هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تغذي حوض المذهب المالكي أربعة روافد هي المدينة ومصر والعراق والمغرب، الذي حافظ على حيويته وتوهجه إلى اليوم، وتولت مدرسة أفريقية ريادتها. ولئن ظلت مدرسة المدينة إلى زمن قريب مقصد طلبة العلم من كل الأصقاع الإسلامية، فإن مدرستي مصر والعراق تراجعتا لظروف سياسية وحضارية عديدة. فاضطهد الحكم العبيدي علماء مصر وعجّل بضمورها. وغلب التشيّع على توهّج المدرسة العراقية.
ومن خصائص مدرسة المدينة التي تميزها عن بقية المدارس المالكية اعتمادها الآلي، بعد النصّ القرآني، على الحديث، متى توفر شرط الصحة وثبتت نسبته إلى الرسول، بصرف النظر عن محتوى المتن. فجسدت بذلك تمسكها بمنهج الإمام مالك الذي كان يجافي الرأي ويحث على التمسك بالدليل النصي. واعتمدت المدرسة المصرية، ثانية مدارس المذهب، منهج السنة الأثرية، بمعنى العمل بالسنة التي توافق فيها سلف أهل المدينة.
أمّا السمة التي غلبت على مدرسة العراق بفرعي البصرة وبغداد فهي التأثر ببيئتها التي تميل إلى الجدل والمناظرات وتنزع إلى الاستناد إلى المنطق في فهم السور، وتهتمّ بالتقعيد والتأصيل. وهذا ما جعلها أكثر اعتناء بالفقه الافتراضي وتوسّعا في استعمال القياس وتوليد المسائل وتفريعها. ولكن ما سمات المدرسة المغربية؟
نتخذ من مدرسة إفريقية بجناحيها، القيرواني والزيتوني، مدخلا لرصد بعض خصوصيات عامة مدرسة غرب العالم الإسلامي الممتد على ضفتي المتوسط.
ولا بد لكل حقل فكري من فاعلين يديرون شؤونه ويسهرون على مصالحه. ولهذا الفاعل أن يتخذ شكل المؤسسة أو أن يمثله أفراد مميزون. كذا شأن الحقل الديني عامة وكذا شأن حياة المذهب المالكي في إفريقية. فمن العناصر التي ساعدته على بسط نفوذه دور فاعليه الفكريين وإسهاماتهم العلمية والتعليمية. فمثل فرعا القيروان والزيتونة الجانب المؤسساتي، ومثل شيوخ وأئمة مميزون الأفراد.
1 ـ القيروان وترسّخ المذهب المالكي في أفريقيا
كان عمر بن عبد العزيز يحدّد هوية المدينة باعتبارها باحة للعلم ومقصدا للعلماء، وهو يرسل لها بعثته العلميّة المكونة من عشرة فقهاء من رجال التّابعين في نهاية القرن الأول الهجري ويجعل على رأسهم عبد الله بن يزيد المعفري الحلبي. فـقد "اختطَّ كل واحد منهم داراً لسكناه، وبنى بحذائها مسجداً لعبادته ومجالسه، واتّخذ بقربه كُتَّاباً لتحفيظ القرآن، وتلقين مبادئ العربيّة لصغار أطفال البلد، وأشاعوا الرشد، وعلّموا الحلال والحرام، وحرصوا على الأمن والتآخي، فكان إسلام البربر نهائيا من آثار هذه البعثة الكريمة" على رواية حسن حسني عبد الوهاب.
وبفضل ذلك تدعمت حركة علمية جعلت من المدينة أهم المراكز العلمية في بلاد المغرب على مدار القرون الإسلامية الأولى. وتأسست مدارس جامعة أطلق عليها اسم دور الحكمة وتقدّمت على قرطبة وفاس وأسهم أعلام في ترسيخ المذهب المالكي من أمثال الإمام سحنون صاحب "المدونة" ومحمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني صاحب "الرسالة".
يعدّ الإمام أبو سعيد بن حبيب التنوخي سحنون ( 160هـ ـ 240 هـ) أهم أعلام الفقه المالكي. فقد أكد الذي صحح مسائل "أسدية" ابن الفرات في مدونته الشهيرة، وفق أقوال الإمام مالك كما أسلفنا الذكر في ورقتنا الأولى وربط فروعها بالأصول، مفيدا من فهمه لآليات هذا الفقه وحسن إحاطته بأصوله. وقاوم نزعتها إلى أهل الرأي. فحلت محلّ أثر أسد بن الفرات في التدريس وأصاب بها المكانة في إفريقية وخارجها. وجعل ولايته لقضاء القيروان فرصة لفطر قلوب أهلها على هذا المذهب، بعد أن كان المذهب الحنفي أغلب عليها.
ومن أبرز فقهائها محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني (310 هـ). يعدّ من أصحاب المؤلفات التي دعمت المكتبة المالكية، شأن"الزيادات على المدونة" وفيه أكثر من مائة جزء استوعب فيه فروع المالكية أو كتاب "مختصر المدونة". أما أهم مصنفاته فكتاب "الرسالة". ولأهميته اعتمده علماء المذهب في كل أنحاء العالم الإسلامي.
يقول في مقدمتها مخاطبا الشيخ محرز بن خلف البكري، مبرزا بعدها المدرسي البيداغوجي: "أما بعد.. فإنك سألتني أن أكتب لك جملة مختصرة من واجب أمور الديانة مما تنطق به الألسنة وتعتقده القلوب وتعمله الجوارح وما يتصل بالواجب من ذلك من السنن من مؤكدها ونوافلها ورغائبها وشيء من الآداب منها وجمل من أصول الفقه وفنونه على مذهب الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى ... لما رغبت فيه من تعليم ذلك للولدان كما تعلمهم حروف القرآن ليسبق إلى قلوبهم من فهم دين الله وشرائعه ما ترجى لهم بركته وتحمد لهم عاقبته فأجبتك إلى ذلك لما رجوته لنفسي ولك من ثواب من علم دين الله أو دعا إليه".
2 ـ الزيتونة مركزا لإشعاع المذهب وانتشاره
يمثل جامع الزيتونة الجناح الثاني الذي حلّق به المذهب في سماء إفريقية.. فقد جمع، أن أسّسه عبيد اللّه بن الحبحاب سنة 116هـ، بين التعبد والتعليم شأن أهم الجوامع في العالم الإسلامي. ويمكن أن نستجلي دوره في نشر المذهب المالكي من خلال منجز ثلاثة من أهم أعلامه، يمثل أوّلها بداية انتشار المذهب المالكي (علي بن زياد التونسي) ويمثل ثانيها مرحلة الانتشار وذيوع الصيت (ابن عرفة) ويختزل ثالثها المرحلة الإصلاحية الحديثة (الطاهر بن عاشور).
يعدّ الفقيه علي بن زياد التونسي العبسي أبو الحسن (توفي 183) أول من أدخل الموطأ إلى حاضرة تونس وأسهم في نشر المذهب المالكي فيها، يقول عنه القاضي عياض "لم يكن بعصره بإفريقية مثله" ويصفه تلامذته بالعبقري وبالمتبحر في العلم، أهتم أكثر بالمبادئ وبحث في أصول المذهب المالكي تنظيرا وتفريعا.
ويُنقل عن سحنون قوله فيه "لو أن التونسيين يألون لأجابوا بأكثر من جوابات المصريين" ويَعرض رأيه في سياق المقارنة بين وبين المصري ابن القاسم، وقد اختلف إلى دروس الرجلين ونقّح له الثاني أسدية ابن الفرات، التي عنونها بـ"ـالمدونة" كما أسلفنا الذّكر.
وخلف علي ابن زياد أثرا في الفقه المالكي بعنوان "خيرٌ من زِنَتِهِ" والمؤلف يعود في الأصل للتونسي عبد الرحيم بن أشرس وفق ما يذكر ابن سحنون مضيفا "إلا أنا سمعناه من ابن زياد... وهو ثلاثة كتب: بيوع، ونكاح، وطلاق". اختلف إلى درسه أسد ابن الفرات وسحنون الذين تنافسا لاحقا في ريادة العلم بالقيروان في منتصف القرن الثالث للهجرة، وتنافس من خلالهما المذهب الحنفي والمذهب المالكي.
ويمثل أبو عبد الله محمد بن عرفة الورغمي (ة سنة 803 هـ) أهم فقهاء المذهب المالكي في القرن الثامن وقد غدا جامع الزيتونة منارة العلم في إفريقية بعد تراجع القيروان المتأثرة بمحنة الغزو الهلالي. فقد مثل الفقيه استثناء في مرحلة متقلبة. فعمل على استقراء أقوال المذهب وعلى ضبط المفاهيم الفقهيّة وجمعها في عديد المختصرات كـ"المختصر في المنطق" و"المختصر الشامل في أصول الدين" و"المختصر في الفقه" و"مختصر الحوفي في الفرائض" و"المختصر في أصول الفقه" وله مصنفات في الفتوى والتفسير. عاصر العلامة بن خلدون وكان بينهما تنافس وجفوة. ورغم أنه لم يتول منصب القضاء، متأثرا بالبيئة التونسية التي كانت تميل إلى التفريق بين القضاء والإمامة، كان صاحب القول الفصل في تسمية تلاميذه لقضاء مختلف جهات إفريقية ، فكاد حضوره يحجب مرحلة بحالها.
ولعلّ أن يكون الإمام الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، (1879ـ 1973) العالم والفقيه والقاضي وأهم أساتذة جامع الزيتونة خير ممثل للفقه المالكي الحديث بتونس. فقد صنّف الآثار في التفسير والمقاصد وحقق الكتب الأدبية. وعرف بدعوته إلى الاجتهاد الجماعي. فكان امتدادا للمشروع الإصلاحي التونسي، مجدّدا ينزع إلى مخاطبة العقل بالاستدلال والحجج التي يراها مقنعة، في مذهب الرواية والحديث ومجافاة الرأي. فقد كان يستقرئ النصوص الشرعية في ضوء مقاصد الشريعة آخذا بعين الاعتبار الفطرة البشرية لقناعته بأن "شريعة الإسلام شريعة عامة دائمة، فاقتضى ذلك أن يكون تنفيذها بين الأمة سهلا" وأنها بسماحتها أشد ملاءمة للنفوس". ويربط الدين بمصالح المؤمنين. فلا يرى فيه تقييدا صارما يجافي التحوّل والتّطور بل مجالا واسعا للاجتهاد.
لقد جعل أمثال هؤلاء الفاعلين الدينيين جامع الزيتونة يضطلع بدور علمي وثقافي عبر تاريخه الطويل. وكان التعليم فيه يجمع بين العلوم الدينية والعلوم الدنيوية كالرياضيات والطب والهندسة والأدب والفلسفة وعلم الفلك. فكان "أسبق المعاهد التعليميّة للعروبة مولدا وأقدمها في التاريخ عهدا"، وفق المؤرّخ حسن حسني عبد الوهّاب، إذ استمر في تأدية دوره قرابة ثلاثة عشر قرنا متتالية دون انقطاع يذكر. وعاضدته مكتبات عديدة، أهمها مكتبة زيتونية والعبدلية. واتخذ التعليم فيه بعدا نظاميا، منذ القرن الثامن للهجرة، فكان الدرس يتخذ شكل الحلقة لتلقين دروس تفسير القرآن وعلوم الحديث وأهميتها بالنسبة إلى الفقه المالكي وأصول الفقه وفروعه. ويفضي إلى إجازة الدارس.
وفي عهد الدولة الحفصية ترك المدرّسون الكتب الأمهات واعتنوا بالملخصات. وهو الأمر الذي نقده ابن خلدون في مقدمته ووجد فيه إفسادا للتعليم وإخلالا بالتحصيل العلمي. وبالفعل فقد عرف نظام التعليم ـ في أواخر العهد الحفصي ـ تراجعا جرت خلاله محاولات عديدة لإصلاحه.
أما اليوم فقد أسندت مهمة التكوين لجامعة الزيتونة التي تم بعثها منذ أفريل 1956. وباتت تحكمها أنظمة أكاديمية. فتعمل على مراجعة برامجها ومناهجها في تفاعل مع المحيط وتحدياته فتضم المعهد العالي لأصـول الدّين والمعهد العالي للحضارة الإسلاميّة بتونس والمعهد العالي للعلوم الإسلامية ومركز الدّراسات الإسلاميّـة بالقيروان. ولئن سعى بعض الأئمة، إلى إعادة بعث التعليم النظامي في جامع الزيتونة بعد الثورة، فقد سادت قناعة بأن التعليم النظامي الجامعي خير سند للمدرسة الزيتونية القديمة وامتداد لها.
لقد اتجهت المدرسة المغربية إلى الجمع بين مميزات المدارس الثلاث المذكورة آنفا. ولئن اتجهت المدرسة الاندلسية إلى المقارنة بين آراء علماء المذهب وأئمته وانتخاب الأصلح منها بحسب قوة الدليل فإن مدرسة إفريقية مالت إلى التأليف بين المواقف التي لا شذوذ فيها. ولعلّ ذلك سر ميلها إلى الاعتدال والتوافق. ولكن كثرة التفاصيل لا يجب أن تحجب عنّا ذلك التوازي بين مسار تطوّر المذهب بإفريقية ومسار المعارف عبر التاريخ الإسلامي. فمثلت المرحلة الأولى التي مثلها علي بن زياد مرحلة ضبط ملامح المذهب وحفظ مادته وربط فروعه بأصوله، وارتبطت مرحلته الثانية بالحواشي والمختصرات التي وسمت عامة عصور الانحطاط.
وارتبطت مرحلة التجديد ومحاولة فتح باب الاجتهاد بعصر النهضة العربية. وإجمالا تمكّن هذا المذهب من الصمود رغم أنّه كثيرا ما صادف رياحا معاكسة داخليا. فقد واجه فرعه القيرواني محنة الزحف الهلالي (449) الذي خرّب المدينة وهجّر أهم علمائها. ثم مالت الدولة الحفصية إلى مذهب ابن تومرت. وانتهى حكمه بانتكاسة كبرى لجامع الزيتونة عندما دخله الجيش الإسباني في صيف العام 981 هـ، فاستولى على مخطوطاته، ونقل عدداً منها إلى إسبانيا وإلى مكتبة البابا. واتخذ البايات الذين حرروا تونس من الاستعمار الإسباني إلى المذهب الحنفي، مذهب الدولة العثمانية. وكان الفرع الزيتوني أقدر على تجاوز محنه فيما تراجع دور الفرع القيرواني.
إقرأ أيضا: في سمات المذهب المالكي المميزة وخصائص المحيط الحاضن
إقرأ أيضا: طريق التمكين والسيادة للمذهب المالكي في تونس