كتب

كتاب حول فلسفة التنمية.. مقاربات في الفكر السوداني

كتاب يبحث في تفاصيل الفكر التنموي في السودان- (عربي21)
كتاب يبحث في تفاصيل الفكر التنموي في السودان- (عربي21)
يطرح كتاب الباحث السوداني الدكتور علي محمد عثمان العراقي (مقاربات في فلسفة التنمية ـ تأسيس نموذج وطني بالتركيز على حالة السودان)، استفهامات فرعية حول السؤال الرئيس للعقل السوداني عن الرؤية الوطنية للتنمية في السياقات الوطنية والعالمية، وينقل النقاش من "البرج العاجي للأكاديميا" إلى فضاء أكثر اتساعا خاصة حول جدوى أفكار التنمية المستوردة في مجتمعات لها خصوصيات عقدية وفكرية وثقافية واجتماعية، وذلك عندما يجزم الكتاب بفشل نماذج "القص واللصق" التنموية، في مقابل صعود دول ومجتمعات اعتمدت رؤيتها الخاصة للتنمية. 

لكن أبرز ما يطرحه الكتاب هو تقصي سياقات تشكل النظريات الاقتصادية في مرحلة الاستعمار وما بعدها وكيف أثرت على أولويات الفكر التنموي، ويبحث في مسـار الجـدل فـي قضايـا التنميـة خلال القـرن العشـرين ومـا ترتـب عليـه من إعادة النظر في الأولويات والهموم، معتبرا بأن خيـارات التنمية ليسـت مجرد تخصيص للمـوارد أو اسـتهداف للقطاعـات الإنتاجية، بل هي قبـل هذا وذاك تسـتبطن محمولات فكرية وتوجهات ونسـق معرفـي متكامل.

وصدرت أول نسخة من كتاب (مقاربات في فلسفة التنمية ـ تأسيس نموذج وطني بالتركيز على حالة السودان) عام 2018م في الخرطوم عن ركائز المعرفة للدراسات والبحوث، حيث يقع الكتاب في 127 صفحة من القطع المتوسطة.

ويلفت الكتاب الانتباه ضمن العديد من الكتب التي أنتجها العقل السوداني السياسي والاقتصادي والاجتماعي في مجال نقد (برادايم الاستعمار)، وهو كذلك علامة بارزة في مقاربات الفكر الوطني لبناء دولة ما بعد الاستعمار وفقا لمنظور وطني مستقل.

ويجلس الدكتور علي عراقي المتخصص في فلسفة الاقتصاد على مجموعة كتب وبحوث ودراسات وأوراق علمية، ومن بين إصدارته (اقتصاديات السياحة في السودان) و(طريق الحج الإفريقي من تمبكتو إلى سواكن).

ويتبنى الكاتب نموذج "الدولة التنموية" وفقا للأولويات والخصوصيات الوطنية، ويعدها مخرجا ليس للسودان وحده بل لكافة دول الجنوب الطامحة في التنمية، ويستخدم في كافة فصول الكتاب منهج تفكيك ظاهـرة التخلف والبحث عـن النسـق المعرفـي الذي ينظمها سـواء كان ذلك من مبتدأ نشـوء الظاهـرة أو المقاربات التي تمـت لعلاجهـا، ثـم تركيب نمـوذج بديل، نموذج شـمولي تأسيسـي متجـاوز ومركب؛ "لـن ينتـج أثـرًا إذا ما تم إلحاقـه ولصقه بالنمـاذج السـائدة، وذلك أن طبيعته تؤسـس لواقع جديـد فتغيـر البرادايـم وتعيد ترتيب العالقـات وتحديد الأولويات والاهتمامات".

ويشير الكتاب إلى أن عملية التفكيك تتم عبر التفكيك من داخل الظاهرة، ويتم عبر عمليات من قبيل تقسيم الظاهرة إلى وحدات منفصلة وتجريد الوحدات، أي عزلها عن زمانها ومكانها وبذا يربط الواحدة منها بالأخرى ربط الوحدات الصغيرة لتكوين مجموعات أكبر ثم تجريـد المجموعـات الأكبر ثـم الربـط بينهـا، ووضـع كل مجموعـة مـن المجموعـات المجـردة المتشـابهة داخـل نمط مسـتقل قبل التحرك من عمليات التجريد من داخل الظاهرة إلى خارجها.

وينقسم كتابه (مقاربات في فلسفة التنمية ـ تأسيس نموذج وطني بالتركيز على حالة السودان)، إلى أربعة فصول ولكل فصل خلاصة، حيث يتناول في الفصل الأول محـددات نظريـات التنميـة والتي تبرز فـي فلسـفتها ورؤاها الحاكمـة، موضحا في هذا الصدد بـأن الفكـر الإنساني سـبب ونتيجة لأوضاع المجتمعـات وتوجهاتهـا.

ويقدم في هذا الخصوص مقاربات مختلفة لأفكار أهم المفكرين العالميين المساهمين في فلسفة التنمية، ويناقش أهم الدراسات التي يطلق عليها "دراسات ما بعد الاستعمار"، وهو يقتفي تعريف أبرز رواد هذه المدرسة إدوارد سعيد، معتمدا تعريفه لاستخدامات مصطلحـي اسـتعمار وكولونياليـة "يفـرق إدوارد سـعيد بيـن الإمبريالية والكولونياليـة؛ الإمبريالية بنظـره هـي الممارسـة والنظرية والتوجهـات الخاصة بمركـز حواضري متسـيد يحكـم إقليماً نائياً، أمـا الكولونيالية والتي كانـت على الـدوام تقريبًا نتيجـة للإمبريالية" فهـي زرع المسـتوطنات فـي إقليم نـاء".

ويرصد في الفصل الأول المحددات والتأثيرات على الفكر التنموي، وأهمها تأكيد القناعة بمركزية الثّقافة الغربية، ويتحدث أيضا عن أفكار ما بعد الحداثة / العولمة ويسرد إجابات مختلفة لسؤال هل هي استعمار جديد؟ ويبحث في تطورات الفكر التنموي خلال القرن العشرين من تراكم رأس المال إلى مدخل القدرات، ويناقش مفهوم الفقر من زاوية القياسات والانشغالات ويقارب بين مفهوم الدول النامية ما بين توافق واشنطن والدولة التنموية.

وأبرز ما خلص إليه في هذا الفصل من الكتاب أن الدول النّاميـة ظلـت رهينـة للقـوى الكولونيالية خلال فترة الاستعمار وما بعدها؛ فتأسسـت الاقتصادات علـى حاجـات المركـز الإمبريالي وترك للمسـتعمرات إنتـاج المـواد الأولية وبدلا أن تقوم الدول النامية بفك حلقـة الارتباط بعد الاستقلال ظلت وفيـة للبرادايم الاستعماري.

ويرى أن فترة السبعينيات أظهرت فشـل برامج وخطـط التّنمية المدعومة من المؤسسـات الدولية، وبات من الضروري مراجعـة البرادايـم وتعديـل المسـلمات التـي سـادت منـذ أواخر السـتينات في حين ظلت المؤسسات الدولية متحركة بدورها في الاهتمامات وتقديم حزم الإصلاحات التي يرى الكتاب بانها لم تحقق أي شيء.

ويشير إلى حالة الاستثناء التي سادت في هذه الظروف وهي نمـاذج النهـوض الآسيوي "لأنها اختطـت طريقاً لا يحاكي تجربـة أوربـا فـي الثورة الصناعيـة، طريقًا أكد علـى المكون الثقافي للمجتمعـات ومركزية دور بنـاء القـدرات وتمكيـن الأفراد".

وتقود هذه الخلفيات الفلسفية والاقتصادية قارئ الكتاب إلى الفصل الثاني الذي كرس نحو موضوع الكتاب الرئيس وهو كيفية الوصول إلى نموذج وطني للتنمية، ويرى أن ضمان تحقيق الانتقال من بداية البرادايم والريع إلى الاقتصاد الإبداعي، يتطلب استحقاقات أهمها عدالة التوزيع بضمان مشـاركة أوسـع فـي النشـاط الاقتصادي وتمتع قاعـدة أكبـر بعوائـده، ولضمـان اتسـاع قاعـدة النمـو مـع عدالـة توزيـع عوائـده يلزم البدء من مرحلـة تخصيـص المـوارد، إضافة إلى تعزيز الهوية وبناء الأمة لتوظيف كل المـوارد وخلق بيئة داعمـة للنهضة والتطور، والمساومة التاريخية كواحدة من الحلـول الجريئة لقضايا التفاوت والغبـن التنّمـوي الذي يسود مسـتويات الحكـم المختلفـة، ويشمل ذلك القوى السياسية والمكونات الاجتماعية المختلفة.

ومن الاستحقاقات التي يشير إليها الكتاب لتحقيق النموذج الوطني هي الاستدامة والإنصاف باعتبارها عاملا يضمن العدالة بين الأجيال والاهتمام بالبيئة، فإن الإنصاف يضمن العدالة بين أبناء الجيل الواحد ويؤدي الإصرار على نمو بدون عدالة وإنصاف إلى اختلالات هيكلية عميقة في بنية الاقتصاد الوطني.

في الفصل الثالث يدرس الكتاب حالة الاقتصاد السوداني طيلة فترات ما بعد الاستعمار، ويرى ضرورة إعادة النظر في الفكر السائد والمتماهي مع أفكار المؤسسات الدولية التي تدعو إلى إصلاحات هيكلية في بنية الاقتصاد، ويرى بأن الاقتصاد السوداني لم يشـهد نموًا مسـتقرًا خلال سـبعة عقـود إلا في بضع سـنوات، وبالتالي هو يحتـاج تأسـيس جديـد لا إصلاحات، ويقدم في هذا الصدد عدة مبررات أهمها أن هيـاكل الاقتصاد الوطنـي ظلت محافظـة علـى تقليديتهـا التـي ورثتها عن المسـتعمر، فضلا عن الاستمرار في ذات أفكار الاستعمار بالتحيز للمراكـز الحضريـة وتجاهـل الريـف، ويدعو الكتاب إلى إعادة عادة التفكير في المسلمات مثل الاعتماد على المواد الأولية، ويقدم العديد من الإحصاءات الاقتصادية والمالية لتأكيد رؤية الكتاب بخطل فلسفة الاقتصاد السائدة في السودان وأهمية تغييرها.

وفي الفصل الأخير يقوم الكتاب بتطبيق نموذجه للدولة التنموية على السودان، مستصحبا العنصر الأول في هذا النموذج وهو المساومة التاريخية مشددا على أنها عملية معقدة تشـمل التوافق علـى ترتيبات تعيـد تخصيـص المـوارد وعينهـا علـى المواطن فتعـدل التشـريعات التي تتيـح المسـاءلة والمراقبة علـى الحكومـة التي انتخبتها، فهـي ترتيبـات تنحـاز للولاية مقابـل المركـز وللمحليـة مقابـل الولايـة وللوحـدة الإدارية مقابـل المحليـة، يـؤدي هذا المدخـل مصحوباً بالمنظومة المتكاملة للمسـاومة باسـتحقاقاتها التشـريعية والإدارية لتقويـة مؤسسـات وهياكل الحكم الأدنى وتركيز كل والية على ميزاتها النسـبية وتنشـأ مؤسسـات للمجتمـع المدنـي تنافـح عن المواطـن وقدراته وتجهـد لضمان خدمـات مميزة.

وبالنسبة للكتاب فإن "التسوية التاريخية" عمليـة مركبـة ومتداخلـة وليسـت مجـرد ترتيبـات إجرائية، فتبدأ مـن مراجعة فتبدأ من مراجعة المنظـور والفلسـفة الحاكمـة لخيـارات التنميـة وتعيد صياغتهـا وفقًا لمصلحـة الحلقة الأهم (المواطـن) وبالتالي تعمـل علـى ما يطلـق عليـه paradigm، ويقول الكتاب: (هذه المراجعة سـبقنا عليهـا الخليفـة الرابـع الإمام علـي بـن أبـي طالـب رضـي الله عنه عندمـا وجـه أحد ولاته بقوله: وليكـن نظـرك فـي عمـارة الأرض أبلغ من نظرك فـي جلب الخـراج)، ويفسر الكتاب هذه العبـارة بأنها إعـادة ترتيـب للأولويات ومراجعـة لنمط التفكيـر، ويسـتتبع مراجعة المنظور إعـادة ترتيب الهيـاكل وتخصيـص المـوارد وفقاً للأولويات بالتركيـز على المسـتويات الأدنى.

وفي هذا الفصل التطبيقي يشير الكتاب إلى عامل ثاني في نموذج الدولة التنموية وهو الهوية وبناء الأمة بالنظر إلى العلاقة بين التنمية والتراث الثقافي للمجتمعات، إلى جانب عاملي النمو الواسع القاعدة التي يشير إليها بسكان الريف، والعدالة والانصاف التي يقصد بها سياسات كلية ومتسقة ومتكاملة لعلاج الفقر، ويقدم شروحا وتفصيلات لكافة هذه العناصر.

ويخلص إلى أن نجاح هذا النموذج يتطلب بناء المهارات وتعزيز رأس المال البشري والاهتمام بالتعليـم العـام والعالـي وضمـان اتسـاق خططـه ومناهجـه ومخرجاته مـع برامج التنميـة، إلى جانب الاستثمار في الجغرافيا بالاستفادة من موقع السودان وتعزيز العلائق التجارية وتمكين القطاع الخاص.

ويرى الكتاب أن هذا النمـوذج يقدم فرصـة للاقتصاد السـوداني، ليـس فقـط للتعافـي المؤقـت ولكـن لتأسـيس اقتصـاد عـارف بخصائصـه وهمومـه وواع لتطـورات الاقتصاد الإقليمي والعالمـي والتحديـات التي تواجهها الدول النامية.

التعليقات (0)