هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
أي شعور ينتابك وأنت تتجه إلى المكان الذي ولد فيه العلامة ابن خلدون؟ أي انطباع يهزك وأنت تقتفي آثار الرجل الذي أثر في علم الاجتماع وأحدث ثورة في مجال التأريخ؟
كان لا بد من
انتظار ترخيص كي نلج الدار التي تتخذها إدارة المعهد الوطني للتراث، فضاء يحتضن
أرشيفها إلى حين تجهيز الدار كي تصبح متحفا.
ما حكاية دار
ابن خلدون؟ وما شأن المسجد الذي حفظ فيه القرآن قبل أن يحتضنه جامع الزيتونة؟ لماذا تأخر
الاهتمام بهذه الدار؟ وما هو مصيرها بعد اتفاقية الإيسيسكو مع وزارة الثقافة التونسية؟
بناء على
الاتفاقية التي تم توقيعها في 23 كانون الأول/ ديسمبر 2019 بين المعهد الوطني للتراث والمنظمة
الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو)، التي رصدت مبلغ 700 ألف دولار
كهبة لتأمين هذا الترميم، بدأ منذ أسابيع الاشتغال على ترميم دار عبد
الرحمن بن خلدون وصيانتها؛ قصد تحويلها إلى متحف يعنى بهذا العلامة وشخصيته وتاريخه الفكري.
يعدّ ابن خلدون
مؤسّس علم الاجتماع وأوّل من وضعه على أسسه الحديثة، وأحد أهم المؤرخين، و"قد
توصل إلى نظريّات مهمة حول قوانين العمران ونظرية العصبية، وبناء الدولة وأطوار
عمرها وسقوطها".
المدير العام
للمعهد الوطني للتراث الأستاذ فوزي محفوظ، أفادنا أن المنزل الذي ولد به العلامة
ابن خلدون له رمزيته الحضارية والعلمية والتاريخية، وهو يأتي ضمن المعالم التي تعمل
تونس على إعادة ترميمها، وجعلها متحفا للزوار للاطلاع على الموروث الثقافي خلال
الفترة التي نشأ فيها العلامة ابن خلدون. الدار ستضم أيضا أعمال ابن خلدون
ومؤلفاته والكتب التي روت سيرته وحياته الأدبية.
ولكن كيف سيتم
جلب متعلقات الرجل المتناثرة بين إسبانيا والجزائر والمغرب ومصر، علما بأن كلا من
هذه البلدان يرى أنه بابن خلدون أجدر وأحق؟
سؤال لا تجد له
أي إجابة بل لعله سابق لأوانه، خاصة أن العلامة ابن خلدون قد وحد بين البلدان
العربية الأربعة، من خلال تحمل مسؤوليات فيها، فضلا عن الأندلس.
بلدان خمسة
ولد العلامة عبد
الرحمن بن خلدون في غرة رمضان سنة 732 للهجرة الموافق 27 أيار/ماي 1332 ميلادي، بدار
بنهج تربة الباي القريب من جامع الزيتونة ونهج الأندلس التي استقرت به جالية
أندلسية مهمة.
وكانت عائلة ابن
خلدون لجأت من الأندلس، في منتصف القرن السابع الهجري، مع عديد العائلات الأندلسية
العريقة، بعد حروب الاسترجاع من طليطلة وبلنسية وقرطبة وإشبيلية، التي نزحت منها
عائلة ابن خلدون.
في جامع لا يبعد
عن مسقط رأسه سوى بضعة أمتار، حفظ ابن خلدون القرآن الكريم، ودرس علوم اللغة
العربية من نحو وصرف وعلم الكلام واللسان على يد كبار المعلمين بتونس في تلك
الفترة، ولازم مجالسهم، كما درس العلوم الشرعية والفقه والحديث والمنطق بجامع
الزيتونة.
قضى ابن خلدون
الجانب الأكبر من حياته في تونس في الدار التي يجري العمل على ترميمها وإعدادها.
وفَقَدَ وهو يقطنها والديه بسبب وباء الطاعون الذي ضرب تونس عام 1348-1349م، وكان
عمره آنذاك 17 عاما.
عاش ابن خلدون
أيضا في الأندلس والجزائر والمغرب. وفي سن 23 أُعجب بابنة القائد محمد بن الحكيم
فتزوجها. وفي مصر، أكرمه سلطانها الظاهر برقوق، وولي
فيها قضاء المالكية.
عاش في مصر
حوالي ربع قرن، حتى توفي بها في آذار/مارس 1406عن عمر بلغ 76 عاما، ودفن بمقابر خارج
باب النصر بالقرب من حي العباسية، وإن كان قبره لا يعرف على وجه التحديد.
إلى أي بلد ينسب
ابن خلدون؟
هل ينتمي إلى
بلد ولد به واستقرت به أسرته وتعلم في كتاتيبها وجوامعها وخبر عوائد أهلها؟
أم ننسبه إلى
بلدان أولته خططا سياسية مثل المغرب والأندلس؟
أم ننسبه إلى
بلد اعتزل فيه الناس وكتب أشهر كتبه فيها؟
أم ننسبه إلى
بلد تولى فيه القضاء ودفن به؟
أم ننسبه إلى
أصوله الحضرمية باليمن؟
أم الأندلس التي
استقر بها أجداده ثم تم تهجيرهم منها ليحل ركبهم بتونس؟
كانت تلك بعض
تساؤلات الباحثة بمركز الدراسات الإسلامية بالقيروان، صدق السلامي.
تربة البايات
والحكام
توجد دار ابن
خلدون بتربة الباي، وهي مدفن كل ملوك الدولة الحسينية وأمرائها وأميراتها، وعدد من
الوزراء في العهد العثماني، من سنة 1705 حتى استقلال تونس سنة 1956 وإنهاء النظام
الملكي.
تتكون هذه الدار
التي شيدت في القرن الثامن للهجرة، من طابق أرضي يتخلله فناء، وآخر علوي ملوّن،
يحمل طابعا إسلاميا/ أندلسيا، جدران البيت مكشوفة وملونة، الباب الخارجي مستطيل
ذو دفتين، مطلي باللون الأخضر.
لا زال يعبق
برائحة التاريخ، ضارب في الشموخ والأصالة، جدرانه مكسوة بمربعات الخزف المزخرف
الذي لا يقدر عليه إلا علية القوم، وإن كان البعض منه قد تصدع بفعل الزمن.
كيف سيؤثث؟
كيف ستبعث الروح
في هذا النهج الضيق حين تؤثث الدار بطابقيها بكل متعلقات الرجل، بعد إزالة صناديق
أرشيف المعهد الوطني للتراث والخزائن الحديدية التي أفسدت ديكورات الدار وشوهتها
إلى حين؟
الدار التي
تعرضت إلى إصلاحات ما زالت متماسكة وسليمة، رغم علامات الحضارة
"المدنية" التي غزتها من إنارة وتبريد، بل ما زالت تحتفظ بأسرارها
المعمارية الأندلسية، إذ لم يخل أي ركن منها من لمسات إبداعية تنضح حرارة، وتتحدى
حجارتها ومعمارها البديع القرون السبعة التي خلت. وعلى بعد نحو 50
مترا من دار ابن خلدون، في المكان نفسه (نهج تربة الباي)، يوجد الكتّاب الذي
تعلّم فيه ابن خلدون القرآن، وهو مسجد يوحي شكل بنائه أنه يرجع إلى القرن الخامس
الهجري بمقارنته مع البنايات العديدة هناك، له الطراز الخراساني العربي الإسلامي
نفسه الذي يستعمل الحجارة المنحوتة، هذا الجامع الذي مضت 7 قرون على بنائه،
هو الذي وشى بدار ابن خلدون ودل عليها. تنتصب رخامة كتب عليها "في هذا المسجد
درس العلامة والمؤرخ عبد الرحمان بن خلدون 732 للهجرة الموافق لـ 1332 للميلاد".
وأنت تتجول في
تلك الربوع العابقة بروائح التاريخ، تأبى ذاكرتك إلا أن تتخيل ما كان يحدث منذ
قرون خلت بهذه البقاع، وتتساءل وأنت أمام المسجد: ترى، من كان
يرافق الطفل وهو يدلف نحو الداخل في انتظار معلميه لحفظ القرآن؟
كم من ألف مرة
قطع الصبي وهو يغادر بيته هذا الطريق؟
وهل يدرك سكان
هذا الحي كم صار لهذا النهج من قيمة؟
في أي بيت من
البيوت استقر الصبي والفتى والشاب ابن خلدون؟
ماذا لو لم يكن
المنزل لابن خلدون؟
وهناك سؤال حارق
ومخيف في ذات الوقت:
ماذا لو لم يكن
البيت المحدد هو بيت ابن خلدون؟
لا أحد بإمكانه
الجزم بشكل قاطع ونهائي، بأن البيت المعني هو دار ابن خلدون، ولكن المؤرخين
والباحثين دققوا في الأمر وفق العديد من الروايات وسير الرحالة، وإثباتات من
العديد من المصادر والمراجع، وتوصّلوا إلى تحديد البيت الذي ولد فيه ابن خلدون
بالمدينة العتيقة بتونس العاصمة، على بعد أمتار قليلة من جامع الزيتونة، ويقع
بالمكان المعروف بـ " تربة الباي".
الرواية الشفوية
كانت حاسمة، فقد تناقلتها الأجيال على مدى السنين، ودعمتها المصادر التاريخية التي
اهتمت بالدرجة الأولى بنسبه وشيوخه الذين تتلمذ عليهم، أما الاهتمام بأمكنة الولادة
لم يكن يحظى بأولوية أو أهمية.