تم الإعلان عن اتفاق
التطبيع
بين
الإمارات العربية وإسرائيل والمسمى اتفاق أبراهام في ١٣ آب/ أغسطس ٢٠٢٠، فكانت
بذلك أول دولة عربية خليجية تطبع العلاقات بالكامل مع دولة الاحتلال، حتى شمل
علاقات سياسية اقتصادية ثقافية سياحية. وهذا لم تفعله الدول التي أقدمت في السابق
على التطبيع السياسي، فلم يتجاوزه لتطبيع يشمل مناحي الحياة كافة كما فعلت دولة الإمارات .
عندما أعلن محمد بن زايد عن نيته عقد الاتفاق
أشار إلى أن ذلك أتى تنازلا من حكومته حتى توقف
إسرائيل خطة الضم المعلن عنها في
حينها لأراضي الضفة الغربية، وهذا ما خرج نتنياهو ونفاه نفيا قاطعا وأشار إلى أنه
ماض في خطة الضم بالتعاون مع الولايات المتحدة حين كان لا يزال ترامب يقود مجهودات
التطبيع بين الدول العربية وبين إسرائيل، ويضع ثقله السياسي ونفوذه الاقتصادي
بالكامل من أجل تحقيق قائمة مطالب صهره الصهيوني كوشنير في ما يخص دولة الاحتلال.
اللافت في اتفاق التطبيع الإماراتي البحريني
هو أنه أتى ضمن مجموعة سياقات كان هو المحصلة لها، وهذه السياقات تم الحديث في
السياق السياسي مطولا وأخذه بعين البحث والتحليل. يمكن أن نذكر أهم تلك السياقات
بجانب السياق السياسي وأشدها وقعا في ذلك المسار كي نفهم لمَ هذا التناقض بين
الخطاب السياسي والفعل على المستوى الرسمي لفترات طويلة سابقة على الاتفاق.
وكي نستطيع تفسير جزء من ظواهر التماهي الرسمي
وعلى شريحة واسعة من المستوى الشعبي بعد الإعلان عن اتفاق التطبيع:
أولا السياق الاجتماعي: يدور حول
الطبيعة التي تحكم العلاقات الاجتماعية بين مواطنين الإمارات، حيث ارتبطت تلك
العوائل والقبائل بعلاقات وطيدة بشيوخها وتجمعهم روابط الولاء التام لشخوصها،
كونهم ينحدرون من نسل القادة السبعة المؤسسين لاتحاد دولة الإمارات، كذلك طبيعة
العقد الاجتماعي الذي يميز تلك العلاقات، حيث اعتاد شيوخ الإمارات على علاقات
مفتوحة مع تلك العوائل بطريقة تقوم على دعمهم وقضاء حوائجهم ومشاركتهم أفراحهم
وأتراحهم وتقريبهم منهم والإحاطة بهمومهم الاجتماعية وغيرها، مما ساهم في تعميق
حالة الولاء القبلي لشيوخ تلك الإمارات من قبل مواطنيها.
كما اعتمد مجهودهم على تطويق أي بذور معارضة
لتلك العائلات الحاكمة بزج كل من يفكر في انتقاد سياسات حكام الإمارات في سجونها،
أو بوصمهم اجتماعيا وضمن مجالهم القبلي بأنهم خونة وخارجون عن جيل المؤسسين
للاتحاد؛ الذين لم يبقَ من سماتهم الوطنية والأخلاقية والدينية والاجتماعية سوى
مجموعة من الورثة الذين لم يحسنوا الوقوف على مبادئ المؤسسين لدولة الاتحاد تجاه
قضايا العرب والمسلمين وقضايا العالم، بخاصة الشيخ المؤسس زايد آل نهيان الذي عرف
عنه حزمه ومبدئيته في ما يتعلق بقضية
فلسطين ومساندة حق الفلسطينيين في نيل حريتهم
الكاملة غير المنقوصة، فهو من أهم القادة المؤسسين الذين حموا اللاجئين الفلسطينيين
اقتصاديا وأصدر سياسات تحميهم من التمييز.
أمام الجيل القديم من المؤسسين للاتحاد
ومواقفه الأخلاقية، حيث عرف عن الشيخ زايد اطلاعه وإلمامه الثقافي وميله للفهم
العميق لقضايا الأمة وإحاطة نفسه بأهم العلماء والمفكرين والمثقفين. تبرز أمامنا
صيغة جديدة من الحكام الذين يستقون مصادرهم عن قضاياهم من مجموعة مستشارين يقدمون
لهم المشورة السياسية على أسس غير استراتيجية، ومبنية على تحالفات مرحلية تحت بعبع
الخوف من المد الفارسي والهجمة النووية الإيرانية، حتى تم استهلاك الأوراق
السياسية والاقتصادية لدولة الاتحاد من قبل الدول المستفيدة من سيطرة الشبح
الفارسي على السياسات الداخلية والخارجية.
هنالك حالة من إشباع الشارع الإماراتي بنظرية
المؤامرة الفارسية والخطر الإيراني، وهذا وإن كان يشكل واقعا في جزء منه بسبب
علاقات الجوار المتوترة والتي تتمثل باحتلال إيران لجزر طنب الصغرى والكبرى وأبو
موسى، إلا أنه لا يعني على الإطلاق تحويل أروقة القرار السياسي إلى ساحة محمومة
بفوبيا المد الشيعي الإيراني؛ بطريقة تحول السياسة الخارجية والداخلية لساحة يتنفذ
فيها كل من يدعي سياسات معارضة للنشاط الإيراني في المنطقة العربية.
هذه البنية الاجتماعية التي تمت رعايتها
بإثارة المخاوف بين طبقاتها وبين أبنائها هي التي صمت جزء كبير منها عن نقد قرارات
التطبيع التي بدأت بمستويات التطبيع، ثم تحولت لتحالف معلن. فالمواطنون
الإماراتيون الذين صمتوا في مواجهة تلك القرارات لا يعني الأمر موافقتهم على تلك
السياسات، وإنما إدراكا منهم لعمق الدولة الأمنية التي تستطيع محاصرة معارضي
سياساتها، وإخضاعهم لتجريد كامل من حقوقهم والدعم الذي اعتادوا عليه وفق النظام
السائد. ومن علا صوته في إدانة ذلك القرار تم منعه من السفر وإخضاعه لتحقيقات
مطولة، ثم اختفاء تام عن الإعلام الاجتماعي كما حصل مع الكاتبة الإماراتية ظبية
خميس التي أعلنت موقفها بشكل لا لبس فيه والمتمثل برفض سياسات دولتها في قرار
التطبيع، فقوبلت بالاستدعاء والتحقيق معها ومنعها من السفر ثم تجميد نشاطها على
الإعلام الاجتماعي. أما مثقفو الحكام الذين توزعوا على المؤسسات الإعلامية والثقافية
وكانوا منتفعين من الحكام فلم تصدر عنهم سوى مواقف مساندة لقرارات التطبيع، وفي
أفضل الأحوال امتنع بعضهم عن الحديث في ذلك القرار .
تلك البنية الاجتماعية الضيقة التي تقوم على
نظام قبلي فيه من رواسب العصبويات والحمية القبلية ومناصرة شيوخ القبيلة ظالمين أو
مظلومين؛ حكمت شريحة ممن خرجوا للإعلام هاتفين مع مجهودات التطبيع ومشيدين بدولة
الاحتلال كجزء لا يتجزأ من المنطقة العربية، في مشهد كان مستعصيا على المنطق
والفهم خارج هذا السياق الاجتماعي القبلي الذي تحكم في مواقف تلك الشخصيات التي
قدمت مواقف مساندة لا نهائية للدولة في قرارها بالتحالف مع إسرائيل.
ونستطيع أن نلاحظ ذلك في المماحكات السياسية
والإعلامية التي نتابعها من قبل هؤلاء عبر الإعلام الاجتماعي، حيث إعلانهم
الانبطاح التام أمام قرارات حكومتهم الراعية لمصالحهم والحارسة لسلامهم، كأن هنالك
جبهة حرب مفتوحة منذ النكبة بين حكومة دولتهم ودولة الاحتلال، في مشهد يخلو من أي
منطق فكري وينحاز نحو القبلية والعصبوية والتبعية العمياء وغير المدروسة وراء
قرارات حكومة بلادهم، مع وعي تام من طرفهم بتتبع تلك التغريدات والرقابة الأمنية
المشددة على تلك المواقف، فاتخذوها طريقة لتسجيل تلك المواقف على حسابات التواصل
الاجتماعي بطريقة يحسبونها تجعلهم أكثر قربا وتحالفا قبليا وعشائريا، في الوقت
الذي مثل فيه القرار طوق نجاة لكل من نتنياهو وترامب في معاركهما الانتخابية حينها.
منذ ذلك الإعلان الإبراهيمي، ونحن نشهد أشكالا
عدة من التماهي الاجتماعي مع دولة الاحتلال، تمثلت بمشاركتهم مناسبات وتبادل
التهاني بذكرى النكبة الفلسطينية التي اعتبرتها سفارة الإمارات في دولة الاحتلال
عيد استقلال لدولة الاحتلال، وما أعقب ذلك من فيديوها لمواطنين إماراتيين يهنئون
دولة الاحتلال بما سموه أيضا عيد استقلالها. لا يمكن فهم تلك الظواهر الانبطاحية
لبعض تلك الأصوات التي لا تمثل كل الإماراتيين خارج السياق الاجتماعي، حيث حالة
الامتثال لإلغاء العقل والتفكير ما دام الحاكم هو الذي يفكر وينتج القرارات بدون
مرجعية تشاورية اجتماعية تحترم مواقف مواطنيها وآرائهم، فقد أتى قرار التطبيع أيضا
بإهمال المرجعية الاتحادية، حيث أبدى الشيخ سلطان القاسمي في أكثر من مناسبة موقفا
لا يتفق مع قرار التطبيع.
أتى قرار التطبيع كحالة من المكاسرة الطبقية
والمماحكة السياسية، حيث أخرجه أغنى حكام الإمارات وأسقطوه من أعلى إلى حكام باقي
الإمارات الأقل غنى والأكثر فقرا، كذلك تم إسقاطه على المجتمع الإماراتي بمواطنيه
ووافديه من أعلى إلى أسفل، وخدم في هذا الأمر سياقٌ آخر وهو السياق الاقتصادي.
ثانيا: السياق الاقتصادي: امتثلت الإمارات
الأقل غنى وتلك الأخرى الأشد فقرا لقرارات النخبة الحاكمة الأكثر ثراء، تحاشيا
لصدامات داخلية قد تعمق مع مجموعة من العوامل الأخرى الشرخ بين الإمارات
الاتحادية، حيث لطالما اتخذ حكام الإمارات الأشد ثراء قرارات صدامية مع حكام
الإمارات الأقل ثراء والأكثر هامشية، وهذا ما كان واضحا في سلسلة قرارات أتى عليها
حكام الإمارات الثرية ولم تكن توافق وتتفق مع ميول الإمارات الأقل ثراء والأكثر
هامشية ضمن تلك المنظومة.
المكاسرة الاقتصادية وعدم التكافؤ في معدلات
النفوذ المالي والاقتصادي بين حكام الإمارات عزز استبداد حكومتي أبو ظبي ودبي في
القرارات المهمة والأخرى المصيرية، حيث مالت الكفة مرارا لتحالفات وقرارات هاتين الإماراتيين
اللتين تحالفتا مع حكومات الاستبداد في المنطقة العربية، كذلك ذهبت إلى أقصى
الخيارات وأكثرها عجرفة متمثلة بتحالف مع كيان صهيوني يزدري العرب، ومشروعه يقوم
على إحلال الصهاينة في العالم العربي بإرث يحتقر العرب ويحث على سحقهم واستعمال
أموالهم لتمويل المشروع الصهيوني بالعقل الصهيوني، من أجل تحويل المنطقة العربية
برمتها كمنطقة نفوذ جغرافي واقتصادي للمشروع الصهيوني الذي يهدف إلى الحصول على
أيدي عاملة عربية رخيصة، كما صرح القادة الإسرائيليون أكثر من مرة ضمن رؤيتهم لشرق
أوسط جديد.
ومما يميز حكومة دولة الإمارات عملها على
الهندسة الديمغرافية الأمنية للوافدين العرب والأجانب، حيث لا تقبل حكومة دولة
الإمارات الأمنية إصدار تصريحات بالعمل والإقامة لوافدين عرب معروفين بمعارضتهم
لأنظمة الاستبداد في أوطانهم خاصة من مصر وسوريا، حيث تحرص على رفض استقبال وتلغي
إقامات كل وافد يعارض سياساتها المحلية والإقليمية والدولية أو ينتقدها.
بذلك يشغل المنابر الإعلامية والثقافية ومنصات
التأثير في دولة الإمارات شخصيات ثقافية وسياسية ودينية واقتصادية موالية ومتفقة
مع سياسات دولة الإمارات، بخاصة أن معظمهم وفد لدولة الإمارات هربا من تردي
الأوضاع السياسية والاقتصادية في أوطانهم بحثا عن الرفاهية الاقتصادية والأمن
والثراء السريع، أو بيئة آمنة لتشغيل أموالهم في مجال اقتصادي مهيأ لتبييض تلك
الأموال ضمن عجلة اقتصادية رأسمالية لا تكترث بأصول تلك الأموال ومصادرها.
تماهت الشخصيات المؤثرة إعلاميا والعاملة
بالمؤسسات الإعلامية التي تبث من أرض دولة الإمارات مع الخطة الإعلامية الحكومية
لتبييض جرائم دولة الاحتلال، باعتماد السردية الصهيونية في ما يتعلق بقضية احتلال
فلسطين، وساندت تلك السردية الإعلامية الواقع التعليمي الذي تسيطر عليه الحكومة
الأمنية سيطرة كاملة، حيث مررت السردية الصهيونية ضمن مناهجها التعليمية. فقد
رأينا بمناهج التعليم الإماراتية الإشارة لأبو ديس كعاصمة لدولة فلسطين مثلا،
وغيرها الكثير من السرديات الصهيونية والإسرائيليات التي تمررها الماكينة
الإعلامية والتعليمية بهدف نقل قضية فلسطين من قضية تحرر وطني إلى صراع داخلي على
أرض.
لا يمكن فهم التصريحات التي يخرج علينا بها من
يعلنون الولاء الرخيص والانحياز الأعمى لسياسات حكومات تضع ثبات حكامها على مقاعد
الحكم الأمني الاستبدادي كأولوية، دون فهم السياقين الاجتماعي والاقتصادي لتلك
التصريحات المنافية للعقل والمنطق والتي تمثل إعلان انبطاح أمام المشروع الصهيوني
بالكامل تحت غطاء المال العربي. فالمال غير المثقف أيضا كالسلاح، والسلطة غير
المثقفة قد تحاصر وتقتل أصحابها وتحولهم للقمة سائغة على موائد أعدائهم.
وتوظيف المال العربي لنهضة دولة الاحتلال وفي
خدمة مشروعها الاستيطاني بفلسطين المحتلة يعبر عن حالة إفلاس سياسي كامل، باستعمال
النفوذ المالي كورقة ضغط أخيرة من أجل تثبيت مقاعد الحكم الأمني الاستبدادي في
مجتمعات تعرض مواطنيها ووافديها وكل من يتابع إعلامها؛ لسيل معلومات انتقائي يحول
جزءا كبيرا منهم لقطعان متماهية مع سياسات قائد القطيع الذي يمثل جنديا على قطعة
شطرنج تديرها القوى العظمى في الساحة الدولية.
ما ميز جيل المؤسسين في إدارتهم السياسية
والمجتمعية رغم الفارق الزمني عن الجيل الحالي من الحكام؛ هو التزامهم بمجموعة من
المبادئ الإنسانية والأخلاقية في السياسة الداخلية والإقليمية والدولية، فكانت
قضايا العرب والمسلمين تشكل هاجسا لهم في اتخاذ قراراتهم والميل لدعم تلك القضايا،
بينما أثبت الجيل الجديد من الحكام إخلاصه لقيم الرأسمالية واقتصاد السوق ورغبة
جامحة بالنفوذ والسيطرة الداخلية والإقليمية، بطريقة لا تحترم قواعد الجوار ولا
المصير المشترك مع الدول القُطرية العربية التي كانت أكثر تماسكا في قراراتها في
عهد المؤسسين وأكثر نزوعا للاتحاد مما هي عليه الآن.
أدرك بعض المثقفون الإماراتيين في المنفى
أهمية التصدي لمشروع التطبيع وضرورة اتخاذ خطوات عملية من أجل التصدي لتلك
الانبطاحة للمشروع الصهيوني، وعلى قلة عددهم وإمكانياتهم أسسوا رابطة إماراتيين ضد
التطبيع، ومن أقدموا على تلك الخطوة الهامة للتصدي لذلك التحالف الصهيو-عربي هم
نخبة من المثقفين المهمومين بقضايا وطنهم وقضايا العرب وجوارهم العربي، ولم يلقوا
الترحيب داخل وطنهم الذي يحرص على الهندسة الديمغرافية للمواطنين والوافين فيه،
بحيث لا يجرحون قرارات الحكام ولا ينتقدونها، وبذلك يكونوا قد أثبتوا أن رفض أن
يتم المشروع الصهيوني بالمال العربي والأيدي العربية العاملة الرخيصة ممكن، طالما
أن المثقف أو المواطن العادي مستعد لتكبد الخسارات من مثيل الرفض المجتمعي على
المستوى الخاص والعام واستهدافهم في أمنهم وأمن عائلاتهم في بيئة قبائلية، حيث يتم
توظيف الضغط القبائلي من أجل تحديد نشاطاتهم المعارضة في الخارج.
على الرغم من شدة تيار التحالف مع إسرائيل على
مستوى حكام الإمارات الأكثر ثراء، إلا أن هذا الموقف وهذا التحالف لا ينسجم
انسجاما تاما مع المطلب الشعبي أو مع الرغبة الجماعية الاتحادية لكافة حكام
الاتحاد، ومهما بلغ ذلك التحالف من قوة على كافة المستويات إلا أنه يظل هجينا غير
متوافق مع المصالح العربية ومصالح تلك النخب التي ستكون أول ضحاياه عند التدقيق في
النشيد الوطني الإسرائيلي "الأمل: هاتيكفاه" الذي يتوعد بإراقة دماء
العرب.