هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في السادس من نيسان (أبريل) من عام 2019 بلغ الحراك الشعبي الرافض لنظام الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير ذروته، باقتحام مئات الآلاف من المتظاهرين الساحة المحيطة بالقيادة العامة للقوات المسلحة والاعتصام فيها، وهم ينشدون انحياز الجيش الوطني لقضيتهم، ولم يكن اختيار ذلك اليوم عبثيا، بل كان لرمزيته، ففي مثل ذلك اليوم من عام 1985 سقط نظام الديكتاتور جعفر نميري رسميا.
ثم في اليوم الخامس من الاعتصام ظهر النائب الأول لعمر البشير الفريق أول عوض بن عوف معلنا خلع البشير، وأطلق الملايين صرخات الفرح والانتصار ولكن لثوان معدودة، إذ نصب ابن عوف نفسه خلفا للبشير وشكل مجلسا عسكريا عاليا لإدارة شؤون البلاد، فتحول الفرح إلى عويل، ثم إلى غضب عارم أرغم ابن عوف على الاستقالة والهرب إلى مصر، وحل محله الفريق أول عبد الفتاح البرهان وزمرة من الجنرالات الذين سعوا حتى آب (أغسطس) من ذلك العام لتجيير الثورة لصالح طموحات فردية.
في السادس من نيسان (أبريل) من عام 2020 ثم العام الجاري خرج الآلاف إلى شوارع الخرطوم للاحتفال بذكرى موكب 6 أبريل من عام 2019 دون الاكتراث لمخاطر الكورونا، ولكن لم يحدث قط أن احتفى فرد أو مجموعة بذكرى يوم خلع البشير (11 نيسان/ أبريل 2019)، وهي رسالة لم يستوعبها عسكر السلطة في السودان إلى يومنا هذا، ومؤدى الرسالة: خلع البشير تزامن مع تسلل العسكر ربائب البشير إلى السلطة، ومحاولتهم إجهاض الحراك الشعبي بعد اختطاف ثماره، وبالتالي فهو يوم خصمٌ على الثورة.
وتوافق اليوم الثالث من حزيران (يونيو) من عام 2019 مع التاسع والعشرين من رمضان من تلك السنة، وكان اعتصام الرافضين لحكم البشير وانتقال السلطة إلى البرهان ورفاقه من العسكريين مستمرا أمام مبنى القيادة العامة للجيش، وفي فجر ذلك اليوم أحاط مئات العسكريين وفق خطة محكمة بالمعتصمين وأمطروهم بالذخائر الحية، وقتل على الفور أكثر من 120 من المعتصمين، وما زال هناك العديد من المفقودين الذين، ولا شك مطلقا، في أنهم في عداد الموتى لأنه تم اكتشاف العديد من جثث ضحايا مجزرة الاعتصام وهي طافية في نهر النيل وبعضها مثل بكتل صخرية مما يعني أن من كانت الصخور المربوطة بجثامينهم ثقيلة الوزن صاروا طعاما للأسماك.
يقترن نيسان (أبريل) وحزيران (يونيو) ورمضان في الذاكرة السودانية بالوجع والأمل المُجهض، خاصة والتحرك للاقتصاص لضحايا مجزرة القيادة العامة ما زال بطيئا، بل إن اللجنة المكلفة بتلك المهمة لم تستجوب بعد الجنرالات الجالسين في قصر الرئاسة كأعضاء في مجلس السيادة (رئاسة الدولة)
خلال الفترة التي أعقبت الإعلان الرسمي عن سقوط حكم البشير (11 نيسان/ أبريل 2019) وحتى آب (أغسطس) من تلك السنة ظل الحكم في السودان في يد البرهان وكبار مساعديه من جنرالات الجيش، أي أن تلك المجزرة حدثت وهم وحدهم القابضون على زمام أمور الحكم، ولأن الصُّدف وحدها أوصلتهم إلى تلك المكانة ـ لأنهم لم يخططوا للانقلاب على البشير من تلقاء أنفسهم، بل أدركوا استحالة استمراره في الحكم بعد خروج الملايين على مدى أربعة أشهر بلا انقطاع إلى الشوارع للمطالبة برحيله غير آبهين للرصاص والغاز البذيء الذي يخترق العيون والرئات، فكان أن اغتنموا الفرصة، وهم يدركون أنه لو آلت الأمور كليا إلى القوى المدنية التي نظمت الحراك الشعبي، فإن كثيرين منهم قد ينتهون إلى السجون بوصفهم جزءا أصيلا من نظام حكم كانوا حراسه وسدنته.
وهكذا يقترن نيسان (أبريل) وحزيران (يونيو) ورمضان في الذاكرة السودانية بالوجع والأمل المُجهض، خاصة والتحرك للاقتصاص لضحايا مجزرة القيادة العامة ما زال بطيئا، بل إن اللجنة المكلفة بتلك المهمة لم تستجوب بعد الجنرالات الجالسين في قصر الرئاسة كأعضاء في مجلس السيادة (رئاسة الدولة)، رغم أن عضو المجلس شمس الدين كباشي قالها صريحة إن كبار القادة العسكريين اجتمعوا وقرروا فض الاعتصام، و"حَدَس ما حدسْ"، ويعني بذلك "حدث ما حدث"، ويبدو أنه من فرط تهذيبه لا يخرج لسانه لنطق حرف الثاء، وعزّ عليه أن يصف الحادثة بالمأساوية، وكاد المريب أن يقول خذوني.
الجنرالات الذين تسللوا إلى دهاليز السلطة في السودان باتوا يدركون أنهم بلا سند شعبي، ولهذا لم تواتِ أيّاً منهم الجرأة لمخاطبة "الجماهير" في أي شأن عام، بل أنشأوا كتيبة إلكترونية مهمتها رصد كل ما يكتب عنهم في الوسائط الإلكترونية، ومقاضاة كل من "يتطاول" عليهم، وبما أن ذلك التطاول يمارس على مدار الساعة، فقد صاروا يكتفون باستهداف من يذمونهم في المنابر الإعلامية العلنية، وقبل أيام قليلة اعتلى الفريق ياسر العطا عضو المجلس السيادي منصة عامة في مدينة عطبرة ليخاطب الجماهير بمناسبة الاحتفال بافتتاح قناة فضائية في المدينة، فعلا الهتاف: يا عسكر ما في حصانة يا المشنقة يا الزنزانة، واضطر الرجل الذي ياما تنمّر على شباب الثورة أن يغادر المنصة خاسئا حسيرا، وكانت الرسالة واضحة: يا عسكر أنتم في خندق أعداء الثورة ولا بد من تعريضكم للحساب طال الزمن أم قصر.