قضايا وآراء

طالبان تعود بعد عشرين عاما لتتصدر المشهد الأفغاني

أميرة أبو الفتوح
1300x600
1300x600
بعد عشرين عاماً من الغزو الأمريكي لأفغانستان، عقب تفجير برجي مركز التجارة العالمي بنيوويورك عام 2001، وإعلان زعيم تنظيم القاعدة "أسامة بن لادن" مسؤوليته عن الحادث، واتهام الولايات المتحدة الأمريكية حكومة طالبان بإيواء تنظيم القاعدة وتوفير البيئة الحاضنة للإرهاب. وكانت هذه هي الذريعة التي أعلن الرئيس الأمريكي الأسبق "جورج بوش" الابن بموجبها الحرب على أفغانستان، وقال كلمته الشهيرة: "مَن ليس معنا فهو ضدنا"، فهرولت الدول الغربية وحلف الناتو للاشتراك في الحرب، وأعلن بوش يومها أنها حرب صليبية قبل أن يعتذر عنها ويقول إنها زلة لسان..

أعود فأقول بعد عشرين عاماً من حرب ضروس شنتها الولايات المتحدة على أفغانستان، بكل ما تملكه من قوة عسكرية ضخمة، كلفتها آلاف المليارات من الدولارات؛ لإخضاع إفغانستان، ها هي اليوم ترضخ لطالبان وتعلن انسحابها من أفغانستان وموافقتها الضمنية على إمكانية قيام حكومة إسلامية في أفغانستان، وفقاً للاتفاق المبرم بين إدارة الرئيس الأمريكي السابق "دونالد ترامب" وحركة طالبان في الدوحة في 29 شباط/ فبراير عام 2020.
بعد عشرين عاماً من حرب ضروس شنتها الولايات المتحدة على أفغانستان، بكل ما تملكه من قوة عسكرية ضخمة، كلفتها آلاف المليارات من الدولارات؛ لإخضاع إفغانستان، ها هي اليوم ترضخ لطالبان وتعلن انسحابها من أفغانستان وموافقتها الضمنية على إمكانية قيام حكومة إسلامية في أفغانستان

إذ جاء في الاتفاقية "وتنطبق التزامات إمارة أفغانستان الإسلامية التي لا تعترف بها الولايات المتحدة كدولة والمعروفة باسم "طالبان" في هذا الاتفاق على المناطق الخاضعة لسيطرتها، إلى حين تشكيل الحكومة الإسلامية الأفغانية الجديدة، ما بعد التسوية على النحو الذي يحدده الحوار والمفاوضات بين الأفغان".

وهكذا نرى من ديباجة وصياغة الاتقاقية تأكيد إدارة "ترامب" على عدم اعترافها بـ"إمارة أفغانستان" كدولة، كنوع من الغطرسة الأمريكية التي لا تريد أن تعلن صراحة عن فشل مشروعها في أفغانستان وهزيمتها العسكرية على أرضها. لكن مجرد توقيع اتفاق معها ومضي إدارة الرئيس الحالي "جو بايدن" بالعمل به، والإسراع بالانسحاب، تاركة أسلحتها الثقيلة؛ يدحض هذه العبارة التجميلية لوجه أمريكا.

فالموافقة على الجلوس حول طاولة واحدة هو في حد ذاته يعني صراحة ودون موارية؛ قبولاً بحركة طالبان كطرف رئيس ولاعب أساسي في السلطة، أي القبول بالأمر الواقع والقبول بمرجعيتها الإسلامية وتوجهاتها في الحكم. وهذا القبول أو لنقل الرضوخ للأمر الواقع لن يأتي من فراغ، بل جاء بعدما كبدتها طالبان خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد والأموال.
الموافقة على الجلوس حول طاولة واحدة هو في حد ذاتها تعني صراحة ودون موارية؛ قبولاً بحركة طالبان كطرف رئيس ولاعب أساسي في السلطة، أي القبول بالأمر الواقع والقبول بمرجعيتها الإسلامية وتوجهاتها في الحكم

فقد قاومت طالبان الاحتلال الأمريكي، رغم إمكانياتها العسكرية والمادية المحدودة، وتوالت انتصاراتها وسيطرتها على معابر حدودية هامة وعلى قواعد عسكرية. وحسب المتحدث باسم طالبان، فقد سيطرت الحركة علي حوالي 85 في المائة من الأراضي الأفغانية، ما يعني تحجيم دور الحكومة الأفغانية التي فرضتها أمريكا في أفغانستان وتخلت عنها مؤخراً طبقا لسياسة البراجماتية الواقعية التي تمارسها. فعندما وجدت أنه لا طائل من وراء تلك الحكومة التي لم تستطع السيطرة على كل الأراضي الأفغانية ولم توفر الحماية اللازمة لوجودها العسكري، استبعدتها من المفاوضات في الدوحة، بل وتفاوضت مع الحركة التي تحاربها (الحكومة) بالوكالة عن أمريكا.. تفاوضت مع مَن يملك القوة الحقيقية على الأرض، ويملك زمام الأمور في أفغانستان. إنها سياسة المصالح التي فرضت على أكبر دولة في العالم الاعتراف بهذه الحقيقة مؤخراً، بعد تجارب مريرة وقاسية على مدار عشرين عاما، وبعد فشل مشروعها..

لقد كان موقف الحكومة الأفغانية مخزياً وذليلاً للغاية، وهي آخر مَن يعلم بانسحاب القوات الأمريكية وإخلاء قاعدة "بغرام" الواقعة على بعد 60 كيلومترا شمالي كابول، على الرغم من وجود قواتها في أقصى القاعدة، فلم تكلف أمريكا نفسها مجرد إخطار حلفائها بموعد رحيلها.

هكذا يستهين دائما المحتل بعملائه في الأوطان التي يحتلونها على مدار التاريخ وبعتبرونهم خونة. لقد صرح "عطاء محمد" أحد القادة العسكريين في الحكومة الأفغانية العميلة في حديثه لـ"الأسوشييتد برس": "إنه انسحاب سريع ومتعجل وغير مسؤول من الجانب الأمريكي". وهو في حقيقة الأمر يعبر عن مدى الإحباط والخوف الذي انتاب القادة العسكريين في الحكومة الأفغانية العميلة. إذ أن هذا الانسحاب السريع حرمهم من الغطاء الجوي الأمريكي، الذي كانوا يحتمون تحت ظله ويمنع تقدم مقاتلي طالبان، فما أن رفع هذا الغطاء عنهم حتى انهار البنيان واحدا تلو الآخر على رؤوسهم..

ما أشبه اليوم بالبارحة، فمشهد انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان تاركة حلفاءها الأفغان وحدهم كالأيتام بلا عائل ولا نصير، ليلاقوا حتفهم كعملاء خائنين لوطنهم، يذكرنا بمشهد انسحاب القوات الأمريكية من فيتنام عام 1972، حينما أقلعت الطائرات من سطح السفارة الأمريكية حاملة قواتها ورجالها، تاركة حلفاءها الفيتاميين يواجهون مصيرهم المحتوم..

أدركت الولايات المتحدة قوة "طالبان" على الأرض والحاضنة الشعبية التي تتمتع بها من الأفغان التي تمكنها من السيطرة على الحكم، وأيقنت باستحالة نجاح مشروعها الديمقراطي المزعوم في أفغانستان، وفرض واقع جديد عليها على غرار الديمقراطية الأمريكية، واستنساخ "كرازاي" جديد فيها، بل انتهي بها المطاف إلى القبول بحكومة إسلامية تطبق الشريعة الإسلامية في الداخل، مقابل تقديم ضمانات لمنع أي فرد أو جماعة من استخدام الأراضي الأفغانية لتهديد أمن الولايات المتحدة..
عودة حركة طالبان لتتصدر المشهد الأفغاني هو دليل قاطع على فشل المشروع الأمريكي في المنطقة، والذي جاؤوا به على ظهور الدبابات، وتأكيد على أن التغيير الآتي من الخارج لا يمكن أن يستمر طويلاً

ولحفظ ماء الوجه الأمريكي بعد الانسحاب السريع من أفغانستان، قال الرئيس الأمريكي "جو بايدن" مؤخراً: "إن الولايات المتحدة حققت أهدافها في مكافحة التهديد الإرهابي، ولم تذهب إلى أفغانستان لبناء أمة بل تلك مسؤولية الأفغان"..

إن عودة حركة طالبان لتتصدر المشهد الأفغاني هو دليل قاطع على فشل المشروع الأمريكي في المنطقة، والذي جاؤوا به على ظهور الدبابات، وتأكيد على أن التغيير الآتي من الخارج لا يمكن أن يستمر طويلاً، وأن الشعوب قادرة على مقاومته وإنهائه، وأن التحول الديمقراطي يحدث بأدوات داخلية وليس بإكراه من الخارج..

لا شك في أن مقولة "أفغانستان مقبرة الإمبراطوريات" حقيقية ولم تُقل عبثاً، فقد لقي جنكيز خان والمغول وبريطانيا العظمي والاتحاد السوفييتي هزيمتهم الساحقة هناك، وها هي الولايات المتحدة الأمريكية أكبر وأقوى دولة في العالم، تنسحب من أفغانستان بعد عشرين عاماً من احتلالها. لقد قالها يوماً الأمير الحديدي عبد الرحمن خان: "من السهل احتلال أفغانستان، ولكن من الصعب المحافظة عليها"..

twitter.com/amiraaboelfetou
التعليقات (0)