هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يجلس المقدسي أبو يوسف الرشق (٥١ عاما) في ساحة منزله داخل حي البستان في بلدة سلوان جنوبي المسجد الأقصى المبارك؛ فلم يرهقه مرضه بقدر ما أرهقته بلدية الاحتلال وهي تلاحق سكان الحي بأوامر الهدم والمخالفات والغرامات المالية.
ملف حي البستان عاد للواجهة من جديد بعد أن أعلنت بلدية الاحتلال مؤخرا أنها أوقفت تجميد أوامر الهدم لمنازله المئة؛ والتي تنوي هدمها جميعا لإقامة حدائق توراتية للمستوطنين على أنقاضها.
لم يجد الرشق سوى الجلوس أمام قاعة محكمة الاحتلال هو وعائلته في أحد الأيام؛ للتعبير عن رفضهم لأوامر الهدم التي سُلمت لمنزلهم والتي تفوق الخمسة إخطارات، فلا مكان يذهبون إليه إن تم هدم المنزل حسب تهديدات الاحتلال المستمرة.
ويقول لـ"عربي21" إن منزله مشيد منذ ١٣ عاما بمساحة ٨٠ مترا مربعا، وعلى قطعة أرض ورثها من جده مساحتها ١٤٥ مترا مربعا، حيث كان يسكن في حارة السعدية بالبلدة القديمة؛ وقرر التوسع في هذا المنزل بحي البستان كي يعيش مع عائلته المكونة من تسعة أفراد، خاصة في ظل تضييق الاحتلال على أهالي البلدة وسرقة منازلها لصالح المستوطنين.
ولم يكد ينتهي أبو يوسف من بناء منزله حتى سلمته بلدية الاحتلال قرارا بالهدم مع مجموعة من منازل حي البستان، وبعد جلسات طويلة في المحاكم أجبر على دفع غرامات مالية مختلفة يصل مجموعها إلى ٦٠ ألف شيكل (١٨ ألف دولار)، وبعد سنوات اضطر إلى بناء غرفة إضافية لأحد أبنائه ولكن أجبره الاحتلال على هدمها.
وأوضح أنه منذ بناء منزله لم يمر عام إلا وتعرض خلاله لإخطار أو مخالفة؛ حتى إنه قام بنصب مظلة تحمي الأطفال من الشمس خلال اللعب فقام الاحتلال بإجباره على هدمها.
ولكن كل ذلك لم يؤثر على قرار الرشق بالبقاء في منزله وحيه؛ فهو واحد من عشرات المقدسيين الذين أصدر الاحتلال قرارا بهدم منازلهم في حي البستان، ما يجعل القلق يغزو حياتهم باستمرار خشية تنفيذ أوامر الهدم.
وأضاف: "نعيش القلق والخوف كل يوم؛ خاصة في ظل غياب الإعلام عن قضيتنا وتجاهل الدول العربية لمعاناتنا، فنحن نعيش في كابوس يومي ولا ندري متى يقتحمون منازلنا لهدمها".
شبح الهدم ليس وحده الذي ينغص حياة الأهالي في حي البستان؛ حيث ينفذ الاحتلال سلسلة إجراءات لإجبار أهاليه على الرحيل منه، مثل انعدام الخدمات والبنية التحتية وتعمد رفض ترخيص المنازل أو إيجاد مخطط هيكلي محدد للسماح للمواطنين بالبناء، كما أنه يخلو من وجود أي ساحات أو ملاعب أو أماكن ترفيهية للأطفال، بينما تغرق منازله بالمياه في فصل الشتاء بسبب منع الأهالي من ترميمها.
اقرأ أيضا: تقرير خطير عن فصول عنصرية الاحتلال تجاه الفلسطينيين ج4
ويشير أبو يوسف إلى أن شرطة الاحتلال تتعمد اقتحام المنازل وتفتيشها بين الحين والآخر؛ حيث تعرض منزله للاقتحام والتخريب أكثر من ١٥ مرة، ويضطر أبناؤه للنوم بملابس العمل في حال تم اقتحام المنزل واعتقالهم، كما أن الجنود يسعون لتخريب وتحطيم المحتويات ضمن حملة ممنهجة تهدف إلى ترحيل الأهالي تحت الضغط المستمر.
وتابع:" ابني عمره ٢٠ عاما ويريد أن يتزوج فحاولت أن أبني له غرفة ومرافقها فوق منزلي ولكن أجبروني على هدمها، والآن سيضطر إلى الاستئجار خارج الحي، وهذا ما يريدونه: ألا يجعلوا أحدا يسكن في الحي ويؤسس عائلته فيه".
إرث تاريخي
حي البستان يعتبر الدرع الواقي للحفاظ على المسجد الأقصى المبارك حيث إنه لا يبعد عنه سوى ٣٠٠ متر جنوبا، ويمتد على مساحة ٧٠ دونما وعدد سكانه ١٥٥٠ نسمة منهم ٦٣٪ أطفال.
ويقول عضو لجنة الدفاع عن الحي وأحد سكانه الناشط فخري أبو دياب لـ عربي21، إن الحي هو أول وقف إسلامي خارج جزيرة العرب؛ حيث أوقفه الخليفة عثمان بن عفان لنسّاك وعباد وزوار الأقصى وفقراء القدس؛ وسمي بحي البستان لأنه عبارة عن أرض مستوية وفيها عين مياه تسمى عين سلوان التاريخية التي تصب في هذا البستان.
البستان هذا كان سلة الغذاء للقدس على مدار مئات السنين، وله أهمية تاريخية وهو يتوسط قلب بلدة سلوان.
وأوضح أن الاحتلال وبسبب موقعه الاستراتيجي ادعى أنه إرث حضاري وتاريخي وديني للشعب اليهودي؛ ولذلك تم تهويد اسمه بالمؤسسات الرسمية الإسرائيلية؛ فأسماه الاحتلال حي "جان ميلخ" أو حديقة الملك بادعاء أن الملك داود قام كما يزعمون بإقامة دولة اليهود الأولى في سلوان قبل ٣ آلاف عام، وأن الحي كان المنطقة التي يجلس فيها ويتشاور مع زوجاته وأعوانه ومستشاريه.
وبناء على ذلك فقد بدأت محاولات محمومة للاحتلال عن طريق بلديته في القدس بالسيطرة على الحي؛ فأصدرت أوامر الهدم والاستيلاء على الأراضي ومصادرتها، وأصدرت قرارا بإزالة أو هدم ١٠٠ منزل بحجة أنها بنيت دون ترخيص؛ علما بأن معظم المنازل بنيت قبل عام ١٩٦٧ وبعضها قبل عام ١٩٤٨.
وأكد أبو دياب أن الاحتلال يريد بناء حديقة تلمودية فوق ركام منازل حي البستان؛ ضمن الحدائق التوراتية التي تحيط بالبلدة القديمة والمسجد الأقصى، فسارع المقدسيون إلى البناء والتواجد فيه لحمايته.
وبعد ذلك قام الأهالي بعدة مسارات نضالية في محاولة للحفاظ على منازلهم؛ منها إقامة خيمة البستان التي هي رمز صمود وتحد لأوامر وسياسات الهدم في القدس عامة وسلوان خاصة، كما أنهم تواصلوا مع الهيئات الدبلوماسية والقناصل والمجتمعات الدولية التي ضغطت على الاحتلال لتجميد الهدم لعدة سنوات، وتوجهوا للمسار القضائي رغم علمهم بأن محاكم الاحتلال لن تنصفهم وأنها جزء من المنظومة الاحتلالية التي تغلف مشاريع الهدم بغلاف قانوني.
وأشار الناشط إلى أنه تم تجميد أوامر الهدم نتيجة هذه الضغوطات لعدة سنوات؛ ولكن في العام الحالي أوقفت المحاكم كل إجراءات تجميد الهدم وتنصلت من كل الاتفاقيات التي تم توقيعها بضمانات دولية وأمام المحامين، ووجد الاحتلال أن هذه فترة ذهبية للانقضاض على القدس وحسم موضوع الأحياء المحيطة بالبلدة القديمة والأقصى؛ حيث إنه يريد أن يبعد هذا الخط الدفاعي الأول عن المسجد لينقض عليه لفرض وقائع تهويدية عليه.
اقرأ أيضا: انتهاكات خطيرة للاحتلال بالأقصى والسماح بصلوات "تلمودية"
بلدية الاحتلال وضمن محاولات تعجيز سكان الحي طالبت الأهالي قبل التوقيع على الاتفاقيات لتجميد الهدم؛ بإعادة رسم مخططات هيكلية وهندسية للحي، وبالفعل فإنهم قاموا بذلك من خلال جهد كبير كلفهم أموالا طائلة؛ وحين استوفوا كل الشروط اللازمة لاستصدار تراخيص رفضتها البلدية دون مبرر.
وتابع أبو دياب: "السكان يعيشون في قلق وتوتر وخوف من مستقبل مجهول؛ وفي ظل التطبيع وتراخي الدعم للقضية الفلسطينية والمقدسات والقدس والأقصى والوضع الدولي والجائحة وما يحدث بالقدس؛ فإن الجرافات ربما كانت في طريقها للهدم؛ وهناك ١٣ منزلا قد تهدم خلال أيام فقط والبقية ربما يقوم الاحتلال بهدمها على فترات حتى لا يثير ضجة إعلامية، ولكن هناك تصد وثبات من الأهالي ولن تكون المنازل لقمة سائغة أمام جرافات الاحتلال".
ويعاني حي البستان من أنفاق الاحتلال التي يحفرها أسفله للوصول إلى أسفل المسجد الأقصى المبارك؛ حيث يوجد ما يسمى "نفق درب الحجاج" الذي يبدأ من بداية حي البستان بالقرب من عين سلوان إلى أسفل حائط البراق وقرب باب المغاربة؛ والذي افتتحه السفير الأمريكي في تل أبيب.
ويعتبر أبو دياب أن هدم المسجد الأقصى يمر من حي البستان؛ ويستغل الاحتلال الأنفاق للترويج لروايات مضللة وأساطير يهودية من خلال طمس تاريخ عربي وإسلامي وروماني والإبقاء على بعض الشواهد التاريخية التي قام بمعالجتها بطريقة ما لتحاكي أساطير وروايات مضللة ليغسل أدمغة الزوار بأن المنطقة تحاكي مملكة داود الأولى والحضارة اليهودية قبل آلاف السنين؛ لإثبات أحقيتهم فيها وتحقيق أهداف سياسية وأيديولوجية.
ومن ضمن أهداف الاحتلال من السيطرة على الحي الالتفاف لإيجاد حزام مستوطنات حول الأقصى والبدء برسم خريطة من المستوطنين لغرسها حول المسجد لتشويه المعالم التاريخية وإخفاء أهم معلم يدلل على هوية القدس الحقيقية والطراز المعماري فيها، كما قام في بداية حي البستان بإقامة متحف توراتي لترويج رواياته المضللة، ووضع فيه كل ما سرقه من الأنفاق ليدعي أنها جزء من حضارة يهودية، بحسب ما يؤكده أبو دياب.