هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
دخل التدين منذ فترة طويلة حقل الدراسات الاجتماعية، وتحقق تراكم مهم في تطوير المؤشرات التي تدرس بها اتجاهات وتوجهات التدين، واشتغلت العديد من الدراسات الاجتماعية في بلورة نمط لدراسة المستويات الأربعة لهذا التدين، المعرفية والعقدية والتعبدية والسلوكية.
يسائل في المستوى الأول منسوب المعرفة التي حصلها المتدين حول دينه، ويطرح في الثاني موقفه من عناصر متعددة من المعتقد (الإيمان بالله، بالكتب، بالرسل، بالملائكة، باليوم الآخر، بالملائكة، بالجن، بالسحر.....)، ويحاول ضبط الالتزام التعبدي من عدمه وقياس نسبة الانتظام والوتيرة بالنسبة للصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة، وغيرها من التعبدات التي يراد منها معرفة ودراسة مستوى الالتزام بها، فيما يتوجه السؤال في المستوى الرابع، لقياس نسبة الالتزام بالدين في إنتاج المواقف والسلوكات حيال العديد من القضايا (العلاقات غير الشرعية، شرب الخمر، الشذوذ الجنسي.....)، فضلا عن قياس علاقة الدين بالسياسة، ورؤية المتدين لطبيعة العلاقة بين الدين والسياسة، ومدى تدخل الدين في تكييف القضايا السياسية سواء من خلال الموقف من الشريعة وطرق تأويلها، أو من خلال تحديد الموقف من إسلامية القوانين، وضرورة أو عدم ضرورة أن يتأطر الدستور بهذا المقتضى، أو تعلق الموقف بحجم تأثير الدين في المجال العام.
وإذا كانت هذه الأنماط شديدة الارتباط ببيئتها وخلفيتها الفلسفية ـ إن لم نقل العلمانية ـ في القضايا المرتبطة بمستوى العقائد والممارسات، فإن المستوى التعبدي الذي يعنى أساسا بضبط الالتزام التعبدي من عدمه، وقياس نسبة الالتزام والانتظام في العبادة، لا يثير التساؤل إلا من جهة الطريقة التي يلجأ إليها لمعرفة كيفية الالتزام من عدمه وكيفية ضبط منسوب الانتظام التعبدي.
ومن القضايا الإشكالية التي تثار بالنسبة إلى هذه الأنماط البحثية في دراسة التدين، قياس نسبة التعبد في رمضان، وهل تكفي المؤشرات المستخصلة من استمزاجات الرأي، أم إن الحاجة تفرض اللجوء إلى مؤشرات أخرى، تسمح باستخلاص نتائج أكثر موثوقية من التي يتم استخلاصها عبر استمزاجات الرأي؟ فقد جرت العادة في الأنماط البحثية التي يتم اعتمادها في دراسة حالة التدين في شهر رمضان أن يتم توجيه سؤال يتعلق بالسلوك التعبدي الإيجابي أو السلبي، أي الصيام من عدمه، بخلاف الصلاة التي يتم فيها تنويع الأسئلة، لبحث طريقة أداء الصلاة جماعة أو في البيت، وانتظام وتيرة الصلاة، وصلاة الجمعة، فضلا عن صلوات أخرى غير مفروضة؟ فهل يعود الأمر لخصوصية الصيام كعبادة؟ أم إنه يعود لطبيعة الرؤية المعرفية والخلفية العلمانية التي تؤطر مثل هذه الأنماط البحثية؟ أم إنه يعود لصعوبات إجرائية مرتبطة بعملية القياس؟
في نقد مؤشرات الصيام لدى الأنماط البحثية الدارسة
يقدم بيو، وهو أوسع الاستطلاعات العالمية التي تجرى حول التدين في العالم، معطيات جد محدودة عن مؤشرات الصيام. ففي استطلاع الرأي الموسوم (العالم الإسلامي: الوحدة والتعدد) الذي تم إنجازه سنة 2012، لم يتجاوز المؤشر المرتبط بالصيام سؤال الصيام في رمضان من عدمه، كما أنه لم يتجاوز مؤشر الزكاة سؤال أداء الزكاة من عدمه، وحاول هذا الاستطلاع توسيع البحث الاجتماعي في المستوى التعبدي لتقديم معطيات إضافية عن الحياة الدينية في العالم العربي، فحاول رصد مؤشر وتيرة قراءة القرآن في السبع الدول المدروسة.
أما استطلاع بيو الموسوم بـ"العالم الإسلامي: الدين والسياسة والمجتمع"، الذي تم إنجازه سنة 2013، فقد أدرج السؤال ذاته الذي تم قياسه في الاستطلاع السابق، واكتفى ببعض الأسئلة المتعلقة بمستوى المعرفة بالإسلام، ووتيرة أداء الصلاة (الانتظام من عدمه).
في حين لم يتجاوز المسح العالمي للقيم الذي تجري موجاته المتباينة كل سنة منذ سنة 2010، فقد طرح بعض الأسئلة الرصدية لمستوى المعتقد (الإيمان بالله وباليوم الآخر وبالملائكة...) وتناول ضمن مستوى التعبد مؤشر أداء الصلاة وحاول رصد نسبة حضور الأنشطة الدينية.
في حين اهتمت استطلاعات غالوب بسؤال أهمية الدين في الحياة اليومية، وحاول مناقشة قضايا تدخل في صميم الحياة الدينية، مثل علاقة المسلمين بالغرب، وقضايا التسامح والعنف والتطرف وغيرها.
وتعتمد أغلب الاستطلاعات الأسلوب نفسه، ويفسر ذلك بكونها ليست منشغلة ببحث التدين ومستواه في شهر رمضان، بقدر ما هي منشغلة بسؤال بحث أهمية الدين في حياة الناس وعقد مقارنات بين الدول الإسلامية لمعرفة أيها أكثر اهتماما بالدين وأيها يحظى فيها الدين بتأثير في المجال العام السياسي والاجتماعي، كما هي منشغلة بسؤال أثر الدين في صياغة المواقف تجاه السياسة، وتجاه العلاقة مع الغرب، وتجاه قضايا يتم تصنيفها ضمن المنظومة الغربية ضمن الحريات الفردية أو في دائرة التسامح أو التطرف والكراهية.
دخل التدين منذ فترة طويلة حقل الدراسات الاجتماعية، وتحقق تراكم مهم في تطوير المؤشرات التي تدرس بها اتجاهات وتوجهات التدين، واشتغلت العديد من الدراسات الاجتماعية في بلورة نمط لدراسة المستويات الأربع لهذا التدين، المعرفية والعقدية والتعبدية والسلوكية.
ومما ينتقد على مؤشرات الصيام في هذه الأنماط البحثية للتدين، كونها تعنى بسؤال الأداء، لمعرفة نسبة الملزمين بالصيام ونسبة غير الملزمين، وهو سؤال تقليدي، يعكس الخلفية الغربية، التي تعنى فقط بسؤال رصد مستوى التدين بمؤشر أداء أركان الإسلام التعبدية، في حين، لا تعنى مطلقا بحالة التدين في شهر رمضان، في مختلف تعبيراتها التعبدية والاجتماعية والسلوكية، إذ لا تعنى هذه الاستطلاعات بسؤال نسبة الإقبال على الصلاة في شهر رمضان ومقارنة ذلك ببقية الشهور، بل لا تعنى بالمطلق بسؤال نسبة الانتظام في صلاة الجماعة في شهر رمضان في سياق مقارن، فضلا عن الاهتمام بصلاة التراويح، وما يرتبط برمضان من أعمال خيرية ذات وظيفة تكافلية واجتماعية، بل لا تهتم بالمطلق بتحول وتائر التدين في شهر رمضان بالمقارنة مع الأشهر الأخرى، لاسيما ما يرتبط بقراءة القرآن والإقبال على صلاة الجماعة والجمعة وصلاة التراويح، ولا تدخل في الاعتبار دراسة وتيرة الزيارات العائلية في رمضان، وإفطار الصائم ومختلف الأنشطة التي يكون الصيام مؤثرا أساسيا في إنتاجها.
على أن ثمة بعدا آخر، لا يحظى بأهمية كبيرة عند دراسة توجهات المتدينين في شهر رمضان، هو ما يرتبط بتعبيراتهم الإعلامية وفي وسائل الإعلام وشكل تعاملهم مع الإنترنت، والتوجهات الدينية التي يمكن رصدها من خلال اعتماد المواقع الراصدة للاتجاهات (trends) وحجم البحث عن الموضوعات الدينية في شهر رمضان وما تتحيه محركات البحث في هذا الشأن.
والمفارقة أن الاهتمام بالمعارف، ودرجة الاهتمام بالدين في الحياة اليومية، لا تدرس في سياق مقارن بين شهور السنة لمعرفة تحولاتها، ومتى تكون المعرفة بالإسلام ورموزه وكل ما يرتبط به مرتفعة، وهل يحصل تغير لهذه المعارف في شهر رمضان؟
مأزق دراسة السلوكات الدينية في الأنماط الدراسة للتدين
أما دراسة السلوكات الدينية، فمأزقها هو الاهتمام بقضايا مخصوصة تتكرر غالبا في العديد من المسوح والاستمزاجات واستطلاعات الرأي، من قبيل الموقف من تناول الكحول والشذوذ الجنسي والموقف من العلاقات الجنسية خارج مؤسسة الأسرة والموقف من الإجهاض والموقف من الإرث (نموذج بيو) أو تبرير سرقة ممتلكات الغير (المسح العالمي للقيم) أو رفض العنف والإرهاب والجوار والتعايش والتسامح مع أصحاب الديانات الأخرى وغيرها (غالوب وزوغبي).
على أن رصد هذه المؤشرات لا يختص بشهر رمضان، وإنما تحاول هذه الاستطلاعات من خلاله تركيب صورة عن التدين في مستوى الممارسة عند الدول العربية، وهي مؤشرات محكومة بخلفية علمانية وسياسية.
أما الخلفية العلمانية، فتبرز من خلال التركيز على القضايا ذات الحساسية الأخلاقية في المجتمعات المسلمة، وذلك لدراسة حجم انزياح هذه المجتمعات عن المرجعية المعيارية، واتجاهها نحو العلمنة. فالقصد دراسة تحولات المجتمعات المسلمة إلى الأرضية الثقافية العلمانية من خلال دراسة تطور المواقف تجاه العلاقات غير الشرعية والشذوذ والكحول فضلا عن مواقف أخرى مرتبطة بالإرث والمساواة وغيرها.
وتبرز هذه الخلفية أكثر عند دراسة علاقة الدين بالسياسية في تمثلات المستجوبين، وتصورهم لموقع الدين في المجال العام الدستوري والقانوني والاجتماعي والسياسي، إذ يتركز الهدف في دراسة مستوى الانعطاف إلى العلمانية في المجتمعات العربية.
وأما الخلفية السياسية، فالقصد منها بناء تصور حول موقف المجتمعات المسلمة من العنف والتطرف والعلاقة مع الغرب، ودراسة أثر الدين في تكييف هذه المواقف، فالخلفية ليست معرفية، وإنما هي استجابة لمتطلبات السياسة، وربما لمتطلبات الإعلام الذي يحتاج في بعض الأحيان إلى مادة معرفية يستند إليها لدعم بعض الحملات التي تندرج ترسيخ صورة نمطية عن الإسلام والمسلمين لاسيما في بلاد الغرب، كما أن القصد منها أيضا عزل الاتجاهات الدينية، التي لا تزال تنظير إلى الدين كمرجعية مؤطرة للمجال العام خصوصا منه السياسي.
من أجل نمط جديد لدراسة التدين في المجتمعات العربية
هذه المعطيات التي تم التوقف عندها فضلا عن الخلفيات التي تحكم هذه الأنماط، تفرض الاجتهاد في تطوير نموذج خاص لدراسة التدين في المجتمعات العربية، بما يسمح برصد مختلف المؤشرات الحيوية التي تعطي صورة أكثر وضوحا عن الحياة الدينية للمجتمعات العربية، بل تعطي صورة عن تحولات مؤشرات التدين سواء بالنظر إلى الزمن (ملاحظة الفروق والتغيرات في شهر رمضان مثلا أو في الأشهر الحرم) أو في شهر شعبان، أو بالنظر إلى المستويات، أي دراسة الانسجام أو التوتر بين المستويات الأربع للتدين، المعارف والعقائد والتعبد والممارسات، أو تحليل متجهات التدين في الممارسة، وتوتر الاتجاهات مع التحديات، التي تبرز في سلوك المسلم نتيجة ترجمة تدينه في الواقع.
بل المفترض في هذا النمط الجديد أن يتجاوز ثنائية المتدين وغير المتدين، ويدخل ساحة أخرى، ترتبط بدراسة تطور تدين المتدين، والتحولات التي تحدث في شكل هذا التدين، وهل ترتبط باجتهادات فكرية وفقهية، أم ترتبط بتكيفات مع الواقع ومع موجاته الجديدة.
على أن ما ينبغي أن يتم التركيز عليه أكثر في دراسة التدين، هو تجاوز النظرة التجزيئية التي تنظر إلى مكونات التدين كما ولو كانت مفصولة عن بعضها، فيتم دراسة الصيام بمعزل عن الصلاة، ويتم دراسة الزكاة بمعزل عنهما، في حين أن التدين في العالم العربي، هي حالة متكاملة لا يمكن فصل المعرفة فيها عن المعتقد، ولا يمكن فصل المعتقد عن التعبد، ولا يمكن دراسة الممارسة بمعزل عن تـأثير المعتقد والتعبد.
ففي شهر رمضان مثلا، لا يمكن بالمطلق أن يتم دراسة أداء الصلاة معزولة عن أعمال البر والإحسان، ولا يمكن أن يدرس الإقبال على الصلاة بمعزل عن الصيام، ولا يمكن دراسة مختلف الممارسات بمعزل عن أثر الصيام وأثر الصلاة في إنتاجها أو الانزياح عنها.
فهذا النموذج الذي يدرس التدين، يفترض أن يدرس الدين كما يقدم نفسه، وذلك من خلال تجلياته في تدين الفرد، فإذا كان الدين يقدم المعتقد على أساس أنه الأصل الذي ينبعث منه كل شيء، وأن التعبد تابع للمعتقد، وأن للتعيد وظيفة هي التأثير في الممارسة، فإن النمط الدارس للتدين، ينبغي أن يراعي هذه الطبيعة، ويعكس في نموذجه هذا الانسجام، ويدرس النتائج، التي يمكن لتحليلها أن يتجه متجهات مختلفة بحسب المعطيات المجمعة، فيعزز فرضية الانسجام أو فرضية التوتر، ويعكس فرضية التباين بين المستويات، أو فرضية الانسجام بين المستويات، أو فرضية الانسجام في بعضها والتوتر أو التناقض في بعضها الآخر.
في شهر رمضان مثلا، لا يمكن بالمطلق أن يتم دراسة آداء الصلاة معزولة عن أعمال البر والإحسان، ولا يمكن أن يدرس الإقبال على الصلاة بمعزل عن الصيام، ولا يمكن دراسة مختلف الممارسات بمعزل عن أثر الصيام وأثر الصلاة في إنتاجها أو الانزياح عنها.
ففي الصيام مثلا، يمكن أن تنتج مؤشرات رصدية عدة تتعلق بأداء الصلاة ووتيرتها لاسيما في المسجد، ويمكن دراسة حجم اقبال على صلاة التراويح، وحجم الإقبال على قراءة القرآن في شهر رمضان، وهكذا، حتى يتم استيعاب مختلف الأنشطة الدينية أو غير الدينية التي يتم التداعي إليها بدوافع دينية، مثل سائر الأنشطة الاجتماعية (صلة الرحم والتزاور والصلح) والتضامنية (قفة رمضان، إفطار الصائم، المساعدات الطبية.....) ويمكن إلى جانبها رصد مختلف التحديات التي تظهر هي الأخرى في رمضان مثل العنف، والطلاق، ومنسوب الجرائم، وحوادث السير، وغيرها من القضايا التي تندرج ضمن الممارسات التي تعرف تغيرات نوعية دالة في شهر رمضان.
ولا يمكن لهذا النموذج أن يغفل التعبيرات الإعلامية سواء منها تلك التي تتم عبر الإنترنت مما تحييها محركات البحث التي توفر معطيات عن الاتجاهات، أو تلك التي تتصرف عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إذ من الممكن التركيز على المحتوى الديني في التدوينات والفيديوهات والأغاني والكليبات غيرها.
ويمكن الاستعانة بهذا الصدد بالعمل المهم الذي قدمه (التقرير العربي الرابع للتنمية الثقافية 2011) إذ جعل من تعبيرات الشباب عبر وسائل التواصل الاجتماعي مادة للدراسة والرصد، وجعلت من ضمن اهتماماتها رصد المحتوى الديني في هذه التعبيرات.
كما يمكن الاستئناس بمسح استعمال الترفيه والإعلام في الشرق الأوسط (2014) الذي قدم معطيات مهمة عن تزايد مؤشر الطلب على المحتوى الديني في شهر رمضان.
ويمكن الاستئناس بمعطيات توفرها مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر وإنستغرام، حول متابعة الرموز الدينية (علماء ودعاة وقراء) في شبكات التواصل الاجتماعي، لمعرفة حجم الإقبال على المادة الدينية بمختلف أجناسها، بل يمكن تحصيل معطيات مهمة من اليوتوب حول حجم الإقبال على المحتوى الديني (أغنية، فيلم ديني، دروس دينية) لاسيما في شهر رمضان.
المؤسف أن الدراسات الاجتماعية المعنية بدراسة التدين في العالم العربي، تساير الأنماط الغربية وتمعن في توسيع نطاق العمل بها، ولا تبذل جهدا في دراسة ونقد تحيز الأنماط الغربية، فضلا عن بذل الجهد في تطوير نمط بحثي جديد يقدم إمكانية أكبر لدراسة الحياة الدينية في المجتمعات العربية بشكل أكثر عمقا وضوحا.