
4 ـ الشهوة التي يدوم بها الطلب، ولا يسرع إليها الملل

استخدم الماوردي كلمات متعددة تدل على الرغبة منها: الشهوة، الرغبة، النية، الباعث، الميل، الداعي، ويقول: إن أصل العلم الرغبة، وإن على قدر الرغبة يكون الطلب، وإنه يرى أن توفر الرغبة شرط هام لاستمرار المتعلم في طلب العلم، والصبر وتحمل مشقة التعلم بدون ضجر أو ملل من أجل تحقيق النجاح، وأن الرغبة تدعو لطلب العلم، ومن ثم الزيادة والإكثار من التعلم، ويرى أن للشهوات غايات متناهية يزول بزوالها ما كان متعلقاً بها، ويؤكد على أن الرغبة أقوى باعث على طلب العلم، وأنها تبعث على صبر المتعلم وطاعته لمعلمه، ولذلك ينصح المعلم بترغيب المتعلم في العلم رغبة متحقق بفضائله من أجل الاستمرار بطلب العلم بلهفة وشوق وتحقيق تعلم جيد.

وهذا ما يسمى اليوم في علم النفس بالدوافع والحوافز والبواعث، وقد أكد الكثير من العلماء مثل دارون، ومكدوجل، وفرويد، وماسلو، واتكنسون على أهمية الدوافع والرغبات في تحقيق التعليم الجيد.  وعدوها شرطاً هاماً من شروط التعليم(ص92 ـ 93).
 
الأسباب المتعلقة بالمتعلم
 
المتعلم ركن من أركان العملية التعليمية وهدفها، ويعده علماء النفس من العوامل المؤثرة والفاعلة لتحقيق تعليم فعال، وكذلك يمكن أن يكون من معوقاته ويرى الماوردي أن هناك أسباباً لتقصير المتعلم في أن يتعلم تعليماً جيداً، وإن سبب هذا التقصير هو المتعلم نفسه، ولذلك أسباب فاسدة، ودواع واهية. وقد قسم الماوردي أسباب التقصير وضعف الفهم إلى ضربين: أحدهما من ذاته، والثاني من طارئ عليه.
 
ويرى الدكتور فاضل النجادي أنَّ:"ضعف فهم وتصور المتعلم لمعاني ما يتعلمه سببه البلادة وقلة الفطنة، ويعد الماوردي ذلك داء عياء لا علاج له، ولتقليل أثر ذلك على المتعلم ينصح قائلاً: إنه ليس لمن بلي به إلا الصبر والإقلال ، لأنه على القليل على أقدر، وبالصبر ينال ويظفر، ويضيف عوامل مساعدة أخرى هي أن يكون غالب الشهوة، بعيد الهمة، ليعزز صبره وتحمله من أجل تحقيق تعلم مناسب، ومن خلال استعمال الفكر فيه يكون الارتياض به، وبالارتياض به يسهل منه ما استصعب، ويقرب منه ما بعد، فإن للرياضة منه جرأة وللمعرفة تأثيراً"(ص253).

إن ما ذكره الماوردي من أن البلادة وقلة الفطنة وسماها ذاتية، أي: فسيولوجية وراثية، ويصعب علاجها، واقترح لها معالجات موضوعية تربوية صحيحة، وهي: أن تقدم للمتعلم معلومات بسيطة، ويحتاج هذا المتعلم إلى رعاية خاصة، وأن تراعى ظروفه وأن يشجع وتنمى فيه الرغبة للتعلم. وقد اهتمت التربية الحديثة بهذه الفئة من المتعلمين ووضعت لها نظاماً تعليمياً محدداً وطرقاً تدريسية ومناهج تلائم مستوياتهم العقلية، ويعرف اليوم بالتربية الخاصة التي تهتم ببطئ التعلم، وأما تشخيص الماوردي ضعف قدرات المتعلم لفهم وتصور المعنى فإنه رحمه الله سبق من بعده بمئات السنين إذ أن العالم برونر الذي قسم مراحل التفكير ومنها مرحلة التفكير (الأيقوني)، أي: الصورة الذهنية، وأن عدم قدرة المتعلم من تصور المعنى وفهمه راجع إلى أنه لم يصل في نموه العقلي لمستوى ذلك المعنى.

ويقول الدكتور فاضل النجادي: "إن النسيان من الأسباب التي تضعف قدرة المتعلم عن حفظه ما تعلمه بعد تصوره وفهمه، فهو النسيان الحادث عن غفلة التقصير، وإهمال التواني، أي: أن المتعلم يقصر ويهمل فيؤدي ذلك إلى نسيان ما تعلمه، لذلك نصح الماوردي من ابتلي بالنسيان أن يستدرك ذلك بكثرة الدرس، ويوقظ غفلته بإدامة النظر، فقد قيل: لن يدرك العلم من لا يطيل درسه ويكد نفسه، وكثرة الدرس تعب لا يصبر عليه إلا من يرى العلم مغنماً فيتحمل تعب الدرس، ليدرك راحة العلم، ويضيف فائدة أخرى لكثرة القراءة هي زيادة العلم، فيقول: من أكثر المذاكرة بالعلم، لم ينس ما علم، واستفاد مالم يعلم"(ص254).

إن تشخيص الماوردي لصعوبة الحفظ سببها نسيان المتعلم لما تعلمه ويعود فهماله وتقصيره ووضع المعالجات لذلك، ومنها القراءة والدراسة المستمرة لما تعلمه ليستقر الحفظ في ذاكرته ليسترجعه متى أراد. وهذا الرأي العلمي الرائع، أكده العالم الإلماني اينجهاوس وهو أول من قام بدراسة النسيان، ومن جاء بعده مثل: تشنر، وماجيوش وأربون الذين أكدوا على أن ضعف الاسترجاع للمادة بسبب عدم مراجعتها من وقت تعلمها إلى وقت تذكرها. وإن ما نصح به الماوردي لمعالجة النسيان من تكرار القراءة وكثرة الدرس وعزم المتعلم، أكده كل من علماء النفس بتيرسون، وأوسويل، من وجود تأثير لعزم المتعلم على الاحتفاظ وكذلك التدريب الموزع، أي: القراءة المنتظمة المستمرة بعد التعلم الأصلي.

ومن الأسباب التي يذكرها الدتكور فاضل النجادي في هذا الموضوع :"امتناع المتعلم من طلب العلم لكبر سنه وذلك لاستحيائه من تقصيره في صغره أن يتعلم في كبره. وقد اهتم المربون وعلماء النفس بهذه الناحية ونادوا بإيجاد مراكز لمحو الأمية وتعليم الكبار تناسبهم من النواحي الاجتماعية والنفسية والعمرية من حيث المنهج والأسلوب وقد استحدثت أساليب التعليم غير النظامي منها التعلم عن بعد، والتعليم المصغر، لتسهيل السبل أمام تعليم الكبار وعدم حرمانهم بسبب ظروفهم الخاصة.
 
ولا سيما إن رغبة المتعلم الكبير في التعلم تجعله يستحي أن يبتدئ بما يبتدئ الصغير ويستنكف أن يساويه الحدث الغرير، فيبدأ بأواخر العلوم وأطرافها، ويهتم بحواشيها وأكنافها، ليتقدم على الصغير المبتدئ، ويساوي الكبير المنتهي ، فلا يبدأ بداية صحيحة خجلاً من أن يجلس مع الصغار، ويتعلم ويتدرج في تعليمه معهم، فيلجأ إلى تعلم نهايات وأطراف العلوم وقشورها وحواشيها لكي يُظهر تفوقه على الصغر وليساوي الكبار"(ص255).

 

إذا كانت الصفة الغالبة للعلماء هي اكتفاؤهم باليسير من المادة وزهدهم بمغريات الحياة، إلا أن الكثير منهم كانوا أغنياء، ومنهم أبو الحسن الماوردي رحمه الله فلقد عُدّ في عصره من الأثرياء. وأما تفكير هذه الطائفة التي تنفر من العلم وأهله إنما نشأ من اهتماماتهم المادية أو عجزهم وإخفائهم في الوصول إلى ما وصل إليه العلماء من علم.

 


إن ما عرضه الماوردي في هذا الجانب قد يصح في عصره، لكونه يؤمن بالتربية الشاملة والتعليم الكامل، وهذا يتناسب مع محدودية المادة العلمية وأبرزها القرآن الكريم وعلوم الدين، أما في العصر الحديث لا يلقى هذا الجانب كل التأكيد، لكون فلسفة تعليم الكبار قائمة على تعليمهم القراءة والكتابة بأسلوب وطريقة خاصة ومناسبة لعمرهم وظروفهم، إضافة إلى تزويدهم بمعلومات ومعارف مهنية وأخلاقية بما يحقق تكيفهم بصورة سليمة مع المجتمع وتطوير قدراتهم ومهارتهم الإنتاجية.

إن ما شخصه الماوردي من أن الجانب الاقتصادي عامل مؤثر على تحصيل العلم حق، إلا أنه أكد على ضرورة التعلم وعدم جعل هذا الجانب عائقاً، ووصم من يترك العلم من أجل المال بالشره والطمع وقد حظي هذا العامل باهتمام التربية الحديثة إذ استحدثت الكثير من وسائل التعلم بما ييسر العلم ويسهله للعاملين الراغبين بالتعلم فتم استحداث أساليب جديدة تقع ضمن إطار التعليم النظامي، منها التعلم عن التعليم عن طريق الدوائر المغلقة، إضافةً إلى فتح المدارس المسائية، وذلك لتسهيل السبل أمام تعليم العاملين وعدم حرمانهم من فرصة التعلم بسبب ظروف العمل.
 
إن بعض الناس ينفرون من العلم وأهله لظنهم أن الفقر والضيق مختصان بالعلم والعقل، دون الجهل والحمق. ويعد الماوردي ذلك من غرور الجهل والطمع والجشع، ويؤكد أن الإقبال مع العلماء. وإن تشخيصه لموقف البعض من العلم لا زال قائماً.
 
وإذا كانت الصفة الغالبة للعلماء هي اكتفاؤهم باليسير من المادة وزهدهم بمغريات الحياة، إلا أن الكثير منهم كانوا أغنياء، ومنهم أبو الحسن الماوردي رحمه الله فلقد عُدّ في عصره من الأثرياء. وأما تفكير هذه الطائفة التي تنفر من العلم وأهله إنما نشأ من اهتماماتهم المادية أو عجزهم وإخفائهم في الوصول إلى ما وصل إليه العلماء من علم.

إن ما ذهب إليه الماوردي يتفق مع ما ذهب إليه العالم ( برونر) في التأكيد على بنية المادة المتعلمة، وأنه لابد من فهم الأساسيات وترتيب الجزئيات، لضمان فهم واستيعاب الموضوع وانتقال أثر التعلم السليم، وكمذلك العالم (هربرت) الذي أكد على الإدراك السابق وأهميته في تعلم وتفسير الأفكار الجديدة وتكون مرتكزاً لتفسر ما يأتي بعدها.

إن بعض المتعلمين يحب الاشتهار بالعلم إما لتكسب أو لتعمل، فيقصد ما اشتهر من مسائل الجدل وطرق النظر، ويتعاطى علم ما اختلف فيه، دون ما اتفق عليه، فيتعلم المسائل الشاذة والمتطرفة التي لم يتفق عليها العلماء ليناظر على الخلاف وهو لا يعرف الوفاق، ويجادل الخصوم، ولم تكن مناظرة هذه المحصول على العلم والمعرفة وإنما انطلاقاً من مقولة : (خالف تُعرف).

 

إقرأ أيضا: مكانة العلم والعلماء في الفكر الإسلامي.. الماوردي نموذجا


التعليقات (0)

خبر عاجل