هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: "علم الكلام من العقل الجدلي إلى التجربة العملية عند النّورسي"
الكاتب: د. سالم المساهلي
دار النشر: مجمّع الأطرش لنشر وتوزيع الكتاب المختص، تونس
الطبعة الأولى: 2021
عدد الصفحات: 358
على أهمية التّراث الكلامي الضخم المرتبط بالعقيدة الإسلامية فقد طغى على معظمه النّظر المجرّد، فأخرجَهُ من دائرةِ التّأثيرِ الوجدانِي والتوجيه الاجتماعي إلى مربّعات الجدل والجفاف النظري العقيم، حيث محدودية الآفاق والاغتراب الذّاتي وفقد الانتماء والسكينة والاطمئنان التي سرعان ما تهوي به في متاهات وجوديّة.
وعلاوة على سطوة التجريد والجفاف النظري فإنّ ما قوّض فرص الاستفادة من هذا التراث الكلامي هو تزامن انتشار المدارس الكلاميّة مع مرور العالم الإسلامي بأكثر الفترات ضعفا واضطرابا، حيث تكالبت قوى الاستعمار والهيمنة على أمّةٍ فقدت قدرتها على المواجهة والوقوف بثبات في وجه تلك الهجمة الثقافيّة والحضاريّة، لأسبابٍ ذاتيّة وموضوعيّة أدّت إلى انهيار صرح الخلافة المتهالك سنة 1923.
في خضمّ ذلك السّياق الثّقافيّ والحضاري تحرّك وعيُ الإمام سعيد النُّورسي (12 آذار/ مارس 1876- 23 آذار/ مارس 1960) وهو الذي تضمّخت حياته بسلسلة متلاحقة من المحن والابتلاءات باتّجاه إعادةِ الاعتِبارِ لدورِ العقيدة الإسلاميّة فِي إنقاذ الإنسان المعاصِر من غُربتِه ووجودِه المَضنوك. ولم يكن الدّواء سوى الإيمان الحيّ والعقيدة الصّافية.
ويعدّ النّورسي، المعروف ببديع الزمان النّورسي، من طينة المفكّرين والمصلحين الّذين استجابوا لمطالب عصرهم بقدر كبير من الكفاءة والاقتدار، وبروح عالية وإرادة صلبة وعزم صادق وشجاعة نادرة، كلّفتهم الكثير من التّضحيات لعلّ أهونها السّجون والمنافي والحصار والتّضييق الّذي لم ينفكّ عنه حتّى اللحظات الأخيرة من حياته. وقد عمل جاهدا على "تحويل الاعتقاد في ذهن الإنسان إلى حرارة دافعةٍ للفعل، بما يجعل من التّديّن رؤية عمليّة تقاوم الإحباط والسّلبية، وتشرع بوّابات الأمل وحبّ الحياة، ليتحوّل وجود الكائن البشري إلى حيويّة غائيّة، ينتفي فيها حضوره التسجيلي والاستهلاكي، وتتقلّص دائرة المصادفة والاعتباط والفوضى، كما ينحسر دور الفراغ وتمّحي الرّهبة والإحساس بالعبثيّة".
في هذا الإطار البحثي يتنزّل كتاب الدكتور سالم المساهلي "عِلمُ الكلام من العقل الجدلي إلى التجربة العملية عند النُّورسي" الذي يحفر في رؤية الإمام سعيد النّورسي لـ"إنقاذ الإيمان من التعصّب المذهبي والجفاف النظري والبرود الجدلي والأدبي، باقتراح سبيل تفعيله في الواقع المعيش للنّاس، بما يحرّره من العطالة الثّقافيّة والاجتماعيّة ويخلّصه من السّلبية، فيحرّك الوجدان حرارةً، وينبّه العقل جسارةً، ويحرّر الإنسان جدارةً".
يطرح الكتاب مبحثين رئيسيين: يعالج المبحث الأول مسألة الإيمان وعقيدة التّوحيد، وما تطلّبته من استعراض واف لمقالات الفرق الكلاميّة ونهج علم الكلام ونقده نقدا مركّزا. فيما يقدّم المبحث الثاني رؤية سعيد الإمام سعيد النّورسي لإنقاذ الإيمان من التعصّب المذهبي والجفاف النظري والبرود الجدلي والأدبي، باقتراح سبيل تفعيله في الواقع المعيش للنّاس، بما يحرّره من العطالة الثّقافيّة والاجتماعيّة ويخلّصه من السّلبية، فيحرّك الوجدان حرارةً، وينبّه العقل جسارةً، ويحرّر الإنسان جدارةً.
علم الكلام ركيزَةُ التّصوّر الإسلامِي وأصلُ بناء الاعتِقادِ والتّوحيد
يسمّى علم الكلام بأصول الدين وسمّاه أبو حنيفة بالفقه الأكبر، ويسمّى بعلم النّظر والاستدلال ويسمّى أيضا بعلمِ التّوحيد والصّفات. ووفق ما ورد في "كشاف اصطلاحات الفنون" لمؤلفه محمد علي التّهانوي، فإنّ علم الكلام هو "عِلمٌ يُقتَدَرُ معه على إثباتِ العقائد الدّينيّة على الغَيرِ، بإيراد الحجج ودفعِ الشّبَهِ".
يتبيّن من خلال هذا التّعرِيفِ اتّساعَ مفهوم علم الكلام ومركزيّتَه فِي العلوم والمباحث الإسلامية، إذ هو ركيزَةُ التّصوّر الإسلامِي وأصلُ بناء الاعتِقادِ والتّوحيد. وهو أساس سائر العلوم كما أنّه قاعدة النّظر للأحكام العمليّة بل هو الفقه الأكبر الذي تنبني عليه سائر أحكام الشريعة، ولعلّ تسمية علم الكلام بالفقه الأكبر، وفق تسمية أبِي حنيفة، يرجع إلى تمييز مباحثِهِ عن مباحث الفقه العمليّة والّتِي تُسمَّى بـ"الفقه الأصغَر" فكِلاهما علم أصولٍ إلاّ أنّ علم الكلام يؤسّس النّظر بينما الفقه يؤسّس العمل، ومعنى الفقه هو العِلم وعلم الكلام هو العلم الأكبر لأنّه هو أصل العمل والطّاعة، على حدّ تعبير أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة المنيا المصريّة محمّد صالح محمّد السيّد في كتابه "أصالة علم الكلام".
علم الكلام أداةٌ للمُنافحة العقليّة
لا يعدّ علم الكلامِ مقدّمةً أصوليّة لتأسيسِ الإيمانِ وتأصِيلِهِ لدى المؤمنِين فحسبُ، وإنّما هو أيضًا أداةٌ للمُنافحة عن العقِيدة الإسلاميّةِ ضِدّ خُصومِها ومُحاججتِهم بالأدلّةِ والبراهِينِ العقليّة لإثباتِ صِحّةِ الاعتِقادِ ودحضِ شُبَهِ الخُصومِ والمُعانِدين. وهذا الرّأي يسنُدُه ما ذُكِرَ بمَوسوعَة مُصطلحات علم الكلام الإسلامي لسميح دغيم، حيث وردَ أنّ علم الكلام هو:" بيانُ كيفيّةِ الاستدلالِ على تحصِيلِ عقائدَ صحيحة جازِمةٍ بترتيبِ صحّة الشّرائع عليها، أو الاستدلال على عقائِد وشرائع مخصوصة".
اتّضَح أنّ لِعِلم الكلام إذن وظيفتينِ مُتلازِمَتينِ: أولاهُما ترسيخُ الإيمان بالله وتوحيده في وجدان المؤمِن اقتِناعًا واطمئنانًا قلبِيّا، وثانيتُهما مُواجهةُ تلبِيساتِ المُخالِفِين وما يُلقُونَه من شبهاتٍ بالمُقارَعةِ والمُحاججةِ. ولعلّ هذا الرّأي يؤكّدُ ما ذهب إليه الفارابِي فِي تحديده لمعنى الكلام قائِلا:"وصِناعةُ الكلام ملَكةٌ يقتدِرُ بها الإنسانُ على نُصرَةِ الآراءِ والأفعالِ المحدودةِ الّتِي صرّح بها واضِعُ المِلّة وتزييفُ ما خالَفَها بالأقاوِيلِ".
ساهمت التجربة الفكرية للإمام النّورسي في تغيير النّظرة إلى التّصوّف السّنّي وتبديد ما ران عليه من أفهام قاصِرة، وما شاع حولَه من شبهاتٍ جعلته أقربَ ما يكون إلى الدّروشة. وقدّمت تجربة عملية في كيفية المواءمة بين تعاليم الدّين الحنيف وعقيدته السمحاء وبين متطلّبات اللّحظة التّاريخيّة والواقعيّة التي نعيشها، دون أن نشعُر بارتباكٍ أو قلق.
إنّ ما يُميّز رأي الفارابِي هو أنّ الكلامَ صِناعَةٌ ومَلكَةٌ، أي أنّها استِعدادٌ ذهنِيّ يتطلّبُ دُربَةً ومَهارَةً لا يستَطِيعُها الجَمِيعُ وإنّما القادِرون على التّخصّص فِي هذا العِلم، كما تميّز موقف الفارابِي بكون هذا العلم لا يتوقّفُ عند وظِيفتَيْ ترسيخ الاعتقاد ودفع الشّبهات، وإنّما يتجاوزُ ذلِك إلى تزييفِ أقوالِ المُخالِفين فِي العقِيدة بما يقتدِرُ عليه المُتكلّم مِن الحجج العقلية والأسالِيب الجدليّة. وهذا الرّأي هو ما نصّت عليه دائرة معارف القرن العِشرين بالقول:" الكلام علم يشتمِل على بيان الآراء الّتِي صرّح بها رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم، وإثباتُها بالأدلّة العقليّة، ونُصرتُها، وتزييفُ ما خالَفها".
لا شكّ أنّ هذا العلمَ تطوّر فِي مفهومِه ووظيفتِه، خصوصا بعد ظهور الاختِلافاتِ النّظريّة بين المتكلّمين أنفسِهم، بسبب التّمذهُبِ وتأثيرات الشّأن السّياسي واختِلاط الأجناسِ والثقافاتِ، بعد اتّساع رقعة الدّولة الإسلامية الّذي سمح بدخول أقوام وأجناس جديدة وثقافات متنوّعة فِي دائرة المجتمع الإسلامِيّ. وبهذا نفهم تأثّر هذا المبحث بالمحيط الثقافي والاجتماعي والسّياسيّ الّذي كان سائدًا آنذاك، وكيف أنّ اختِلاف الفِرق في علم الكلام جعلها تفترِقُ فِي تحديد مفهوم العلم نفسِه الأمر الّذي يبيّن المدى الّذي انحدَر إليه الخِلاف والهوّة الّتِي تدحرج فيها، حيث لم يَعُد مواجَهَةً مع الخصُوم الخارجِيّين المُخالِفين للعقيدة الإسلامية وإنّما تحوّل إلى صراعٍ داخِليّ بين المذاهب..
علم الكلام من ضيق التجريد إلى رحابة الواقع
يُبين الكتاب جهود الإمام سعيد النّورسي التّجديديّة والعمليّة لنقل عِلم الكلام من دوائِر النّظر المجرّد وسطحيّته، إلى أرضِ الواقع العملي، ومن المقولاتِ الجافّة إلى حرارة العاطفة وحيويّة الفعل. وقد بدأت هذه الجهود بنقد تركة المتكلّمين القدامى مُجيبا بذلك على أسئلة الإنسان مرافِقا لأشواقِه، محرّرا له من القلق والاغتراب. بعيدا عن تهويمات الفلسفة المثالية، أو دعاة الماديّة المُميتة للرّوح.
لقد سلك النّورسي سبيل الممارسة الواقعيّة والتّجربةِ العمليّة التي تدفع باتّجاه ردّ الاعتبار لإنسانيّة الإنسان وفاعليته في التاريخ، وإعادةِ صِلتِه بخالِقِه، وإنعاش وجدانِه بروحانيّة الأنس بالعالَم بوصفِهِ تجلّيا لإرادةِ الرّحمةِ والعدل والعناية الرّبّانيّة، تكريما للإنسان وإسعادا لوجوده. وكان سعي النّورسي حثيثا من أجل تنزيل الإيمان من التجريدٍ الجدليّ الجافّ والضبابية الملتبسة، إلى اليقظة المستمرّة للبصيرة والضّمير، على نحو يصبح فيه الإيمان طاقةً مبدعة للحياة، ووازعا داخليا رقيبا وملزما للإنسان، فيسهم القانون الأخلاقي بذلك في دعم قيم التعايش بين الناس، لأنه نابع من قناعة تامة، وإرادة حرة.
لَم يعُد ممكنًا اليومَ أن نتحدّث عن العقيدةِ الإسلاميّة بذلِك الأسلوبِ الكلاميّ القديم، الّذي طغى عليه التّجريد والإغلاق، واتّسمَ بالنّخبويّة والجفاف، فإذا هو أشبه ما يكون بالمعادلاتِ الرّياضيّة والحدود المنطقيّة الصّارمة. وإذا كان المتكلّمون السّابقون قد وجدُوا فِي لحظتِهم التّاريخيّة ما يدعوهم لذلِك المنهج، كمجادلة الثقافات الأخرى بلغاتِها، فإنّ واقِعنا اليومَ لم يَعُد يحتمِل تكرارَ نفسِ المقولاتِ، لما يحتاجُه المُسلِمُ اليوم مِن رؤية واضحة ويقين راسخ في عقيدتِه، مع ما يتطلّب ذلِك من قُدرةٍ على تحوِيلها من مستوى النّظر إلى واقع الحياة.
في الحاجة الماسّة إلى علم الكلام العمليّ
يؤكّد المساهلي على الأهميّة البالغة التي أولاها الإمام سعيد النّورسي لعلم الكلام العملي إيمانا منه بدور هذا الأخير في إعادة الاعتبارَ للعقيدة الإسلاميّة ـ بوصفِها مدار القناعةِ العقليّة ومُستندَ السّلوك اليومي ـ بتصفيتها من الشّوائبِ وتحريرِها من الجمودِ النّظري والجفاف المنطقي. كما تكمن أهمية علم الكلام العملي في معالجَة مرضُ النّفوس وجفاف القلوب بفعل الانغماس غير المحسوبِ في مطالب الدّنيا المادّية، وبسبب التّبعيّة العمياء للفلسفات الوافدة.
في ذات السّياق يرى المساهلي في علم الكلام العملي أهمية بالغة لكونه يردُّ إلى معنى الإيمان حرارتَهُ في القلوبِ والعقول، ويُحيي وهجهُ في المشاعر والسّلوك، ويحوّلُه إلى دافعيّة وحافزٍ من أجل المبادرة والفعل التّعميري والحضاري. كما أنّه ينهضُ بالواقع الثقافي والاجتماعي، ويقاومُ المسخَ والإلحاقَ والتّقليد الّذي تفرضُه الثقافات المغايِرة، فيحصّنُ معانِي الهويّة من كلّ ذوبان.
ثراء التجربة الفكريّة للإمام النّورسي
يخلص الدكتور سالم المساهلي، وهو المشتغل على قضايا الفكر الإسلامي قديمها وحديثها، في نهاية هذا الكتاب إلى وسم التّجربة الفكريّة للإمام سعيد النّورسي بالتجربة الخصبة والحيويّة. مُثمّنا عُمقها المعرفي وإحاطتها الواعية بحقائق الدّين، وعنايتها منقطعة النّظير بما يحتاجُه المسلمون اليوم وما تكتنِزُه من آفاقٍ معرفيّة وعمليّة رحبة، وذلِك في مجالاتٍ كثيرة منها ما يتعلّق بكيفية جسرُ الهوّة بين النّظر والتّطبيق في مسألةِ عِلم الكلام وسبل تحويل الحقيقةِ التّوحيديّة إلى طاقةٍ فعّالة مُغيّرة للإنسان والواقع.
ساهمت التجربة الفكرية للإمام النّورسي في تغيير النّظرة إلى التّصوّف السّنّي وتبديد ما ران عليه من أفهام قاصِرة، وما شاع حولَه من شبهاتٍ جعلته أقربَ ما يكون إلى الدّروشة. وقدّمت تجربة عملية في كيفية المواءمة بين تعاليم الدّين الحنيف وعقيدته السمحاء وبين متطلّبات اللّحظة التّاريخيّة والواقعيّة التي نعيشها، دون أن نشعُر بارتباكٍ أو قلق. كما ساهمت مدوّنة النورسي رسائل النّور والّتي تعدّ 5392 صفحة في رسم منهاج تربوي في تغيير النّفس والمجتمع، من خلالِ استِثمارِه للقرآن في إحياءِ حقيقة الإيمان وإضاءة دروبِ الفعل الثقافي والحضاري.