هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
بينما كان رئيس بلدية غزة الأسبق المرحوم عون الشوا، وهو أول رئيس بلدية في ظل السلطة الفلسطينية، يتفقد مخازن البلدية في منطقة اليرموك في العام 1995م، لاحظ بين قطع الخردة في تلك المخازن وجود هيكل لمدفع.. فسأل: ما هذا؟ فأجابوه إنه مدفع رمضان القديم، فأمر بانتشاله وترميمه.
وبحسب الدكتور نهاد المغني، الخبير في التراث المعماري فإن الشوا طلب من مهندسي البلدية آنذاك القيام بتجميع هذا المدفع ودهنه باللون الأسود، وأمر بعمل قاعدة خراسانية له تقف على عمود إسمنتي طوله 4 أمتار تقع في مدخل بلدية غزة، وتم جلب هذا المدفع ونصبه على هذه القاعدة.
مدفع رمضان المنصوب في ساحة بلدية غزة
وقال المغني لـ"عربي21": "على الرغم من أن هذا المدفع منصوب على هذه القاعدة منذ العام 1995م إلا أنه لم يعمل لأنه معطل".
وأضاف: "أنا مع فكرة تشغيل مدفع رمضان مجددا حتى في ظل وجود الأذان وأجهزة معرفة التوقيت، كناحية تراثية".
وتابع: "جميل أن نسمع صوت المدفع في وقت أذان المغرب، وأن يضرب المدفع شيء تراثي نحييه".
وأكد المؤرخ الفلسطيني الدكتور سليم المبيض على أن مدفع رمضان كان موجودا في غزة ويطلق مع أذان المغرب منذ سنوات طويلة.
سليم المبيض.. مؤرخ فلسطيني
وقال المبيض لـ "عربي21": "ظل مدفع رمضان يطلق حتى بعد احتلال عام 1967م، حيث توقف خلال فترة الحرب وعاد مجددا للعمل لسنوات بعد عام 1967م".
وأوضح أن موظفا في بلدية غزة كان يقوم بإطلاق المدفع، مشيرا إلى أنه توقف بعد انفجار إحدى القذائف فيه خلال التشغيل حيث لم يعمل المدفع بعدها.
وتساءل المؤرخ الفلسطيني: "لماذا سكت هذا المدفع بعدما اعتاد سكان غزة على سماعه على مدار عقود طويلة؟
وأضاف: "ربما ظروف الحرب ربما ظروف أخرى كانت سببا في وقفه، ولكن لماذا وقف تقليد كهذا كان جميلا جدا يستمتع به سكان غزة؟".
وأشار إلى أنه منذ توقف هذا المدفع عن العمل وسكان غزة يفطرون عن طريق سماع الأذان، مطالبا بضرورة العمل على إعادة هذه الطقوس مجددا.
واشتهر قطاع غزة بتصنيع المدافع والصواريخ منذ العام 2000م، حيث أطلقت أول قذيفة مدفعية تجاه الأراضي المحتلة عام 1948م والمستوطنات الإسرائيلية المحاذية لغزة، ومن ثم طورت المقاومة الفلسطينية قذائفها ومدافعها لتصل إلى أبعد مدى وتطال كل الأرض الفلسطينية، حيث تمتلك آلاف المدافع وعشرات الآلاف من القذائف المدفعية والصاروخية.
من جهته قال المؤرخ الفلسطيني الدكتور غسان وشاح، رئيس قسم التاريخ والآثار السابق في الجامعة الإسلامية بغزة، ورئيس الاتحاد الدولي للمؤرخين الفلسطين: "مدفع رمضان عادة اعتاد عليها المسلمون في فلسطين وبلاد الشام ومصر وترجع أصولها إلى العصر العثماني".
غسان وشاح.. مؤرخ فلسطيني
وأضاف وشاح لـ "عربي21": "من المعلوم أن غزة وفلسطين خضعت للحكم العثماني منذ العام 1516م، حيث تميز العثمانيون باستخدامهم السلاح الناري، وابتكروا هذه العادات وترسخت بين أهل بلاد الشام ومصر والمناطق التي كانت تخضع للحكم العثماني".
وحول مدفع مدينة غزة قال وشاح: "هناك مدفع قديم جدا رفع على قاعدة من الإسمنت وسط بلدية غزة حيث يعود تاريخ هذا المدفع إلى عام 1940م، حيث كان هذا المدفع قبل عام 1940م يستخدم في ساحات القتال ضمن تشكيلات الجيش العثماني وقد تم تخصيصه لمدينة غزة وكان قبيل الأذان والسحور وإعلان الأعياد كان يتم إطلاق قذيفة من هذا المدفع للناس إيذانا بدخول الوقت".
وأضاف: "هذا المدفع كان رمزا للمناسبات السعيدة عند أهل فلسطين، وكان العثمانيون حريصين على أن المدافع لم تصنع فقط لقتل البشر وإنما أيضا إيذانا بقبول المناسبات السعيدة التي لها علاقة بالعبادات عند الناس".
وأوضح أن هذه العادات وهذا المدفع استمر يعمل بشكل طبيعي حتى عام 1967م حينما خضعت غزة للاحتلال الإسرائيلي حيث توقف، مشيرا إلى أنه منذ عام 1948م حتى عام 1967م كان المدفع يعمل بشكل طبيعي لأن غزة كانت ضمن النفوذ والحكم المصري فبقيت كما هي العادات وبقيت في مصر ولم تتغير.
وقال وشاح: "بعد هزيمة عام 1967م خضعت غزة للاحتلال الصهيوني وبالتالي فقد منع الصهاينة هذه العادة تماما وأوقفوا هذا المدفع، حيث نقل هذا المدفع إلى مخازن بلدية غزة، وبقي في مخازن بلدية غزة وتآكل من الصدأ وجرت عليه السنوات والعقود".
وأضاف: "في الآونة الأخيرة بلدية غزة أرادت أن تخلد هذا المدفع فقامت بصناعة نصب تذكاري ورفعت هذا المدفع في ساحتها الخارجية ليبقى خالدا على العادات الإسلامية الحسنة".
وأكد على أن الوثائق التاريخية تقول إن هذا المدفع نفسه هو الذي كان يتم استخدامه في إعلان الإفطار والإمساك وإعلان بداية رمضان، موجود في ساحة بلدية غزة، لكن الاحتلال الإسرائيلي منع العادة.
واستبعد المؤرخ الفلسطيني أن تكون أصوات الانفجارات التي كانت تسمع بعد عام 1967م هي أصوات مدفع رمضان، متوقعا أن تكون أصوات قذائف أخرى، مشيرا إلى أن هذه الفترة كانت تسمى فترة "الفدائيين في غزة" ومن الطبيعي امتلاكهم أدوات تفجير.
واعتبر أن إطلاق مدفع رمضان وقت الإفطار من العادات المعنوية، مشيرا إلى أنه كانت هناك توقيتات أخرى ووسائل أخرى للإفطار منها الأذان ومعرفة الزمن مستدركا بالقول: "لكن الناس لم يكونوا يفطرون حتى يسمعوا المدفع وهي ناحية معنوية ونفسية لرفع معنويات الناس وليشعروا بأن هناك عزة وكرامة وأن هذه الأسلحة مسخرة من أجل إسعاد الناس".
وحول إمكانية أن يتم العمل بهذه العادة ويتم إطلاق مدفع رمضان بعزة بعد زوال الاحتلال قال: "الموضوع له علاقة بالسلطة الحاكمة، في أي مكان من الممكن أن تنظم السلطة الحاكمة الموضوع إذا اقتنعت بالفكرة، خصوصا أن هذه العادات ممكن أن تعود لغزة لا سيما أن غزة تحت الحكم الفلسطيني الخالص حيث إنه ليس للاحتلال علاقة بهذه القضية".
وتحدث عدد من كبار السن لـ "عربي21" حول كيف كانوا يسمعون مدفع الإفطار في رمضان قبل الاحتلال الإسرائيلي عام 1967م.
وقال الدكتور رشاد المدني الباحث والمتخصص في التاريخ الفلسطيني والقرى والمدن الفلسطينية المدمرة: "إن مؤذن المسجد العمري-الكبير (أبا السعيد) كان يصعد على مئذنة المسجد وبيده راية بيضاء يلوح بها إيذانا بدخول وقت الإفطار".
وأضاف المدني لـ "عربي21": "كنت صغيرا أقف على الشارع العام لأرى أبا السعيد مؤذن المسجد العمري يرفع الراية، لأذهب مسرعا وأخبر عائلتي بدخول وقف الإفطار".
وأشار إلى أنه واصل سماع صوت مدفع رمضان حتى بعد احتلال عام 1967م لكنه لا يعرف هل هو صوت المدفع الأصلي أم لا.
وقال المسن إبراهيم مسعود (82 عاما): "إن مدفع رمضان كان موجودا شرقي ملعب اليرموك بمدينة غزة وكان يطلق قذيفة عند أذان المغرب في شهر رمضان لحث الناس على تناول طعام الإفطار، وظل ذلك حتى عام 1967م".
وأضاف مسعود لـ "عربي21": "إن شخصا كان يدعى أيوب وهو موظف في بلدية غزة كانت مهمته قتل الكلاب الضالة رميا بالرصاص، كان يقوم بضرب المدفع يوميا بعدما يرى مؤذن المسجد العمري يلوح بالراية إيذانا بدخول الوقت".
وتابع: "لم تكن مدينة غزة بهذه الكثافة العمرانية، وكان صوت المدفع يسمع من مناطق بعيدة وكنا نقول (ضرب المدفع)".