قضايا وآراء

سليمان الحلبي.. ثورة بلا حدود

إبراهيم بدوي
1300x600
1300x600
من المفيد أن ننظر خلفنا ونتأمل صفحات التاريخ بين حين وآخر، لنستلهم الدروس والعبر، ونستشرف ملامح المستقبل، فالتاريخ غالبا ما يعيد نفسه إذا لم تتعلم منه الأمم، وقد تتكرر فصول بأكملها إذا لم تحسن قراءة وقائع الماضي وتسقطها على مشاهد الحاضر، لتخرج بنتائج مغايرة.

تحل هذه الأيام ذكرى قتل الجنرال الفرنسي كليبر قائد حملة "جيش الشرق" الفرنسية، على يد الطالب الأزهري سليمان الحلبي، الذي جاء من الشام إلى مصر مرورا بالقدس ثم غزة، وشهد ثورة القاهرة الثانية ضد الفرنسيين.

طعنة الحلبي لم توقف قلب الجنرال كليبر فقط، وإنما كانت سببا في إيقاف أحلام فرنسا التوسعية في المنطقة، بعدما رحل قائد الحملة نابليون بونابرت في آب/ أغسطس 1799، متأثرا بسلسلة من الهزائم دفعته إلى الفرار من مصر تاركا خلفه الجنرال كليبر في قيادة الجيش.

 الحراك الثوري الذي شهدته مصر في هذا التوقيت، والذي انتهى بخنجر الحلبي المغروس في قلب القائد الفرنسي، لم يكن وليد اللحظة، فقد ثارت القاهرة بقيادة المشايخ وطلاب الأزهر في تشرين الأول/ أكتوبر 1798. وربما كان للثورة الأولى أثر بالغ في صياغة هذا الشعور العام الذي دفع الحلبي إلى تلك اللحظة الفارقة، وترجمه الحس الشعبي السائد في القاهرة آنذاك على هيئة ثورة عارمة ترفض وجود المحتل الفرنسي على أرض مصر.

خرجت الثورة الثانية من بولاق وتولى قيادتها هذه المرة التجار والأعيان، خلفا لمشايخ الأرهر، وكان من زعمائها السيد عمر مكرم، نقيب الأشراف العائد من الشام، وكبير التجار السيد أحمد المحروقي، والشيخ الجوهرى، وكان الحاج مصطفي البشتيلى من أهم قادتها الميدانيين، لتستمر 33 يوما، تعاون خلالها الأهالي بما يملكون من موارد محدودة، وتحركوا لهدف واحد هو إبعاد الفرنسيين عن المحروسة.

جاء رد فعل قائد الفرنسيين على قدر التوقعات، فحرق البيوت وأعمل القتل والذبح في العامة، حتى اكتظت الشوارع بالجثث. ويصف الجبرتي الإبادة الجماعية التي تعرض لها أهالي بولاق بقوله: "هجموا على بولاق من ناحية البحر، ومن ناحية بوابة أبي العلا، وقاتل أهل بولاق جهدهم، ورموا بأنفسهم في النيران حتى غلب الفرنسيون عليهم وحاصروهم من كل جهة، وقتلوا منهم بالحرق والقتل وتلوا بالنهب والسلب، وملكوا بولاق وفعلوا بأهلها ما تشيب له النواصي، وصارت (جثث) القتلى مطروحة في الطرقات والأزقة، واحترقت الأبنية والدور والقصور، وخصوصا البيوت والرباع المطلة على البحر، وكذلك الأطراف، وهرب كثير من الناس عندما أيقنوا بالغلبة فنجوا بأنفسهم إلى الجهة القبلية، ثم أحاط الفرنسيس بالبلد، ومنعوا من يخرج منها، واستولوا على الخانات والوكائل والحواصل والودائع والبضائع، وملكوا الدور وما بها من الأمتعة والأموال والنساء والخواندات والصبيان والبنات ومخازن الغلال والسكر والكتان والقطن والأباريز والأرز والأدهان والأصناف العطرية، وما لا تسعه السطور ولا يحيط به كتاب ولا منشور، والذي وجدوه منعكفا في داره أو طبقته ولم يجدوا عنده سلاحا نهبوا متاعه، وعروه من ثيابه ومضوا وتركوه حيا. وأصبح من بقي من ضعفاء أهل بولاق وأهلها وأعيانها الذين لم يقاتلوا فقراء لا يملكون ما يستر عوراتهم".

تحرك علماء الأزهر من أجل حقن الدماء، وإيقاف الإبادة الجماعية التي مارسها الجيش الفرنسي بحق المواطنين، وانتهت مفاوضاتهم بعقد اتفاق في  21 من أبريل 1800م، برحيل العثمانيين والمماليك عن القاهرة وإيقاف القتال شريطة عفو كليبر عن سكان القاهرة بمن فيهم الذين شاركوا في الثورة.

وكعادة قومه، تنكر كليبر لعهده، بعد إخماد الثورة، ففرض غرامات على عدد العلماء والأعيان، وصادر أملاك السيد أحمد المحروقي، وأعدم الحاج مصطفى البشتيلي، وسجن الشيخ محمد السادات في القلعة، وفرض على دور المواطنين وممتلكاتهم أجرة سنة كاملة، حتى شلت الضرائب الباهظة حراك المجتمع.

هذه الخلفية التاريخية الموجزة لإجرام جيش فرنسا في مصر، قد تفسر ردة فعل الحلبي والدوافع التي حركته لتنفيذ عمليته في  الرابع عشر من حزيران/ يونيو  1800، بعد أقل من شهرين من إخماد ثورة القاهرة الثانية.

وفي سابقة غير معهودة في مصر، تشكلت محكمة عسكرية يومي 15 و16 حزيران/ يونيو 1800، للنظر في القضية، ولم يجرؤ أحد على الدفاع عن سليمان الحلبي، فعينت له المحكمة الهزلية مترجما ليدافع عنه.

وجاء حكم عسكر فرنسا صادما للمصريين، فقد حكمت المحكمة بإحراق اليد اليمنى لسليمان الحلبي وإعدامه على خازوق مع ترك جثته للطير، وإعدام أربعة من أصدقائه الأزهريين الذين علموا بمخططه؛ بقطع رؤوسهم وإحراق جثثهم أمام عينيه، إضافة إلى مصادرة أموال المتهم الهارب عبد القادر الغزي.

ويبدو أن عسكر مصر ورثوا هذا الأسلوب من عسكر فرنسا، حتى برعوا في مصادرة أموال المعارضين السياسيين، وجباية الأموال من المتهمين وأهليهم دون وجه حق، بداعي تحصيل مصاريف إدارية ورسوم تصل إلى مئات الآلاف من الجنيهات، يدفعها المتهمون دون سند أو مسوغ قانوني في المحاكم العسكرية، وإلا يتم منعهم من حقهم الطبيعي في انتداب من يدافع عنهم، فتعين لهم المحكمة محاميا على غرار المترجم الذي كان يدافع عن سليمان الحلبي.

أنظر إلى الماضي بحسرة وأنا أقف على خط الزمن في تلك المرحلة الفارقة من عمر أمة مقطعة الأوصال بحدود وهمية، ومهزومة نفسيا أمام أدعياء الحضارة، وأشفق كثيرا على الأزهر الذي كان منارة للدنيا، ومعينا عذبا ينهل من أروقته الظامئون للعلم من شتى بقاع الدنيا. ولم يكتف مشايخه وطلابه يوما بتحصيل العلم الشرعي، وإنما قادوا الثورة الأولى على الفرنسيين وتصدروا المشهد في الطليعة، فلم يكن هناك بد من إضعافه، لتتوالى مخططات إبعاده عن قضايا الأمة، وكان أكثرها خبثا وأقواها أثرا تأميم أوقافه التي منحته الاستقلالية الكاملة عن الدولة المركزية لقرون، ليصبح تابعا للسلطة التنفيذية في مصر بعدما فقد مصدر قوته.

أتحسر على إبعاد النقابات المهنية ومنظمات المجتمع المدني وغياب دورهم في معادلة التغيير، فالتجار والمشايخ والأعيان والأشراف كان لهم دور بارز في طليعة ثورة القاهرة الثانية، وأقف إجلالا للطالب الأزهري، صاحب الـ24 ربيعا، الذي تسامى عن القومية المصطنعة وتماهى مع قضايا أمته. فسليمان الحلبي لم يكن حدثا عابرا طوته صفحات التاريخ، وإنما كان يعبر عن حالة وجودية فريدة، وشعور وحدوي جارف، لم يشهد حدودا مصطنعة، ولم يعرف فروقا بين شامي ومصري ومغربي.

وتبقى جمجمة سليمان الحلبي بمتحف التاريخ الطبيعي في باريس، شاهدة على وحشية وبربرية دعاة الحرية والحضارة، والتي لم تفلح عطورهم الفواحة في إخفاء رائحة مذابحهم في بلاد العرب شرقا وغربا، ولم يحسن كلامهم عن الحرية وحقوق الإنسان شيئا من بشاعة ملامح نظامهم العنصري الذي سرق مقدرات الأمم وأباد الشعوب.
التعليقات (1)
ابو محمد
الجمعة، 18-06-2021 06:54 م
رحم الله الحلبي وادخله فسيح جناته