قبل الخوض في أي تفاصيل، لا بد من إثبات شديد الغضب من كل الأطراف التي كانت داخل اعتصامي رابعة والنهضة، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين باعتبارها أكبر التنظيمات عددا وأكثرها تنظيما، والتي تركت الرواية الوحيدة المتكاملة عن
فض اعتصام رابعة تخرج من الجهة التي قامت بالمذبحة؛ فتحدث المجرمون عن كل لحظة من السادسة صباحا وحتى إحكام السيطرة على الميدان، وزعموا من ضمن ما زعموا أنهم تلقوا الضربات النارية، وبدأوا في ضرب الرصاص الحي الساعة 11 صباحا عندما سقط أحد الضباط وهو يطالب المعتصمين بإخلاء الميدان عبر مكبر للصوت، رغم أنني أعرف بشكل شخصي الشاب الطيب الصالح مالك الشيمي الذي ارتقى في اللحظات الأولى من فض الاعتصام.
هذه التنظيمات لديها قدرة كاملة على توفير بيانات أفرادها الذين سقطوا، وأين سقطوا داخل الاعتصام، وعدد الرصاصات القاتلة، ومن أين دخلت الرصاصة ومن أين خرجت أو أين استقرت؛ نظرا لتشابك العلاقات الداخلية، كما أعرف أن مالك الشيمي ارتقى قرابة الساعة السابعة صباحا أمام طيبة مول، برصاصة من "مكان مرتفع"، دخلت من تحت ضلوعه وخرجت من الناحية الأخرى من جسده، ورفض أهله تشريح جثمانه الطيب، ليوارى الثرى وينتقل أبوه بعده بأشهر قليلة إلى جوار ربه كمدا على ابنه الذي أحبه كل من رآه فقط وإن لم يعرفْه.
هذه التنظيمات لديها قدرة كاملة على توفير بيانات أفرادها الذين سقطوا، وأين سقطوا داخل الاعتصام، وعدد الرصاصات القاتلة، ومن أين دخلت الرصاصة ومن أين خرجت أو أين استقرت؛ نظرا لتشابك العلاقات الداخلية
سأعتمد هنا على بيان وزارة الداخلية، وتقرير لجنة تقصي الحقائق من المجلس القومي لحقوق الإنسان، في آذار/ مارس 2014، وهو التقرير الذي انحاز بوضوح لرواية أركان الانقلاب العسكري، وتشكّلت اللجنة بقرار من الرئيس المؤقت حينها عدلي منصور.
ألقى وزير الداخلية وقت فض الاعتصام، اللواء محمد إبراهيم، بيانا مساء يوم 14 آب/ أغسطس بعد إحكام السيطرة على ميداني رابعة العدوية والنهضة، وجاء نصه كالآتي: "وقد نجحت القوات التي تعاملت مع الموقف بأعلى قدر من المهنية والاحترافية في فض اعتصام النهضة دون خسائر، وإحكام السيطرة على المنطقة تماماً، وضبط عدد كبير من مثيري الشغب وحائزي الأسلحة النارية التي بلغت عدد 10 بنادق آلية، عدد 29 بندقية خرطوش، عدد 9622 طلقة حية، عدد 6 قنبلة يدوية، عدد 5 كبّاس خرطوش، عدد 55 زجاجة مولوتوف، وكميات من الصداري الواقية والأجهزة اللاسلكية، وكميات كبيرة من الأسلحة البيضاء وأدوات الشغب.
وفي ميدان رابعة العدوية تحصن عدد من المعتصمين من العناصر الإرهابية ببعض المباني المرتفعة، وأطلقوا النيران بكثافة عالية من أسلحة ثقيلة وآلية وخرطوش على القوات التي كانت حريصة على عدم إزهاق أرواح المعتصمين.
وأصدرتُ توجيهاتي بالصبر وإطالة فترة الحصار مع تضييق الطوق الأمني وتعامل رجال العمليات الخاصة البواسل مع مصادر إطلاق النيران، وتمكنوا من اقتحام المباني التي يتحصن بها العناصر، حيث تم ضبطهم وما بحوزتهم من أسلحة، وإحكام السيطرة على الميدان وتأمين خروج المعتصمين منه، وضبط سيارتيْ البث الإذاعي والعديد من الأسلحة والمضبوطات عبارة عن عدد 9 سلاح آلي، طبنجة، عدد 5 فرد محلي، كميات كبيرة من الطلقات، كميات من الصداري الواقية والأسلحة البيضاء وأدوات الشغب. وجار تمشيط المنطقة والمباني المحيطة بها".
إذاً وفقا للرواية الرسمية، من الجهة التي قامت بالانقلاب ولديها خصومة شديدة تجاه المعتصمين لدرجة القتل، وهذه الأوصاف الثلاثة (الرسمية، قامت بالانقلاب، خصومتها شديدة) مهمة وليست اعتباطية. وفقا لتلك الرواية، فإنهم وجدوا في ميدان النهضة 10 بنادق آلية، و29 بندقية خرطوش، و6 قنابل يدوية، ووفقا لوزارة الصحة في الخبر المنشور من صحيفة
المصري اليوم مساء 15 آب/ أغسطس 2013، فإن عدد القتلى في ميدان النهضة ومحيطه بلغ 88 مدنيا، وضابطيْن، أما في ميدان رابعة فقد وجدوا 9 بنادق آلية، ومسدسا، و5 قطع من سلاح يشبه الخرطوش. وقُتل في ذلك اليوم وفقا لتقرير المجلس القومي لحقوق الإنسان، وهو التقرير الذي استند إلى بيانات وزارة الصحة المصرية، فقد قُتل بالرصاص الحي 624 مدنيا، و8 ضباط شرطة، ووفقا لبيان محمد إبراهيم، فقد هُوجمت القوات بأسلحة ثقيلة بخلاف الأسلحة المضبوطة، ولا يعلم أحد كيف خرجت الأسلحة الثقيلة من ميدان محاصر.
وفقا لتلك الأرقام الرسمية "المشكوك في صحتها"، فإن القوات الأمنية "المدرّبَة" قامت بقتل 712 شخصا، مع أن الأسلحة التي تطلق الرصاص الحي وتم ضبطها كانت 20 سلاحا فقط (19 بندقية آلية ومسدس)، أي قُتل 35 شخصا أمام كل سلاح مُستخدم، وهذا دليل على عدم التناسب في استخدام القوة
وفقا لتلك الأرقام الرسمية "المشكوك في صحتها"، فإن القوات الأمنية "المدرّبَة" قامت بقتل 712 شخصا، مع أن الأسلحة التي تطلق الرصاص الحي وتم ضبطها كانت 20 سلاحا فقط (19 بندقية آلية ومسدس)، أي قُتل 35 شخصا أمام كل سلاح مُستخدم، وهذا دليل على عدم التناسب في استخدام القوة، ودليل على النية المبيّتة لإحداث مجزرة دموية، ودليل على الشحن البغيض الذي قامت به المؤسستين الأمنية والعسكرية لأفرادها ليقوموا بالقتل بـ"غِلٍّ" ملحوظ، ودليل على عدم مهنية القوات التي قابلت العدد المحدود من الأسلحة بقتل عشوائي دون تضييق لنطاق تحييد حاملي الأسلحة، ودليل على عدم أمانة جهة الحكم الجديدة للوطن بزرعهم الشِّقاق بين أفراده، ودليل على تغير عقيدة المؤسسة العسكرية من جهة تحمي الحدود إلى جهة أصبحت طرفا في العمل السياسي، ودليل على أن قائد الانقلاب العسكري شخص دموي وإن تخفّى وراء حفيف صوته وتصنّعه الأدب.
أمام هذه الرواية الرسمية نجد تقريرا جِدّيا نشرته منظمة "هيومن رايتس ووتش"، بعد عام من المذبحة، جاء فيه: "وثقت هيومن رايتس ووتش وفاة 817 متظاهرا في فض رابعة وحده. كما راجعت هيومن رايتس ووتش أدلة على حدوث 246 وفاة إضافية،
وثّقها ناجون ومنظمات من المجتمع المدني. وترجّح هذه الأدلة، إضافة إلى تقارير ذات مصداقية عن جثث إضافية تم نقلها مباشرة إلى المستشفيات والمشارح دون تسجيلها على نحو دقيق أو تحديد هويتها، واستمرار اختفاء متظاهرين من رابعة، كلها ترجح احتمالية مقتل ما يفوق الألف متظاهر في رابعة وحدها".
ونقلت المنظمة في التقرير كلاما خطيرا عن من وصفته بـ"أحد المدافعين عن حقوق الإنسان"، وذكر أن مسؤولي وزارة الداخلية اجتمعوا بمنظمات حقوقية قبل الفض بتسعة أيام، "وكشفوا عن توقعهم لحصيلة وفيات تبلغ 3500".
مجزرة رابعة ستظل شاهدة على أكبر الانحرافات في تاريخ مصر المعاصر، وشاهدة على دموية مرتكبيها، وداعميهم الإقليميين خاصة في الإمارات والسعودية وبالطبع إسرائيل، وستظل شاهدة على الانحطاط الغربي وازدواجيته في التعامل مع المنطقة عموما، والإسلاميين تحديدا
إن
مجزرة رابعة ستظل شاهدة على أكبر الانحرافات في تاريخ مصر المعاصر، وشاهدة على دموية مرتكبيها، وداعميهم الإقليميين خاصة في الإمارات والسعودية وبالطبع إسرائيل، وستظل شاهدة على الانحطاط الغربي وازدواجيته في التعامل مع المنطقة عموما، والإسلاميين تحديدا، كما ستظل شاهدة على ضعف القدرات الذهنية لقيادات أكبر التنظيمات الدينية في العالم كله.. الذين أهدروا تاريخا امتد لتسعة عقود، بسوء نفوسهم وحُمق إدارتهم، وكل هذه الحقائق لن تمحوها
المسلسلات أو الزيف الذي يسعى إليه نظام الجنرال الدموي، ولن يمحوها تقاعس إدارة الإخوان أو تواطؤهم في عدم
توثيق ما جرى.
رحم الله أبناء رابعة والنهضة وكل أبناء الوطن في معركة الحرية، وفرّج عن كل مكروب ومطارد ومعتقل، وأعان كل من تضررت نفسه وروحه من تلك المجزرة وما لحقها، فأصبح ضيفا على الأطباء النفسيين الذين لا يجدون ما يعينهم على إصلاح ما أفسدته المجزرة.