تقارير

الشعر والهوية الفلسطينية.. إسكندر الخوري البيتجالي نموذجا

الشاعر اسكندر الخوري البيتجالي أسهم في تشكيل الهوية الفلسطينية شعرا- (أرشيف)
الشاعر اسكندر الخوري البيتجالي أسهم في تشكيل الهوية الفلسطينية شعرا- (أرشيف)

خمسٌ وعشرون مقالة كتبتها في هذه السلسلة بحثاً وتنقيباً وترسيخاً للأدب الفلسطيني والنهضة الفلسطينية في كيان غير محدد المعالم، حيث كانت فلسطين التاريخية تتمدد وتتقلص في بلاد الشام، إلى أن جاء عصر الحدود التي رسمتها اتفاقية سايكس بيكو، فدخلنا مرحلة الخرائط المرسومة، وباتت حدود فلسطين واضحة وفق الرؤية الاستعمارية، وبالتالي دخلنا مرحلة خريطة "فلسطين الانتدابية" (وهو المصطلح الذي كان يصححه لنا دائماً البروفيسور عبد الستار قاسم رحمه الله).

خمسٌ وعشرون مقالة كتبتها عن مرحلةٍ لم تتبلور فيها الهوية الفلسطينية، لكن معالمها ظهرت في شعر تلك المرحلة، وملامح الانتماء تجلّت في كثير من أشعارهم. وهو ما ظهر لنا في هذه السلسلة.

إن أهمّ ما أثبتناه في هذه السلسلة، هو أن النهضة الأدبية الفلسطينية لم تبدأ في ظل الانتداب وحدود سايكس بيكو، بل إن الهوية الفلسطينية من حيث الانتماء (لا الحدود) كانت واضحة المعالم في شعر تلك المرحلة (أواخر العهد العثماني).

أما وقد قررنا أن ننتقل من تلك المرحلة (رغم أننا لم نتناول كل شعرائها)، إلى الموجة الثانية للنهضة، المتمثلة بجيل ولد بعد العام 1900، وكانوا رواد فترة الانتقال (1919- 1926) التي اقتصرت موضوعاتها على التدين ومديح النبي صلى الله عليه وسلم، والتركيز على الجوانب الأخلاقية السياسية. فإننا لن نترك ذكر بقية الشعراء السابقين لتلك المرحلة.

وللدلالة على أهمية الوطن والقضية الفلسطينية، فقد تأخر التيار الرومانطيقي الفلسطيني بالظهور، على غرار أدباء المهجر اللبنانيين وأبو القاسم الشابي في تونس ويوسف التيجاني في السودان، وغيرهم.. إن شعراء تلك المرحلة (النهضة الثانية) كانوا ملتزمين وطنياً بقضيتهم وتجلى ذلك بالشعر الوطني الذي سيطر على الشعر الفلسطيني بشكل عام، متأثراً بالأحداث التي تفاعلت بوجود الاحتلال البريطاني والهجرة اليهودية.

في المرحلة الممتدة من عام 1900 (البدء الفعلي لتنفيذ مقررات مؤتمر بازل الصهيوني)، وعام 1919 (التنفيذ الفعلي لتصريح بلفور)، شهدت فلسطين عدداً من الشعراء المخضرمين (مثل النشاشيبي والسكاكيني وعبد الباقي) ومنهم الذين لم نذكرهم. 

لا بد قبل الانتقال إلى مرحلة (النهضة الثانية) أن نمرّ سريعاً على أحد هذه الأسماء المتصلة بالمرحلة الأولى، والذي يمثل شريحة واسعة من الفلسطينيين.

الشاعر إسكندر الخوري البيتجالي

هو إسكندر جرجس يعقوب الخوري البيتجالي (1888- 1973)، الكاهن ابن الكاهن الأورثوذكسي، والقاضي والمحامي والكاتب والشاعر الفلسطيني، المولود في بيت جالا، درس في مدرسة الروس في الناصرة التي كان والده يدرّس فيها العربية. وكان زميل دراسة مع ميخائيل نعيمة ونسيب عريضة.

ثم انتقل إلى مدرسة البطريركية في بيروت، ونال شهادة الحقوق وعمل بها في فلسطين. وأتقن ست لغات ونشر مقالاته وقصائده في المجلات والصحف الفلسطينية آنذاك.

 

                               إسكندر الخوري البيتجالي

تقاعد عام 1945 وتفرغ للإنتاج الأدبي والشعر، ثم عاد بعد النكبة عام 1948، وعمل مع الصليب الأحمر مستشاراً قانونياً، ثم مفتشاً في مدارس اللاجئين.

أما عن شاعريته، فحسب معجم البابطين الشعري، "من رواد الشعر الفلسطيني في الموضوعات الاجتماعية، والاهتمام بالسرد في تشكيل القصيدة، وهذا ما غلب على شعره المباشر بما يستدعي من موضوعية، فكان كثير من شعره أشبه بالمقالة الصحفية. اهتم بعالم الطفل وتربية الناشئة بالأناشيد"..

أصدر عدة دواوين شعر منها: الزفرات (1919)، دقات قلب (1923)، المعلوم والمجهول (1935)، المثل المنظوم (1946)، العنقود (1946).

وله من النثر عدة روايات منها: الحياة بعد الموت، آلام وآمال، في الصميم، الحرب العالمية الثانية، جولة في أمريكا اللاتينية (من أدب الرحلة).

وترجم عدة كتب عن الفرنسية والإنجليزية والروسية.

يظهر في شعره اهتمامه بالشأن العام، والأحداث التي تهم الفلسطينيين، فقال في زلزال نابلس عام 1927، مثلاً: 

في كل بيت أنّة وعويلُ                  ومدامع فوق الخدود تسيلُ
هذا يصيح وتلك تندب طفلها               وهنا جريح بائس وقتيل
وهناك حبلى أجهضت وهنا غدت         أم الرضيع كأنها مخبول
ومساكن سقطت على سكانها  والأرض ترقص والجبال تميل
علت المناحة في البلاد كأنما          تبكي على أولادها راحيل

وإثر الخلاف الذي تشب بين المسلمين والمسيحيين في حيفا على مقبرة ادعى كل منهما ملكيتها، ونشبت فتنة بين الناس يومها، فوقف شاعرنا منشداً قصيدة وحدوية، وقال:

لا لن تنال من اتحاد الأمتين يد الفتن
كنا وما زلنا كما كنا فدا هذا الوطـــن

وقد اشتهرت له قصيدة "بلد السلام":

بلدَ السلامِ وليس فيكَ سلامُ               مني إليكَ تحيةٌ وسلامُ 
أنا إن نأيتُ وإن أقمتُ فإنني لكَ     مخلصٌ ما لي سواك مُقام 
تفديكَ نصرانيّتي ويقيكَ من            غدرِ الزمانِ وكيده الإسلام 
دينان أُسُّهما العروبةُ قبلما             كانت قساوسةٌ وكان إمام 
نعمتْ فلسطينٌ بها وتجاوبتْ              أصداءها عمّانُ والأهرام 
والرافدان تغنّيا وتمايلتْ                    أعطافُ لبنانٍ بها والشام 

أخيراً، سنبدأ من العدد المقبل، بالحديث عن الموجة الثانية من النهضة الأدبية الفلسطينية التي نشأت في ظل أحداث جسيمة أدت إلى النكبة. مع مجموعة شعراء على رأسها شاعر فلسطين إبراهيم طوقان.

 

*كاتب وشاعر فلسطيني


التعليقات (0)