هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
قد لا نستطيع اليوم التكهن
بنتائج الانتخابات الإسرائيلية المقبلة، ولا مَن ستكون الشخصية التي ستوكل إليها،
مهمّة تأليف الحكومة المقبلة؛ لكننا نستطيع، مع قليل من الحذر، أن نتصوّر شكل
الخريطة السياسية الجديدة، التي ستأخذ معالمها بالبروز في صباح الرابع والعشرين من
آذار/مارس الجاري، وأن نتصور كيف ستؤثر هذه القوى المنتخبة في مستقبل الأحداث داخل
إسرائيل، وفي علاقاتها مع دول الجوار وتجاه القضية الفلسطينية تحديدا.
سوف ينتخب المواطنون اليهود مجموعة من الأحزاب
الصهيونية القومية، التي ترانا، نحن المواطنين العرب، زوائد ضارة على جسم الدولة،
ومن الأحزاب القومية الدينية المتزمتة، التي تؤمن بفكرة إسرائيل الكبرى، وبضرورة
اعتماد الدولة على روح قوانين الشريعة اليهودية في جميع ميادين الحكم والحياة. ولن
يستطيع، على الأغلب، أي زعيم حزب أن يشكل حكومة ثابتة ومستقرة، بدون أن يضمن دعم تلك
الأحزاب، أو دعم جزء كبير منها، مقابل إرضائهم، ليس عن طريق إتمام تبعات مشروع
قانون القومية، وتطبيق إسقاطاته العملية على حياة ومكانة المواطنين العرب في
إسرائيل فحسب، بل بإرضائهم أيضا بحسم موقف الحكومة المقبلة من مسألة حل الدولتين،
والقضاء الفعلي على إمكانية إقامة دولة فلسطينية على أي جزء من أرض إسرائيل الكبرى.
ومع أن التكهن، كما قلنا، صعب، لكننا لا
نستطيع أن نحذف اسم بنيامين نتنياهو من قائمة المرشحين لمنصب رئيس الحكومة القادم،
إن لم نقل إنه أقواهم. أما أصوات المواطنين العرب فستتوزع بين القائمة المشتركة،
التي أتمنى أن تنال منها حصة الأسد بدون منازع، والحركة الإسلامية بقيادة الدكتور
منصور عباس، وهوامش ستدعم بعض الأحزاب الصهيونية على اختلافها. ستكون هذه المعركة
حاسمة ومميزة في تاريخ المشهد السياسي الإسرائيلي، لا لأنها ستضع نهاية لكثير من
البنى السياسية الإسرائيلية والحزبية التقليدية فحسب، بل لأنها ستشكل محطة بارزة
ورئيسية في طريق شرعنة مفاهيم وأطر سياسية وأيديولوجية دينية وصهيونية، كانت طيلة
السنين الماضية خارج اللعبة السياسية ومفاعيلها الرسمية والسائدة، وغير مهضومة
داخل أروقة المؤسستين، القانونية والأمنية. أنا أؤمن بأن سعْينا للتأثير في نتائج
الانتخابات، وما سيتداعى بعدها سيخدم مصلحتنا المواطنية، وأننا نستطيع ضمان ذلك من
خلال إقناع المواطنين بضرورة مشاركتهم بعملية التصويت وزيادة نسبة المصوتين من
بيننا.
لم يغفل قادة الأحزاب الصهيونية أهمية ووزن
المواطنين العرب كقوة انتخابية كامنة وقادرة؛ فسعت، منذ انتخابات الكنيست الأولى،
وراء تلك الأصوات، وحاولت اصطيادها بشتى الأساليب والأحابيل والحجج: فتارة عن طريق
إقامة قوائم عربية متحالفة بالخفية مع «السلطان» وموكلة بمهمة حماية «مجتمعاتنا
المحافظة» في تلك السنوات؛ ودائما عن طريق إطلاق أبواق مجندة لنشر الدسائس أو
التشكيكات، وأهمها كان التساؤل الذي لم يغب اليوم، ولا في جميع الجولات الانتخابية
السابقة: ماذا فعل لكم نوابكم الشيوعيون، وبعدهم العرب؟ لقد نجحت تجربة القائمة
المشتركة بإغاظة قادة إسرائيل، وأثبتت لهم، في الوقت نفسه، صحة ما أطلقه، في حينه،
رئيسها، النائب أيمن عودة، كشعار للمرحلة: «لوحدنا قد لا نستطيع، لكن من دوننا لن
يكون التغيير». لقد استوعب معظم قادة الأحزاب الصهيونية قوة وصحة هذا الشعار،
فتراجع بعضهم، وكان أبرزهم رئيس حزب «يش عتيد» يئير لبيد، عن مواقفهم المخزية
السابقة، ورحبوا بالمشتركة حليفا شرعيا بعد انتهاء معركة الانتخابات؛ بينما شرعت
جميع الأحزاب اليمينية تقريبا بالهرولة وراء أصوات المواطنين العرب، وكأننا لم نكن
يوما في قواميسهم «طابورا خامسا» أو «صراصير في زجاجات» أو «سرطانات في جسم
الدولة». اختارت القائمة المشتركة شعار «كرامة وحقوق» عنوانا لمواجهة أي حكومة
ستشكَّل بعد الانتخابات المقبلة؛ وليس أسهل من أن يثبت أي كاتب في السياسة صحة هذا
الشعار وحاجته، لاسيما إذا ما راجعنا تاريخ نضالات المواطنين العرب ضد سياسات
القمع العنصرية، التي مارستها حكومات إسرائيل منذ قيامها؛ فبدون التمسك بالكرامة،
وتأكيدنا كأقلية على الانتماء الهوياتي الوطني، كان كل ما أعطي، للأفراد أو لقرانا
ومدننا، فتاتا أو مجرد منن؛ وهذا ما أثبتته وأوضحته تجربة القائمة المشتركة خلال
مسيرتها القصيرة.
لن تتوقف تداعيات المعركة الانتخابية عند ما
سيجري داخل إسرائيل فقط، فمصير الأراضي الفلسطينية المحتلة وحل المسألة
الفلسطينية، سيتأثران بشكل كبير ومباشر بهوية الحكومة الإسرائيلية المقبلة، خاصة
أنها ستعتمد على أكثرية لا تؤمن بحل الدولتين، وتحارب من أجل بسط السيادة
الإسرائيلية والقانون على الضفة الغربية. لقد واجه الفلسطينيون، منذ اليوم الأول
للاحتلال، مثل تلك النداءات «الحالمة» والعنصرية، لكنها كانت دوما أصواتا هامشية،
ولم يحسب لها حساب، لأن احتفاظ قادة إسرائيل بأرض فلسطين المحتلة عام 1967 كان،
حسب الفرضيات المقبولة عبر تلك العقود، لأهداف سياسية، ومن أجل تأمين صرف شعار «الأرض
مقابل السلام» عندما تحين ساعة المقايضة السياسية؛ ولكن.. مرّت السنون ولم يرحل
الاحتلال، ولم يُقضَ عليه ولم يتبخر؛ وبقي جاثما كالقدر على صدور الفلسطينيين،
وتحوّل ببطء مرض خبيث، إلى واقع لم يعد يشكل، كما كان في بداياته، حالة خلافية
بارزة داخل المجتمع اليهودي ومؤسساته، أو ممارسة مرفوضة من قبل بعض الجهات والقوى
السياسية الإسرائيلية، بل على العكس تماما؛ صار معظم المواطنين اليهود يتقبلونه،
على الرغم مما ينشر عن ممارسات زعرانه واعتداءاتهم على المواطنين الفلسطينيين وعلى
ممتلكاتهم؛ وصارت مؤسسات الدولة، وبضمنها جهازها القضائي، تتعامل معه بشرعية
وبإيجابية وتحيطه بالدفء وبالدعم وبالتشجيع.
لن أتطرق في هذه المقالة إلى سائر المتغيّرات
التي طرأت على الجبهات الأخرى وأثّرت في مصير الاحتلال الإسرائيلي للأراضي
الفلسطينية، وتأثرت به؛ فسوء الحالة الفلسطينية الداخلية يعتبر من أهم هذه العوامل
وأخطرها في حال أي مواجهة آتية، تليها مواقف معظم الأنظمة العربية والإسلامية
السائلة، التي صار الرهان عليها كالرهان على «حصان ميت»؛ أما الاعتماد على «نزاهة
الأمم» الأخرى وضميرها الإنساني، فسيبقى، كما كان دوما، احتمالا مرهونا بمصالح تلك
الدول، ومرآة لأين ستموضع كل واحدة منها حجرَ فلسطيننا على رقعة الشطرنج الكبرى.
واذا كان الحال كذلك، يجب ألا ننسى خطورة ما تؤمن به أحزاب اليمين الصهيوني
المتدين المتزمت، التي تنادي بإقامة دولة فلسطين على أراضي المملكة الأردنية
الهاشمية؛ فماذا سنفعل نحن وماذا سيفعل إخواننا الفلسطينيون، إذا قرر أصحاب هذا
الموقف، الذين قد يصبحون بعد الانتخابات المقبلة الأكثرية الحاكمة في الدولة،
تحويله من مجرد «فكرة» هنا إلى «دولة» هناك، أو قل إلى نكبة هنا وهناك؟ ألا يظن
الناخب أننا سنحتاج، ساعتها، إلى أكثر من رهان على «الناصر أبو يائير» ونحتاج إلى
جانب دعاءات «مجتمعنا المحافظ» إلى مزيد من الإصرار ومن الحكمة ومن الكرامة التي
باسمها انزرع آباؤنا في الوطن.
وأخيرا، لقد دأب قادة إسرائيل على عرقلة
ممارسة المواطنين العرب لأحد أهم حقوق مواطنتهم، وعملوا، في الوقت نفسه، على تفتيت
قواهم أو الحصول على أصواتهم، بالترغيب حينا، وبالتهديد أحيانا، ودائما وجدوا من
يسهل لهم هذه المهام. فهل ندعهم ينجحون هذه المرة؟ سأصوت للقائمة المشتركة وأدعو
الجميع إلى التصويت مثلي؛ فنحن نعرف، أو يجب أن نعرف، أن هذه المعركة لن تشبه
سابقاتها، إذ يكفي أن نستمع إلى صوت الرصاص في شوارعنا ونرى إلى جانب من يقف
مُشيعوه؛ وأن نصغي بعده إلى موسيقى «ابن جبير» وهو يعِد بأنه آت ليبني نظامه
الجديد؛ وثم نتابع مشاهد زيارات نتنياهو «الفاتح» في المستعمرات، وبعدها زياراته
المتتالية، مستعربا، لقرانا في المثلث والنقب والجليل؛ ثم نستمع في المساء تصريحا
لزميل الدكتور عباس وهو يعلن بأن قائمتهم الإسلامية ستكون حليفة لكل رئيس حكومة
سينتخب، سواء كان نتنياهو أو غيره، لأنهم، هكذا حسب فقه ذاك الناطق، سينتخبون من
أجل حلب الدولة، وليس من أجل التجارة بالشعارات، فكيف ومتى صار بنيامين نتنياهو
ناصر العرب؟