قضايا وآراء

حياة غير آمنة: جيل التصدي والثورات

رفقة شقور
1300x600
1300x600
الفبين خبر كارثة مفتعلة سياسياً وخبر كارثة طبيعية تتوالى أخبار المنطقة العربية، فمن اغتيال ناشط سياسي وقمع واعتقالات في فلسطين المحتلة، إلى أزمة معيشية خانقة في لبنان منعت الناس من التمتع بأبسط الحقوق كالماء والكهرباء والأدوية، إلى حرائق بغداد، واغتيالات نظام الديكتاتور السيسي لمعارضيه، إلى حرب اليمن وليبيا وسوريا، وأزمات تونس السياسية، إلى تداعيات كورونا وملف اللقاحات الفاسدة.. تتنقل البلاد العربية بين أزمة وأخرى بخفة تطمس معالم الحياة اليومية الطبيعية.

بين سلسلة الأزمات تلك، يبرز السؤال عن أي بيئة يصنعها الفساد السياسي في البلاد العربية والأنظمة الديكتاتورية، تلك البيئات المشحونة بكافة عوامل الطرد، حيث يبدأ الشباب العربي حياته على وقع تلك الأزمات فتراوده فكرة الهجرة، كالكي الذي يعد آخر العلاج لمجموع مشكلاته وأزماته، وحيث يبدو للشباب العربي الجانب الآخر من العالم منطقة خضراء وبيئة منعشة لأحلامه.

عند تقريب الصورة من فلسطين المحتلة، وهي التي تقع تحت الاحتلال الإسرائيلي وقمع السلطة وأجهزتها الأمنية، نتوقف عند صورة قمع الأجهزة الأمنية للشباب والشابات الذين خرجوا في مقاومة قمع الحريات وكاتم الصوت وضد مبدأ الاغتيالات السياسية. ماذا بعد حجم البطش والضرب والتعذيب والاعتقالات السياسية التي تعرضوا لها ومعظمهم تنقل بين سجون الاحتلال وسجون السلطة؟ وكيف تراود فكرة الهجرة من يعيش في الضفة أو في غزة، حيث باتت الاعتداءات اليومية من قبل الاحتلال والقمع اليومي للسلطة؛ هي واقعهم اليومي وانعدام ظروف الحياة الطبيعية هي السمة السائدة؟

من يفكر بالشباب في معمعة كسر المعارضة والهجوم عليها وفي ظل دائرة الفساد التي طالت مؤسسات السلطة، فباتت التعيينات والمنح التعليمية تخضع لمبدأ الفساد والمحسوبية؟ فمثلا: في مسيرة ضد القمع السياسي انطلقت في رام الله، قامت أحد الأجهزة الأمنية الفلسطينية باعتقال الشاب الفلسطيني ضياء مفيد زلوم. ضياء حاصل على مجموع ٩٩.٣ في الثانوية العامة، وهو شاب رياضي ومثقف، وابن لعائلة قضى أفرادها ما يزيد على ٧٠ عاما في السجون الإسرائيلية.

عند اعتقال الشاب ضياء على يد عناصر الأجهزة الأمنية التي عادة ما يفرز عليها أسوأ الطلاب في التحصيل التعليمي وأكثرهم قابلية لغسيل الدماغ، من سيفكر وهو سينهال عليه بالضرب أو بالأسئلة التي تشكك بفلسطينيته وانتمائه؟ كيف سيرى البلاد عن قرب تحت واقع القمع والتسلط والاحتلال؟ وكيف ستكون خياراته؟ ولماذا من يصنع السياسات في البلاد لا يفكر بالشباب وهم مستقبل البلاد؟ وكيف سيجعل أبواب المطارات الغربية هي الأقرب لهم ولأحلامهم من عواصم بلدانهم؟

أمام عنجهية التسلط والديكتاتوريات والثورات المضادة والفساد المتغول في مؤسسات الدول، لم يُترك للشباب العربي مجال للبناء كما أراد وعلى قياس تضحياته. فالشباب العربي الذي ثار في تونس ومصر والسودان وسوريا وليبيا أجهزت الثورات المضادة وتحالفات الدول الكبرى على آماله في التحرر من تسلط الديكتاتوريات، حيث أعادت الثورات المضادة وحكم العسكر الأمور بعكس إرادة الشباب الثائر الذي يعاني الآن من القمع والاعتقالات السياسية والإخفاء القسري في سجون الأنظمة الديكتاتورية، ومن فساد أجهزة الدولة.

صارت السمة الأبرز للعائلات العربية هي الهجرة والشتات والتمزق بين واقع البلاد وبين الشتات ومعاناة التمييز والعنصرية ضدهم في بيئات جديدة، وبذلك يعيش الشباب العربي الشطر الأكبر من حياته بين عنف سلطات بلاده وقمعها والحروب التي لا تنتهي من حروب دينية وطائفية وحروب بالوكالة، وبين واقع المجتمعات الجديدة في عالم يزيد فيه إيقاع الخطابات الشعبوية والعنصرية فتكاً بمكونات التعايش بين نفس أفراد المجتمعات، فإن نجا الشاب العربي بروحه وبعض أحلامه في بلاد المهجر، فإنه لا ينجو من واقع البلاد التي تطارده من مهجر إلى منفى.

جيل الشباب العربي حالياً ليس كسابقه من الأجيال، خاصة بأنه يعايش حالة من الوعي المبكر بالأوطان واكتمال الصورة لديه عما سينتظره في المنافي.. هذا الشباب العربي الحالم بواقع أفضل لمجتمعاته وصلت لوعيه قناعة مبكرة بأن من لا وطن حرا له لا كرامة له، فهو الذي أطلق شرارات التغيير في المجتمعات التي عاش واقعها. فالتوقف عند عزيمة وإدراك هؤلاء الشباب لحقوقهم ورداءة الواقع الذي يصادرها على الرغم من كل ما حصل عكس إرادتهم في التغيير؛ يشي بأن هناك إرادة قائمة لم يكسرها الترهيب في الأوطان ولا الترغيب بالمهجر. هنالك حالة وعي لتنوع مصادر المعرفة والمعلومة لم يصقل مثلها أي زمن مضى.

في مواجهة كابوس هجرة الشباب الحالي واعتداءات النظم السياسية على مساحاتهم وأحلامهم، نستحضر تجربة الشابة المقدسية منى الكرد وأخوها محمد الكرد. برز الشابان خلال مواجهات حي الشيخ جراح واعتداءات المستوطنين على السكان وعلى عائلاتهم بسبب تحديهم لقانون مصادرة أملاكهم وبيوتهم في حي الشيخ جراح لصالح شركة استيطانية.

مثلت منى ومحمد فكرة مهمة خارج التيار الذي يطالب الشباب بالهجرة خارج أوطانهم، فما فعله الشابان من الذود عن حقوقهم ولفت أنظار العالم إلى قضية حيهم وتعرية خبث مشروع الاستيطان الإسرائيلي؛ لهو دليل على أننا أمام جيل من الشباب بوعي مكتمل، لا يقبل الأفكار والشعارات والحلول الجاهزة التي يرميها من أراد أمامهم. فحالة التمسك والتشبث بالحق وعدم الخضوع لبطش سلطة الاحتلال؛ هي ما يجب أن يروى من قصص الشباب العربي.

إن شعار لن نرحل الذي رفعته منى الكرد وشقيقها التوأم محمد في وجه آلة القمع والعنف والمصادرة الإسرائيلية، هو دليل تحول في فكر الشباب العربي في علاجه لمجمل أزماته. فرغم ضغوطات الاحتلال والمصادرة والاعتداءات رأينا هذا النموذج الفلسطيني المبشر، والقادر على قول كلمة "لا" بكل الطرق الممكنة والمحالة، ودليل على أن الشباب العربي ينتقل في مجمله من مناطق الظلام إلى مناطق النور في فكرهم الثوري، وتضييق البلاد عليهم أصبح من الأسباب الإضافية لإنعاش روحهم وفكرهم الثوري بعيداً عن خيار الهجرة والاستسلام وترك الأوطان لمن أرادوها مزارع لهم ولعائلاتهم.

إن كل البيئات التي هيأتها الدكتاتوريات والقمعيات والاحتلال أمام الشباب العربي في سبيل طرده بفكرة الهجرة من الأوطان، لن تثمر سوى نهاية تلك النظم والاحتلالات التي تطرد خيرة أبنائها إلى بلاد المهجر أو تلقي بهم في السجون، في الوقت الذي تُحل فيه البلاد لكل عنجهية ولكل صاحب رؤية ظلامية. فالمهاجرون من أبنائها وبعد أن اختبروا اللا مكان الذي ينتظرهم خارج أوطانهم أصبح وعيهم أكثر اكتمالاً بضرورة استئناف الحرب على أمراض الأوطان، وإنهاء الاحتلال والفساد، والقنوات التي تسمح للمهاجرين بالمساهمة في تلك الحرب تزيد بشكل يومي، وفي ظل سيولة الفضاءات المعرفية وإمكانية المقاومة بكل الأشكال عبرها. وهذا كله لن يدع الشباب الذي عقد العزم على البقاء في الأوطان والمقاومة وحيداً في تلك الساحات.

بعد أن يطوف المهاجر الأرض سوف تراوده فكرة الوطن في كل مرة تستباح فيها كرامته بعنصرية المضيف له. فخلاصة الهجرات والتنقل بين المنافي والأحلام المحققة على عتباتها لجيل الإخفاقات يفضي لنتيجة حتمية، وهنا لا أجد أشد تمثيلاً لحصيلة ما يواجهه المهاجر العربي والفلسطيني بالتحديد؛ مما قاله الدكتور شفيق الغبرا في كتابه "حياة غير آمنة: جيل الأحلام والإخفاقات"، في نقاش له مع والديه حول قراره التفرغ للعمل الثوري عام ١٩٧٥ بعد تحصيله أعلى الشهادات في الجامعات الامريكية: "لماذا يكون طبيعيا أن يترك أمريكي متعلم ملتزم بالصهيونية مدينة بجمال نيويورك من أجل الهجرة إلى إسرائيل لمجرد أنه يهودي الديانة، وأنا الذي ولد أبوه وأمه في فلسطين وأمثل الجيل الأول من المولودين بعد نكبة عام 1948؛ لا أستطيع أن أذهب من الكويت، وهي بلد عربي، إلى حدود فلسطين، وهي بلد عربي محتل، لمواجهة هذا القادم من نيويورك؟
التعليقات (0)