على مدار الأيام الماضية وفي العشر الأواخر من رمضان، تحولت القلوب قبل الأبصار إلى
القدس قبلة المسلمين الأولى، التي تصدرت أحداثها المشتعلة الأخبار العاجلة بوسائل الإعلام، لتحظى أنباء المناوشات اليومية في الشيخ جراح مع المستوطنين، ومواجهات باب العامود مع قوات
الاحتلال باهتمام بالغ، بعدما فرضت نفسها على وكالات الأنباء، وبات الجميع يترقب اشتعال
انتفاضة ثالثة.
هنا القدس.. تكفي رصانة الكلمة، وما تستحضره الأذهان من معان سامية عند سماعها؛ فهي البوصلة الحقيقية للشعوب العربية والإسلامية، والقضية الأم التي تتوحد خلفها الرايات على اختلاف توجهاتها ومشاربها الدينية منها والقومية، ولا يختلف أحد على ما تمثله أولى القبلتين من أهمية للعرب والمسلمين.
الشيخ جراح، لم يعد ذلك الحي السكني الذي يقع خارج أسوار البلدة القديمة ضمن سبعة أحياء، والذي تسعي سلطات الاحتلال جاهدة لالتهام بيوته بشتى السبل؛ فقد تحول إلى أيقونة للنضال وبات مصدر إلهام للشباب العربي، وعنوانا للاعتزاز بالأرض والدفاع عن المقدسات، بعد مشاهد البطولة والتضحية التي أظهرها المرابطون من أبناء القدس.
غصت مواقع التواصل الاجتماعي، ولا سيما الكوكب الأزرق "فيسبوك" بوسوم وعبارات تضامن واسعة النطاق تحمل اسم الحي العريق، فأزالت الغبار عن رابطة خفية تجمع القلوب والأرواح؛ سعت الأنظمة العميلة إلى تفكيكها عبر الانغماس أكثر في وحل
التطبيع، وتقديم مختلف أنواع التنازلات للمحتل الغاصب، من أجل تكوين صورة ذهنية مشوشة عن القضية في أذهان الجيل الجديد، الذي لم يعايش تلك الحروب الدامية أو المجازر على مدار سبعة عقود. إلا أن شواهد الواقع تؤكد أن محاولة جر الشعوب إلى هذا المستنقع الآسن باءت بالفشل، وأن المؤتمرات والأغاني العاطفية المشتركة مع أولاد العم، وما صاحبها من حملات إعلامية تخطت تكاليفها مئات الملايين ذهبت جميعها أدراج الرياح، لتظهر الحقيقة بوضوح لا لبس فيه؛ فالحكومات العربية في واد، والشعوب في واد آخر.
تبددت أسطورة "
الفلسطينيون باعوا أرضهم" مع الصور التي تنقلها الكاميرات والتي تظهر استعداد المقدسيين للموت دفاعا عن بيوتهم، رغم الحملات المتوالية لانتزاعهم من أرضهم رغبا ورهبا؛ فالبيت الواحد يصل سعره إلى عشرات الملايين من الدولارات، وهو ما يمكن أن يوفر لهؤلاء عيشة رغيدة في أي دولة غربية إذا أرادوا. وفي ظل السعي الحثيث لمستثمري دولة خليجية في شراء محال وبيوت البلدة القديمة من الفلسطينيين بأسعار فلكية أملا في إهدائها إلى أولاد عمومتهم، يثبت الفلسطينيون مجددا أن الأرض المباركة غالية جدا، وأن مفتاح العودة ليس تراثا شعبيا وإنما عقيدة راسخة تتناقلها الأجيال، وأن أقدام المقدسيين ثابتة في الأرض المباركة ولها جذور تحمي المقدسات وتذود عن شرف الأمة.
ظلت القضية الفلسطينية محط الأنظار منذ النكبة الأولى عام 1948، واحتلت بؤرة الاهتمام خلال فصول الصراع مع المحتل حتى جاءت اتفاقية أوسلو، والتي قسمت الداخل الفلسطيني إلى معسكرين، وسط ما يشبه خط أعداد تتمترس المقاومة على أحد أطرافه، ويقبع فريق التنسيق الأمني المقدس على الطرف الآخر، وبين الطرفين نقاط تماس وأخرى متباعدة لفصائل تقترب من هذا الطرف أو ذاك وفق معطيات الواقع ومستجدات الأحداث.
ومع احتلال العراق في 2003 ظهرت بؤرة أخرى للصراع، وتحولت الأنظار إلى وجهة جديدة بعيدا عن فلسطين، حتى جاءت ثورات الربيع العربي - وفي القلب منها الثورة المصرية - بما تحمله من آمال عريضة في الحرية والانعتاق من التبعية، أملا في إعادة البوصلة مرة أخرى صوب فلسطين بعد ترتيب البيت من الداخل. وهنا تدخلت الثورات المضادة مدعومة بالمال الخليجي؛ فتبددت الآمال بعد الانقلاب العسكري في مصر، واشتعال الصراعات في سوريا، وليبيا، واليمن، لتتواري القضية المركزية خلف أستار الواقع المرير الذي خلفته خيبات الأمل المتوالية في بلدان الربيع العربي. واستفاقت الشعوب العربية على أكثر من فلسطين في وقت واحد؛ فانكفأ كل قطر على جراحاته وتراجعت القضية الأم التي مثلت لعقود طويلة أكبر بواعث الوحدة لدى هذه الأمة.
ووسط هذا الكم الهائل من الإحباطات، خرج المرابطون في بيت المقدس وأكنافها، كطائر الفينيق الذي يبعث من وسط الرماد؛ لتجتمع حولهم القلوب. ويعظم الرجاء في تحقيق حلم الحرية تحت شعار "أمة واحدة"، مع بوادر انتفاضة ثالثة ظهرت إرهاصاتها في هذا الوقت، الذي يشبه ما كان عليه الحال المناطق الفلسطينية منذ 20 عاما أيام الانتفاضة الثانية، حتى أن المشهد يبدو متطابقا من أوجه كثيرة، وربما تفوق الأحداث الحالية في حدتها تلك التي كانت سببا في اندلاع "انتفاضة الأقصى"؛ فالكتل الاستيطانية في تزايد، بالتزامن مع موجات التطبيع المتتالية، التي ازدادت وتيرتها وكأن القوم في سباق محموم نحو غاية سامية.
أكتب هذه الكلمات والمسجد الأقصى يتحول إلى ما يشبه ساحة الحرب، وقنابل الغاز تمطر المصلى القبلي وقبة الصخرة، لتزداد حالات الاختناق، وترتفع أعداد الإصابات بالرصاص المطاطي، تزامنا مع منع قوات الاحتلال الأطقم الطبية من إسعاف الجرحى والمصابين. ورغم ذلك أشعر بتفاؤل شديد تجاه ما هو قادم؛ فقد أظهرت تلك الهبة المباركة الوجه البشع للاحتلال، وأزالت مساحيق التجميل عن الأنظمة العميلة، وبث المرابطون الأمل في النفوس، وضربوا أروع أمثلة التضحية والثبات لجيل قادم يشكو من غياب القدوة، وصدحت مآذن الأقصى بهتافات المقاومة لا عبارات الاستغاثة.
وإن كانت انتفاضة الأقصى قد أعادت مقررات أوسلو إلى المربع صفر، فأحسب أن الانتفاضة القادمة ستوقف تسونامي التطبيع وترسل دعاته إلى المكان الذي يستحقونه في مزبلة التاريخ.