آراء ثقافية

كلوب هاوس: صراع الميكروفونات في موسمه الأول

 ستزداد خصائص التنكر والتجميل وربما تتوفر فلترات صوتية لتغيير وتجميل الأصوات- تويتر
ستزداد خصائص التنكر والتجميل وربما تتوفر فلترات صوتية لتغيير وتجميل الأصوات- تويتر

قبل أكثر من عشر سنوات، شاهدنا الفيلم البريطاني الرائع "خطاب الملك" والذي تناول قصة الملك جورج السادس عندما تولى الحكم رغماً عنه، وكان عليه أن يخوض رحلة علاج لتخطي مشكلته في اللعثمة وتجهيزه لخطاب أممي سيستمع له الملايين عبر الراديو.

 

في لقطة مفصلية، يتحداه معالجه اللغوي بجلوسه على عرشه، موجهاً للملك تهكماً مقصوداً ينجح بإثارة غضبه، فيطلب منه النزول عن العرش، يرفض المعالج وكأنه لم يسمع، ويكمل استفزازه له قائلاً "لماذا علي إضاعة وقتي لسماعك؟"، ودون أي لعثمة وبطلاقة غير مسبوقة يأتي رد الملك "لأن لي الحق بأن أُسمع لأن لي صوتا"! يصمت المعلم وينزل عن الكرسي بإشارة إلى أنه الآن استطاع سماعه، ولتكون هذه نقطة تحول يدرك فيها الملك قوة صوته وليكمل رحلة علاجه بكامل إيمانه في هذه القوة.

تعتبر أصواتنا سبباً كافياً لنؤمن بأنفسنا وحريتنا وقدرتنا على الفعل، فللكلام أثر وللفم سلطة وفي تكميمه ظلم وضعف قد يكون وقوداً لحروب وثورات.

 

يكتسب الصوت مكانته بما يمتلك من موقف ومقولة وتوجه يصارع الواقع ويتحداه. اليوم، كل من يؤمن بقوة صوته ويرى، مثل جورج الملك، أن لديه صوتا ومن حقه أن يُسمع، فهو مدعو للحصول على عرش رقمي وميكروفون يخاطب العالم من خلاله، وذلك عبر التطبيق الجديد "كلوب هاوس".

منذ عامين، تنبه مصممو هذا التطبيق إلى أهمية الصوت ومركزيته في التعبير عن الإنسان، ليحاكوا طرق تواصله من خلال إنشاء غرف رقمية للدردشات الصوتية يكون جمهورها من المستمعين والمتكلمين.

 

شارك الآلاف من العرب بهذا التطبيق مؤخراً وهو لا يزال في بداياته إذ يقيد التطبيق الانضمام في دعوات محدودة موجهة فقط لمن يحملون هواتف آيفون، على نية التوسع وإضافة شرائح أخرى من المستخدمين في المستقبل.

 

ولكن قبل تغير هذا العالم الجديد وتبدل معالمه، كيف يبدو في موسمه الأول؟ ولماذا عليه أن يتغير؟

من الخِطاب إلى الخَطّابة
 

من منا لا يحب الدردشة العابرة ولا يُفضل مقابلة الغرباء ليتكلم براحته دون التفكير بعواقب البوح؟ ومن منا لا يحُب أن يؤخذ كلامه بجدية واهتمام؟ يأتي "كلوب هاوس" ليستجيب إلى هذه الحاجات الإنسانية البسيطة، فيقدم فرصة لتوجيه خطاب جاد يأخذه الجمهور بجدية.

 

والخطاب يتميز عن باقي أحاديثنا بتناسقه وترابطه وتقديمه رسالة واضحة لجمهور معين يقصده صاحب الخطاب، ولذلك فإن هذه منصة جيدة لتقديم المؤثرين أصحاب الخطابات الجادة والمؤثرة.

ورغم أن "كلوب هاوس" يعيد لنا جدية النقاشات والتفاعل الذي شهدناه مع بدايات تفاعلنا على فيسبوك وتويتر، إلا أن هذا التطبيق ولأنه يعبر عن "النادي" الذي قد يتحول فيه رئيس دولة إلى لاعب جولف، فإنه أيضاً يعتني بالترفيه والحياة الاجتماعية التي تتجه في كثير منها نحو العبثية والتفاهة أحياناً. تبدو هذه التفاهة مقصودة لذاتها ومتفق عليها ضمنياً بين المشاركين الهاربين من جدية الحياة ورتابتها. في ظل هذه الأجواء، قد تتعثر بغرفة لخَطّابات وخَطّابين يسعون لجمع رأسين بالحلال، وستتفاجأ أن لهم جمهورا جادا يأخذهم بجدية أيضاً!  

بيت بلا أبواب


في الوقت الذي ازدادت به علاقتنا بالبيت بعد أن حبستنا فيه جائحة كورونا، يدعونا "كلوب هاوس" إلى بيت أكبر يضم الملايين من مختلف الأجناس والأعراق يتحدثون مباشرة بأصواتهم ولهجاتهم المختلفة. وهذه فرصة جيدة للتعرف على أفكار وخبرات وثقافات مختلفة في غرف نقاشية متنوعة.

ولكن هذا بيت لا أبواب له، حيث إن أي شخص باستطاعته التطفل على الغرف الفعالة، والاستماع لمختلف المواضيع المطروحة، أو المشاركة في النقاش، والخروج منها بهدوء.

 

وهذه خاصية تمتاز بالخفة لمن يفضل الاستماع والتنقل بين المواضيع، أو للفضوليين أمثالي. ولكنها في الحقيقة سببت بعض المشاكل لسهولة انضمام المخبرين وتتبع المشاركين وملاحقتهم أمنياً وتسجيل محادثاتهم رغم قانون "كلوب هاوس" الذي يمنع التسجيل.

 

أدى هذا الاختراق إلى خلق حالة من القلق بين جمهور هذا التطبيق، وأصبحت الهموم الأمنية من المواضيع التي تشغل كثيرا من الغرف السياسية الحساسة.

 

ويقوم البعض بالتشهير بأي حسابات تبدو مشبوهة في محاولة للحصول على بيت آمن في أوطان لا يأمنون بها على أنفسهم! 

من الأمور التي تلفت الانتباه وربما تدعو البعض إلى إدمان "كلوب هاوس"، تلقائية الحوارات التي تعمل كالراديو أو البودكاست بلا تكلف المذيعين أو تصنعهم، إضافة إلى خلوها من الدعايات المباشرة.

 

يقوم بدور المذيعين رؤساء الجلسة الذين يملكون مهارات التواصل التي تمكنهم من تنظيم الحوار وتوزيع الوقت على المتكلمين وإعطاء الحضور فرصة للمشاركة.

 

وعلى رؤساء الجلسة التأكد من استمرارية النقاش وبالتالي الاستمرار في تثوير الأسئلة ولفت انتباه الحضور بشكل مستمر.

 

لذلك يكون كثير من هؤلاء صناع محتوى أو يستضيفون صناع محتوى لتقديم مادة ثرية تثير انتباه أكبر عدد ممكن من الجمهور لأطول وقت ممكن.

يحوّل هذا التطبيق صناع المحتوى إلى نجوم ومؤثرين، رغم أن الكثيرين من مرتادي "كلوب هاوس" يحاربون لإبقاء هذا التطبيق بعيداً عن قبضة "مؤثري" السوشيال ميديا، وإلغاء الطبقية التي صنعتها منصات التواصل الأخرى. 

صراع الميكروفونات


منذ ساعات النهار الباكرة، تبدأ غرف "كلوب هاوس" ببرامجها الصباحية غير المعدة مسبقاً، ويندفع الناس نحو الكلام بلا توقف.

 

فهناك غرف لمتابعة أبرز الأخبار، وأخرى مصممة لملاحقة الأفكار الإلحادية التي لا تجد سوى الإله موضوعاً جذاباً لها.

 

وتتحول بعض الغرف إلى عيادات نفسية، يتحدث أحدهم عن مشكلة أخذت منه عمره ولكن عليه اختصارها في دقيقة أو دقيقتين، ليحصل بالنهاية على جواب سحري يصوغه الطبيب في دقيقة أيضاً.

 

وفي ساعات الليل الأخيرة، عندما تشتد الوحدة، ويتحول هذا "النادي" إلى معبد يبثّ فيه الخطاؤون والعاشقون اعترافاتهم، تدرك قوة الصوت وسطوة الكلام وحاجة الناس إلى من يستقبل أفكارهم وأسرارهم الدفينة.

 

اقرأ أيضا : NYT: مخاوف من استغلال أنظمة ديكتاتورية كلوب هاوس.. أو حظره

 

يتحول الميكروفون إلى رمز مقدس في عصر السوشيال ميديا، يعبر عن حرية الرأي وقدرة الفرد على الكشف عن حقيقته التي برعت منصات التواصل في إخفائها وتشويهها. لا يزال "كلوب هاوس" يحافظ على قدر من الأصالة، فمعالم الجدية بارزة ولا يزال معظم المستخدمين يشاركون بأسماء وأصوات حقيقية. 

ولكن في زمن الاستعراض الرقمي، كتابياً في فيسبوك أم صورياً على إنستغرام، لا يُستثنى "كلوب هاوس" عبر تقديمه فرصة للاستعراض الصوتي، الذي بدأ منذ الآن بتحويل البعض إلى مشاهير و"مؤثرين" في مختلف المجالات. 

تحذير.. سبويلر للمواسم القادمة


يتوقع البعض أن كلوب هاوس ما هو إلا هبة رافقت الحجر الصحي وستخمد بعد قليل. وربما بدأ البعض بالفعل يشعر بالملل من هذا التطبيق بعد تكرار المواضيع المطروحة ومحدوديتها.

 

ولكن علينا تذكر أن ما تقوم به عادة مواقع التواصل الاجتماعي هو تتبع حاجات الإنسان الطبيعية وتلبيتها وذلك عبر محاكاة عالمه الحقيقي وتطوير خصائص تسمح له بالتفاعل في عالم افتراضي قادرة على كسب ثقته.

 

اقرأ أيضا : "عربي21" تثير نقاشا ساخنا بكلوب هاوس عن أزمة سد النهضة

 

لذلك فإن كان مصممو التطبيق معنيين باستمراره، وهذا مُؤكد بالطبع، فسيقدمون جهدهم في تتبع تفاعلات المستخدمين في فترة اختبار التطبيق وتطويره بما يلبي طلباتهم قبل نشره على نطاق أوسع.

تخلق هذه المواقع مع الوقت هرمية لطالما حولت حلم "الديموقراطية" إلى صراع مستمر لمحبي السلطة والشهرة.

 

ولأن أصحاب السلطة يكتسبون قوتهم من الجمهور أو الأتباع “Followers"، فإن الموسم الأول من "كلوب هاوس" لن يشهد صراعاً بقدر ما سيكون مشغولاً بإبراز طبقة "صناع المحتوى" الذين يصبون اهتمامهم نحو كسب ثقة الجمهور في هذه المرحلة.

 

بالنسبة لمصممي التطبيق، صناع المحتوى هم ملوكه الذين ينقلونه إلى مستوى آخر ويضمنون استمراريته. هم وحدهم القادرون على معرفة حاجات الجمهور وجذب انتباههم وتسويق المنتجات والعلامات التجارية.

 

وفي اللحظة التي يتأكد فيها مصممو هذا التطبيق لحاجة الناس إليه وتعلقهم به، وتتصاعد حاجتهم إلى أن يُسمعوا، وتتحول الأخيرة إلى حاجة إدمانية، وعندما يتوقف الكلام عن كونه شهوة، فسوف يتغير شكل المنصة بالتأكيد. 

يبدو أن مواسم كلوب هاوس القادمة باتت محروقة، وليس من الصعب تخيل النصائح والاستشارات المجانية التي يجود بها المستخدمون اليوم، والتي لن تستمر طويلاً، تتلقفها يد الدعاية والعرض والطلب.

 

ستحتاج بعض الغرف إلى تذاكر تختلف قيمتها بحسب أهمية المتحدث وحاجة الناس إليه. لن يتمكن الجميع من المشاركة والتحدث، وسيزداد حجم المستمعين بينما تقل عروش المتحدثين وتتخصص أكثر.

 

ستزداد خصائص التنكر والتجميل، وربما تتوفر فلترات صوتية لتغيير وتجميل الأصوات، أو استخدام صوت كلب أو قطة! وإلى ذلك الحين لنستمتع ببراءة راديو لم تفسده الدعايات بعد ولا إزعاج مشاهير السوشيال ميديا.


1
التعليقات (1)
sandokan
الثلاثاء، 04-05-2021 06:38 م
عصر ما بعد "كلوب هاوس" قبل نحو شهر، دخلتُ عالم ذلك التطبيق الجديد من باب الفضول، متوقّعا شيئا مملا كغرف دردشة "البالتوك" العتيقة، لكني دخلت ولم أخرج! ثمّة شيء إنساني ساحر في سهولة دخول محادثةٍ، مستمعا أو متحدّثا، وسهولة الخروج منها أيضا من دون استئذان أو وداع، وتلك ميزةٌ كبيرةٌ لشخصٍ مثلي يفضل التواصل المكتوب، الذي يخضع للتفكير والمراجعة. ولكن التوليفة في ذلك "النادي المنزلي" مختلفة، حيث التحرّر من العبء النفسي لبدء مكالمةٍ أو إنهائها، وكم جمع ذلك معارف لم تكن علاقتهم تسمح بالتواصل عبر سنوات. ولكن بعيداً عن تلك الجوانب الإنسانية، فإننا نشهد لحظة تحول سياسي، شبيهة بلحظة دخول "فيسبوك" حياتنا. أزعم أني لم أشهد قط حواراتٍ ودّية تجمع مختلف الفرقاء بالوسط السياسي المصري خلال عشر سنوات كما شهدتها على ذلك التطبيق. غرف يفتحها مؤيدّو السلطة ويسعدون بوجود معارضين، والعكس صحيح، حيث يحتفي معارضون بظهور عضو في مجلس النواب الحالي، وكذلك غرف تجمع إسلاميين وليبراليين أو يساريين. حتى لو كان الغرض الرئيسي عند كل فريق إبراز صحة مواقفه، إلا أن كل تلك الحوارات، مع استثناأت محدودة، اتسمت بقدر كبير من الرقي والاحترام المتبادل، والبحث عن المشترك، أو على الأقل التظاهر بذلك، وكم من مسرحياتٍ سياسيةٍ تحولت حقائق، بعدما أدمن أطرافها التمثيل! غرف أخرى كانت ذات تأثير سياسي غير مباشر، مثل غرف تجمع المختصّين بالاستثمار في البورصة لنصح المبتدئين، أو المستثمرين في الصناعات المصرية الصغيرة، أو المستثمرين في القطاع العقاري، فضلا عن غرفٍ تناقش شتى القضايا الاجتماعية الشائكة، مثل التحرّش وختان الإناث والحريات الجنسية. وعلى الرغم من أن غرف الدول العربية الأخرى لم تكن دائما بالصفات ذاتها، إلا أن السياسة غير المباشرة تمسّها أيضا. على سبيل المثال، بعد الإفصاح الأميركي عن "تقرير خاشقجي"، تم فتح غرف سعودية كثيرة لنقاش كيفية التصدّي والتحدّي، وكان أي شخصٍ يُبدي ذرّة تحفظ يتم طرده فورا، لكن هذا لم يكن الحال في الغرف الاجتماعية السعودية التي دخلها متمرّدون على التيار السائد. ولكن هذا كله البداية فقط. يمكننا أن نرى بعين الخيال الوضع بعد عامين أو ثلاثة، حين يصبح التطبيق (أو نظير له إذا صحّت أنباء إطلاق تويتر خدمة مشابهة) متاحا على "أندرويد"، حين يتحوّل إلى بديهية مثل "فيسبوك" أو "تيك توك". فلنتخيّل مدى قوة غرفة تحوي في اللحظة نفسها 50 ألف مصري يسمعون خطابا سياسيا ما. فلنتخيل "ناديا" يفتحه شباب كل قرية وكل مدينة، وعمّال كل مصنع، ويتحوّل بيد الجميع أداة حشد وتشبيك وتنظيم هائلة ذات أثر أقوى بأضعاف من الأثر القائم حاليا بالفعل بالصفحات المحلية على "فيسبوك". ولكن الجوانب السلبية بدورها ستتضخم أيضا. على الأرجح، سيضطر مؤسسو التطبيق للبحث عن نموذج ربحي سريع، لمواكبة التضخم الهائل في حجم المستخدمين، وبالتالي كلفة الخدمة من خوادم وغيرها. وإذا كان واحدنا اليوم يبحث وسط عشرات الغرف العربية المتاحة عبر الضغط على "استكشف"، ففي المستقبل قد توجد مائة ألف غرفة قائمة في اللحظة نفسها، ما الذي سيتحكّم في الغرف التي ستظهر في واجهة البرنامج؟ على الأرجح، سيتيح التطبيق خدمة الدفع بمقابل، سواء لمن يتجاوز عددا معينا من المستمعين، أو لتظهر الغرفة لعدد أكبر من المستخدمين. وهذا سيؤدّي إلى فقد التطبيق جانبه "الديمقراطي"، ليتحوّل أداة بيد من يملك ضخ ملايين الدولارات. هذا فضلا عن مخاطر السيطرة الجسدية البحتة. في مصر اليوم كل المجموعات المحلية الكبيرة على "فيسبوك" هي تحت مراقبة المكاتب المحلية لجهاز الأمن الوطني. ولطالما تكرّرت وقائع القبض على من استخدمها في لحظةٍ ما لغرض حشد سياسي، أو لبث خبر تراه الدولة كاذبا. وفي المقابل، ستظل مساحات واسعة عصية على السيطرة، وإذا كان ذلك هو الوضع اليوم على "فيسبوك" و"تويتر"، بكل ما استثمرته السلطات العربية فيهما، فإن حجم الآثار السياسية والاجتماعية لتلك الأداة الأقوى سيصاحبنا سنوات طويلة مقبلة. ( مصدر : العرب الجديد ـ زوايا ـ محمد أبو الغيط ) .