مقالات مختارة

رامسفيلد في سلة مهملات التاريخ: صقر الاجتياح وتجميل الوحشية

صبحي حديدي
1300x600
1300x600

لا شماتة في الموت، يقول المبدأ الأخلاقي العريق، الذي لا يلغي مع ذلك أيّا من حقوق تبيان مساوئ الميت؛ خاصة إذا كان يستحق صفة مجرم الحرب، وفي ذمته مئات أو آلاف أو حتى ملايين الضحايا ضمن مسؤوليات مباشرة أو غير مباشرة. هذه حال وزير الدفاع الأمريكي الأسبق دونالد رامسفيلد (1932 ـ 2021)، الذي رحل عن عالمنا وفي سجلّه الوظيفي مناصب شتى بينها وزارة الدفاع مرّتين، وألقاب عديدة حفظ له التاريخ واحدة مزدوجة: بطل اجتياح أفغانستان، واجتياح العراق. وأمّا في الملفات التفصيلية ضمن الألقاب، فإنّ أفانين التعذيب الوحشية ضدّ المعتقلين في سجنَيْ أبو غريب وغوانتانامو، هي العلامة المسجلة الأكثر بشاعة وانحطاطا.


حجب الشماتة في الموت لا يلغي، كذلك، الحق في إحالة الميت إلى سلّة مهملات التاريخ؛ أو تلك الصيغة الموازية التي عدّلها الثوري والمنظّر الروسي ليف دافيدوفيتش تروتسكي إلى «مزبلة التاريخ»، وشاءت المفارقة أن يكون هو نفسه بين أوائل ضحايا ذلك التعديل القاسي الرهيب. لقد ربح معركة تنظيم الجيش الأحمر ومعارك إرسال «القطار البلشفي» إلى آخر أصقاع روسيا، أو إلى «عين الشمس» كما كان يحلو له القول؛ لكنه نام على حرير نظرية «الثورة الدائمة» متجاهلا تلك الحروب الخفية التي كان جوزيف ستالين يضرم أوارها في اللجان الحزبية والمفوّضيات السوفييتية، فكان أن وقع القضاء واختار الثوري الرومانتيكي بقعة نائية في المكسيك، لاختتام دورة التاريخ التي لا ترحم.


وفي ولاية نيو مكسيكو، في أمريكا الراهنة التي أخرجت دونالد ترامب من البيت الأبيض دون أن تخرجه من أفئدة وعقول قرابة 70 مليون أمريكي محافظ أو عنصري أو انعزالي أو شعبوي، أغمض رامسفيلد عينيه للمرة الأخيرة؛ محتفظا، أغلب الظن، بذاكرة فخار صقرية محاربة عسكرتارية نابعة من اليقين ذاته الذي استخدمه جورج بوش الابن في رثائه: أنه خلّف أمريكا أكثر أمانا. كلّ هذا، رغم أنّ المفارقة السوداء شاءت أن يرحل الصقر العجوز وجيوش بلاده تحزم الحقائب لمغادرة أفغانستان، بعد أكثر من 111 ألف قتيل أفغاني في صفوف المدنيين، و64100 ضمن أفراد الجيش الوطني والشرطة، وأكثر من 2300 قتيل أمريكي، حسب تقديرات الأمم المتحدة وجامعة براون. حصيلة خراب دامية، لكنها لا تضمن البتة أن يسقط البلد مجددا في قبضة الطالبان، وكأنّ 20 سنة من التدخل العسكري الأمريكي لم تُنتج ما هو أوضح من إعادة تمكين الخصم!


وقبيل سطوع نجمه كوزير دفاع الاجتياحات الأمريكية في أفغانستان والعراق، كان رامسفيلد قد دخل إلى وقائع الشرق الأوسط من بوّابة الزيارة التي قام بها إلى العراق أواخر العام 1983 مبعوثا خاصا من الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان؛ حيث استقبله صدام حسين، ليسمع منه أمنيات البيت الأبيض بتفعيل العلاقات بين واشنطن وبغداد، والاتفاق على صفقات نفط سرّية، وجسّ النبض حول خط أنبوب للنفط عبر الأردن، فضلا عن تشجيع النظام العراقي على المضيّ أبعد في الحرب مع إيران. وفي مذكراته «معروف وغير معروف» 2011، سوف يروي رامسفيلد تفاصيل ذلك اللقاء من وجهة نظره بالطبع؛ نافيا كلّ ما اقترن به، سابقا ولاحقا، من “تقوّلاتّ”، عاجزا في كلّ حال عن استبعاد رغبة إدارة ريغان في التودد إلى النظام العراقي، ضمن أجندة إقليمية واسعة النطاق.

التاريخ من جانبه، فتح سلال مهملاته على وسعها لاستقبال رامسفيلد، بوصفه ذلك الصقر الذي صرف جلّ حياته في تبرير اجتياح الأمم وتجميل قبائح التعذيب


في تبرير اجتياح بغداد سنة 2003، سعى رامسفيلد إلى اختصار المغامرة العسكرية الأمريكية على النحو الغائم والفاضح والمجازي بالمعنى الأردأ للتزييف، هكذا: «إعادة العراق إلى العراقيين»! في الآن ذاته كانت جيوشه على الأرض منهمكة بإنزال أحمد الجلبي في الناصرية من دون سابق إنذار (ونعلم اليوم ـ من خلال كتاب مايكل غوردن وبرنارد تراينر «كوبرا II: القصة المستورة لغزو واحتلال العراق» 2006 ـ أنّ تلك الخطوة جرت من دون علم الساسة المدنيين، بمَن فيهم الرئيس بوش الابن نفسه، ونفّذها الجنرالات كما يليق بأعرق الأنظمة العسكرتارية)؛ وفي فتح شوارع البصرة وبغداد أمام اللصوص وناهبي المتاحف والبيوت والدوائر الرسمية، مع حراسة مبنى واحد وحيد في بغداد كلّها: وزارة النفط العراقية!


كذلك لم يبخل رامسفيلد في تسويق جملة الأفكار الجيو ـ سياسية التي نظّر لها رهط المحافظين الجدد، في غمرة تبشيرهم بـ«مشروع قرن أمريكي جديد»؛ التي اختُصرت يومذاك في ثلاثة أهداف استراتيجية على الأقلّ: 1) تحويل العراق إلى قاعدة عسكرية أمريكية ضخمة وحيوية، تزيل عن كاهل أمريكا أعباء بقاء قوّاتها في دول الخليج، والسعودية بصفة خاصة، وما يشكّله هذا الوجود من ذريعة قوية يستخدمها الأصوليون لتحريض الشارع الشعبي ضدّ الولايات المتحدة، وتشجيع ولادة نماذج جديدة من أسامة بن لادن ومنظمات على غرار القاعدة. 2) السيطرة على النفط العراقي، التي تشير كلّ التقديرات إلى أنه يقترب من موقع الاحتياطي الأوّل في العالم، أي بما يتفوّق على السعودية ذاتها، خصوصا في منطقة كركوك. 3) توطيد درس أفغانستان على صعيد العلاقات الدولية، بحيث تصبح الهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط، ومعظم أجزاء العالم في الواقع، مطلقة أحادية لا تُردّ ولا تُقاوم.


في البيت الأبيض، كان الرئيس يسبغ على شخص رامسفيلد كلّ ما يحتاجه الأخير من أجل تجميل الوحشية، متمثلة أولا في معتقل غوانتانامو، ثم سجن أبو غريب في العراق؛ ضمن حزمة إجراءات أخرى خارجة عن القانون الدولي والقانون الأمريكي ذاته أيضا، في سياقات ما أسمته الإدارة بـ «الحرب على الإرهاب»: «تذكروا… هؤلاء الأشخاص في غوانتانامو قتلة لا يشاركوننا القِيَم نفسها»، قال بوش الابن منذ مارس (آذار) 2002. وفي غوانتانامو احتُجز نحو 500 رجل من قرابة 35 جنسية مختلفة، لم تُوجه تهم بأية جرائم سوى إلى تسعة منهم فقط.

 

بعضهم اعتُقل في أفغانستان، وبعضهم نُقل إلى المعتقل ضمن «تكنيك» الخطف غير الشرعي الذي مارسته وكالة المخابرات المركزية هنا وهناك في مشارق الأرض ومغاربها. جميعهم تعرّضوا لصنوف مختلفة من التعذيب الجسدي والنفسي، فضلا عن الإهانة والتحقير والقهر المتعمد، والتقييد بالسلاسل، وإجبار المعتقل على ارتداء نظارات معتمة. على منوال لا يقلّ وحشية، تعرّف العالم على صورة المجنّدة الأمريكية لندي إنغلاند، وهي تجرّ سجينا عراقيا عاريا، مقيّدا من عنقه بطوق جلدي.


كانت إنغلاند بمنزلة كبش فداء ينوب عن كبار مجرمي الحرب، في وزارة العدل والبنتاغون والبيت الأبيض ذاته، ولهذا فإنّ قطاعا ملموسا داخل الرأي العام الأمريكي لم يرسل رامسفيلد إلى التقاعد الهانئ، كما فعل بوش الابن أواخر العام 2006 وبعد هزيمة نكراء للحزب الجمهوري في الانتخابات التشريعية، كان ملفّ العراق غير غائب عن أسبابها.

 

ولقد صدرت مؤلفات بارزة تفضح الملفّ الشائن، بينها «فريق التعذيب: مذكرات رامسفيلد وخيانة القيم الأمريكية» للمحامي البريطاني وأستاذ القانون فيليب ساندز، وكتاب جميل جعفر وأمريت سينغ «إدارة التعذيب: سجلّ موثق من واشنطن إلى أبو غريب»، وكتاب مايكل راتنر «محاكمة دونالد رامسفيلد: مقاضاة عن طريق كتاب» بالتعاون مع مركز الحقوق الدستورية. وفي فرنسا وألمانيا وإسبانيا جوبه رامسفيلد بدعاوى قضائية تفضح أدواره في ترخيص التعذيب عن سابق قصد وتصميم، وتلذذ أيضا.


التاريخ من جانبه، فتح سلال مهملاته على وسعها لاستقبال رامسفيلد، بوصفه ذلك الصقر الذي صرف جلّ حياته في تبرير اجتياح الأمم وتجميل قبائح التعذيب.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

(عن صحيفة القدس العربي)

التعليقات (1)
ابو حسان العانيني
الثلاثاء، 22-11-2022 12:20 م
في ذمتي واعتقادي ان رامسفيلد كان مصابا في عقله وبدنه وكان الواجب ادخاله الى مستشفى المجانين.