هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ما بين أنظمة عربية منتشية بانبطاحها للكيان الصهيوني، وأنظمة عربية تفتخر بسلامها الدافئ معه، وأنظمة عربية ترفع شعار الممانعة لتقتل شعوبها بضمير مرتاح، وأنظمة عربية تصرخ بمعاداة إسرائيل ثم تقيل مندوبها الدائم لدى الأمم المتحدة لأنه انتقد إسرائيل هناك... ما بين تلك الأنظمة كلها ربما يضطر العرب إلى البحث عن ضميرهم الإنساني في ساحة الفن والإبداع.
في مفاجأة ليلية سارة، أعلنت الأكاديمية البريطانية للأفلام (بافتا) فوز الفيلم الفلسطيني "الهدية" بجائزتها لأفضل فيلم روائي قصير. الفيلم من إخراج المخرجة الفلسطينية البريطانية فرح نابلسي التي شاركت هند شوفاني في كتابته، وكانت بطولته من نصيب صالح بكري والطفلة مريم كنج ومريم باشا.
عُرض الفيلم لأول مرة في مهرجان كليرمون فيران الدولي للفيلم القصير سنة 2020، وفاز بجائزة الجمهور لأفضل فيلم. كما فاز بجوائز في كل من: مهرجان كليفلاند السينمائي الدولي، ومهرجان بروكلين السينمائي، ومهرجان بالم سبرينغز الدولي للأفلام القصيرة. ثم توج الفيلم مسيرته بالترشح لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم قصير، وكذلك الترشح لجائزة البافتا التي اقتنصها فجر الحادي عشر من إبريل 2021.
فاجأني الفيلم رغم حذري من الأفلام التي تنحاز إلى مبادئنا وقضايانا السياسية أو الإنسانية، مما يوقعنا في فخ الانحياز إلى ما يوافق هوانا، لا ما يوافق قيم الإبداع الفني. لذا سأبدأ من هنا تحديدا؛ أعني: من القدرة على إحداث التأثير النفسي القوي دون الوقوع في فخ الخطابة والزعيق، ودون التصوير الفج للشر المطلق المواجه للخير المطلق، وبلا مبالغات ولا قفزات غير منطقية في السيناريو.
قصة الفيلم بسيطة. زوجان فلسطينيان شابان من الضفة الغربية، يقضيان يوما خاصا، هو عيد زواجهما، مع طفلتهما. يصحو الأب قرب الحاجز 300، حيث رابط منذ الليل ليستطيع الحصول على تصريح المرور عبر الحاجز المعروف بقسوة جنوده وتعنتهم، عند المدخل الشمالي لمدينة بيت لحم. يريد الزوج أن يحتفل بشراء ثلاجة هدية لزوجته، فيذهب مع طفلته للتسوق. يضطران إلى عبور الحاجز ضمن صفوف طويلة مكدسة، تنتهي بأوامر جافة من جنود الحاجز للأب بخلع معطفه وحزامه وتسليمهم كل شيء لتفتيشه. وعلى نحو مهين يُترك الأب وطفلته منتظرين على الأرض، ليكتشف الأب بعدها أن طفلته تبولت في ملابسها.
النقلة الأخرى تحدث عند عودتهما بالثلاجة وما واجههاه عند الحاجز من تعنت وإيذاء، بسبب تطاول الجنود ورفض قائدهم عبور الثلاجة بسبب حجمها الذي يفوق حجم بوابة التفتيش. ومع توتر الموقف وارتفاع الزعيق الغاضب المتبادل، تنطلق الطفلة دافعةً الثلاجة على العربة اليدوية من البوابة المخصصة للإسرائيليين، دون أن تتوسل العبور مثلما صنع أبوها؛ وهو التصرف الذي أعجز الجنود عن منعها أو التعرض لها.
ذكرت التفاصيل السابقة لأتكئ عليها في شرح رأيي في الفيلم. وهنا لا بد من العطف على ما أسلفته من الإشادة بعمق الاستعارة الفنية وبعدها عن الطرح الزاعق، ذي الطبيعة الشعاراتية المباشرة. تَبَوَّلُ طفلة مرتبكة في ملابسها، حيث ترى أباها يُهان أمامها، في نهار شتوي بارد.. تبوّلها هذا استعارة رقيقة لاذعة. يمكننا أن نكتب بوستات أو مقالات غاضبة تلعن الانبطاح العربي أمام إسرائيل، أو تذكر الناس بجرائمها، لكن مشهدا كهذا يقول أكثر وأقوى مما يقوله أي خطاب سياسي مباشر.
في المشهد التالي، حين ركب الأب الباص، وحضن طفلته بلا تكلف، فظهرت بعض دموع في عينيه بينما يحدق عبر النافذة في الفراغ.. كدت أبكي، ليس بسبب قتل دموي ولا صراخ ولا أشلاء.. بل بسبب الحمولة الهائلة لتلك اللقطة القصيرة؛ لنظرة أب اصطحب ابنته لشراء هدية فهزمه ضعفها وهشاشتها الطفولية.
ولعلي لا أبالغ إذا قلت إن هذا المشهد يخلق توازنا بليغا مع مشهد النهاية العنيف، حيث يوترنا زعيق الأب المتألم ورشاشات الجنود المصوبة نحوه، ثم تنفجر الطفلة بعبورها المفاجئ الحاسم.
ذلك القهر، إذن، هو كفة الميزان الأخرى، التي توازن رد الفعل هذا. وقد أزعم أنه لولا هذا القهر والتلذذ بممارسة السلطة الغاشمة، لبدت لي تلك النهاية مفتعلة أو دعائية، ولكنت فكرتُ: كيف تجرؤ طفلة خائفة على تحدي جنود مدججين؟ لكن إذلالها في البداية قدّم الدافع لغضبها الطفولي. نعم تستطيع طفلة أن تغضب هذا الغضب كله بعد الفضيحة التي عذّبتها طوال رحلة كان ينبغي أن تكون ممتعة، مفعمة بالفرح!
قيمة الصدق الفني، غير الدعائي، مهمة في تقديري. فالفلسطينيون بشر. ثمة فلسطينيون عاديون جدا: بائعة فلسطينية في السوبر ماركت غير مبالية بآلام الظهر التي يقاسيها الأب، وعمال فلسطينيون يتسلقون السور الحديدي ليتجاوزوا الحاجز أسرع ممن وصلوا قبلهم. حتى الجنود الإسرائيليون، انحاز أحدهم لحق الأب في العبور بثلاجته، وجادل رئيسه ليقنعه بالسماح له بالعبور. ثمة تفاصيل بسيطة وحميمة كعلبة اللبن التي تغيرت رائحتها قبل أن تستخدمها الزوجة في البيت.. وهكذا، لا مواقف مفتعلة ولا أحداث غير مبررة.
صُوّرت المشاهد في أجواء مظلمة، قاتمة. حتى مشاهد الفجر المنبلج تبدو موحشة في حضور الحاجز الثقيل. لا إشراق، لا نور، لا شمس مضيئة. هذا فجر حالك السواد. لم أرتح لمشهد المطر في طريق عودة الأب وطفلته، لأنه لم يكن بمستوى العناية بالتفاصيل كسائر المشاهد. بدا لي ضعيفا، مصطنعا، كأن شخصا وقف ينثر بعض الماء فوقهما بينما خلفيتهما ناشفة بوضوح. بدت لي مائدة الإفطار أيضا كموائد المطاعم أو كصور الإعلانات على الفيس بوك، ذات الألوان القوية والامتلاء الذي لا نألفه على موائد الفقراء.
صفعني الفيلم؛ ملأني إحساسا بقسوة ما نعايشه من انبطاح فج أمام كيان غاشم، يتفنن جنوده في إذلال أب مريض أمام طفلته. على مواقع التواصل الاجتماعي وفي النشرات نقرأ مقدارا هائلا من الأكاذيب عن السلام العربي الإسرائيلي، نطالع صورا لمواطنين خليجيين يشعلون شموعا مع مستوطنين صهاينة احتفالا بمناسبات لم نسمع بها من قبل. تملأ آذاننا خطب وتصريحات عن عظمة السلام والحب بين الشعوب... كاد هذا الزيف الطافح ينسينا حقائق بديهية لا لبس فيها: لا خير في كيان عنصري قائم على الاحتلال والتمييز بين البشر بسبب دينهم. لا فائدة من بشر يرون أنفسهم شعب الله المختار، لا يستطيع هؤلاء أن يكونوا أصدقاء حقيقيين لأحد.
في دقائق معدودة (24 دقيقة) أعادني الفيلم إلى حقائق الحياة، التي تقاتل أنظمة عربية كاملة في سبيل طمسها. لاإراديا، فكرت في رجل الأعمال العربي الذي دفع 50 مليون دولار لشراء حصة من نادي بيتار القدس، الإسرائيلي، الذي يحرض جمهوره على العنف ضد الفلسطينيين، ويحتقر العرب حتى إنه يشغب كلما انضم لاعبون عرب أو أجانب إذا كانوا مسلمين.
ما الذي أحبه رجل الأعمال في هذا النادي ليدعمه بعشرات الملايين، بينما يكابد شباب فلسطين يوميا حتى يعبروا حواجز كثيرة، ليستطيع الإنسان منهم شراء ثلاجة لزوجته في ذكرى زواجهما؟
تلك هي المسألة.