كتاب عربي 21

تسليع الرياضة والتستُّر على الخمر

جعفر عباس
1300x600
1300x600

حال العرب مع الدورات الأولمبية، كحال نزار قباني زمانه، عمر بن أبي ربيعة، الذي عوتب على ملاحقته الدؤوبة للنساء فأنشد:

إني امرؤٌ مولع بالحسن أتبعه  ***  لا حظ لي منه إلا لذة النظر

ولا أدري هل كان الرئيس التونسي ومن أوعزوا له بالاستيلاء على السلطتين التشريعية والتنفيذية، من الذكاء بحيث تعمدوا أن يضربوا ضربتهم بالتزامن من دورة طوكيو الأولمبية، لضمان انشغال الرأي العام المحلي والعالمي والإقليمي بها (بالدورة)، فلا يتعرضون لكثير نقد أو ضغوط، إلى أن يرتبوا أمور "اليوم التالي"؟ هذا سؤال مشروع، خاصة وأن الفريق التونسي في طوكيو يبلي بلاء حسنا في مضامين رياضية غير معهودة عند العرب الذين يحسبون أن الرياضة هي كرة القدم وكفى.

مع التسليم بأن الأولمبياد يتألف من أمهات الرياضة، إلا أنه من حقي وحق غيري التساؤل: هل ركوب الخيل رياضة؟ فالذي يمارس الرياضة في مضامير سباق الخيل هو الحصان وليس الراكب (الجوكي) فوقه، والذي حاله كحال سائق السيارة الذي يقتصر دوره على الحث على الإسراع وتحديد الوجهة، فإذا اجتاز الحصان بقية الخيل فذاك بجهده العضلي لا بجهد الجوكي، ولهذا سك أهل السودان منذ سنوات بعيدة مثلا يقول "الخيل تجقلب والشكر لحماد"، والجقلبة كلمة تم استيلادها من حركة الخيل وهي تركض، ويقال المثل عند إزجاء المدح لغير مستحقه، وعطفا على المعطيات أعلاه فسباق السيارات ليس رياضة بأي مقياس.

في بدايات انفجار البث التلفزيوني الفضائي جاءت ظاهرة شيوخ فتاوى الـ"تيك أواي" السريعة، ومنهم من قال إن الملاكمة تصبح محرمة إذا تسببت في الأذى. يعني هي جائزة لمن يلحق أحدهم الأذى بالآخر، وهذا كأن تقول إن الخمر تصبح محرمة عند نقطة تأثيرها البيِّن على العقل، على ما في هذا من إبطال لـ "ما أسكر كثيره فقليله حرام". ولكن المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته العاشرة المنعقدة بمكة المكرمة، أفتى بأنها ممارسة محرمة في الشريعة الإسلامية، لأنها تقوم على أساس استباحة إيذاء كل من المتغالبين للآخر إيذاء بالغا في جسمه.

وقس على ذلك التيكواندو والكاراتيه والجتسو ومواي تاي، ومن عجب أن إسمها الرسمي هو فنون قتالية martial arts ومهما تذرع من يروجون لها كرياضة "دفاعية" فإنها تقوم على شل قدرات أحد الطرفين المتواجهين، بل ربما إصابته بالشلل الحركي التام، ويفيد تقرير للرابطة الطبية الأمريكية بأن ثلاثة عشر ملاكما يموتون سنويا متأثرين بإصابات تلحق بهم في الحلبات، ولا توجد إحصائيات دقيقة لضحايا الكاراتيه، والتي يستطيع من يمارسها بحرفية كسر طوب إسمنتي شديد السماكة بضربة واحدة، وهي السلاح المفضل للعصابات الإجرامية التي تلجأ إليها للفتك بالخصوم عندما يتعذر استخدام السلاح الناري خشية لفت الانتباه والأنظار.

 

لا أدري هل كان الرئيس التونسي ومن أوعزوا له بالاستيلاء على السلطتين التشريعية والتنفيذية، من الذكاء بحيث تعمدوا أن يضربوا ضربتهم بالتزامن من دورة طوكيو الأولمبية، لضمان انشغال الرأي العام المحلي والعالمي والإقليمي بها (بالدورة)، فلا يتعرضون لكثير نقد أو ضغوط، إلى أن يرتبوا أمور "اليوم التالي"؟

 



والشاهد هنا هو أن ممارسات شديدة الفظاظة صارت تجد الترويج تحت مسمى الرياضة، لأن كل ما يدر المال ويمكن تسليعه يجد المؤازرة من أصحاب رؤوس الأموال، حتى لو تطلَّبت الممارسة الإيذاء الجسماني وربما القتل، ولهذا بارت في السنوات الأخيرة بضاعة "المصارعة الحرة" الأمريكية بعد أن انكشف أن عمليات الضرب والإيقاع فيها "ممسرحة"، أي تتم بموجب نص مسرحي يحدد من يضرب الآخر أين وكيف ومتى بأسلوب درامي، لا ينجم عنه أذى حقيقي، فخرج علينا الأمريكان بما أسموه
(Ultimate Fighting Championship UFC)، أي "البطولة القتالية الحاسمة / الحتمية" التي تبيح كل أنواع الضرب والرفس في جميع أجزاء الجسم باستثناء الأعضاء التناسلية، ولا ينجُ من يخوضها من الكدمات والنزيف وربما ارتجاج المخ.

أما الشاهد الحاسم والدامغ على أن الغرب الرأسمالي لا يقيم وزنا للأخلاق ولا سلامة الإنسان إذا كان ذلك على حساب الربح المادي الفاحش، فهو أن الخمر التي ينتجها ذلك الغرب، تجد الترويج على أن شربها من آيات السلوك الاجتماعي الرفيع وعلى أنها تعدل المزاج، بينما حقيقة الأمر هي أن الخمر أكثر فتكا ببني البشر من المخدرات، ففي المجتمع الأمريكي مثلا لا يزيد عدد من يتعاطون المخدرات عن 10 ـ 15% من الناس بينما نحو 90% منهم يشربون الخمر على الأقل مرة واحدة في الأسبوع، ومهما قيل في ذم المخدرات فإن متعاطيها يؤذي في غالب الأحوال نفسه فقط، في حين ان من يسكر بالخمر يشكل خطرا على سلامة الآخرين حتى صارت حوادث السيارات تحت تأثير الخمر "القاتل الثاني" للأمريكان بعد علل القلب.

بعد أن بات من المؤكد أن التبغ قد يصيب متعاطيه بسرطان الفم أو الحلق أو الرئة، صار لزاما على منتجيه وضع عبارات تحذير حاسمة وحازمة على العلب والصناديق التي تحتويه عند التسويق، والخمر أيضا قد تسبب سرطان الجهاز الهضمي وتفتك بالكبد والعقل، ولكن هيهات أن يقبل الأمريكان بوضع أي نوع من التحذيرات على قوارير النبيذ التي كان عائدها في عام 2020 50 مليار دولار، وقس على ذلك أمر النبيذ الفرنسي والويسكي الأسكتلندي.

ومن حقي أن أتساءل: هل تنشط الحكومات الأوروبية والأمريكية في محاربة الكوكايين والهيروين فقط لأن جُل عائداتهما المليارية تذهب إلى جيوب أطراف في أمريكا الجنوبية؟ مشروعية هذا السؤال تنشأ من أنه ما صار زرع حشيشة الماريجوانا شائعا في دول الغرب حتى صار مباحا تسويقها في المتاجر في عدد من الدول الأوربية والولايات الأمريكية بمنطق "تشجيع الصنف المحلي".


التعليقات (1)
الكاتب المقدام
الأحد، 08-08-2021 12:19 م
*** لم أستوعب ما هي العلاقة بين الرياضة والتستر على الخمر؟ ولكني وجدت أن الكاتب بدى متعاطفاُ مع المخدرات بترويجه لمعلومة مغلوطة بقوله: "ومهما قيل في ذم المخدرات فإن متعاطيها يؤذي في غالب الأحوال نفسه فقط، في حين ان من يسكر بالخمر يشكل خطرا على سلامة الآخرين..." فالمخدرات كالخمور تأثيرها على العقل والإدراك والتحكم في النفس والسيطرة على البدن معروف ومثبت، وهي من أهم أسباب حوادث السيارات وغيرها من الانحرافات الاجتماعية والأخلاقية والجرائم، وليس أقلها العهر والدعارة، والكاتب خطئاُ أو تغافلاُ يقلل من اخطارها، وهناك من يبررون تعاطيها بدعوى أنها ليست كالخمور، كما هو الحال مع تعاطي القات في اليمن والحشيش في مصر، الذي استخدم قديماُ وحديثاُ في السيطرة على المريدين والأتباع، كما حال الطرق الصوفية المنحرفة في حي الباطنية بجوار الحسين، والقول المنطقي أن حرمانيتها قياساُ هي كالخمور سواء بسواء، أما فتاوى الكاتب وغيره في مجال الرياضات النزالية فهو أقوال مجافية للحقيقة وجاهلة، وكثيراُ ممن يتصدون للفتوى فيها غير أهل لذلك، فكل الرياضات بلا استثناء قد تعرض ممارسيها للإصابات الخفيفة، والتي قد تصل في أحيان نادرة لإصابات مميتة، وهذا ينطبق على كل الأنشطة البشرية، فغالبية الإصابات والحوادث بما فيها المميتة تحدث داخل المنازل وأماكن العمل وفي الشوارع، ولم يدع ذلك أي عاقل بالإفتاء بحرمانية الخروج من المنزل لإمكانية تعرضه لحادث طريق مميت، وتلك الأخيرة احتمالاتها أكبر بكثير من التعرض للإصابات المميتة لممارسي الرياضات، بما فيها الرياضات النزالية المسماة خطئاُ بالرياضات القتالية، والتي تعني هنا جدية ممارسها واستبساله، وليس دعوته لقتل خصمه، كم أن كل الاتحادات الرياضية تستهدف زيادة الفوائد المؤكدة من ممارسة رياضاتها، وتقليل مخاطرها بوضع القواعد المنظمة لممارستها، ولا ينفي ذلك أهمية الجوانب الاقتصادية في عالم الرياضة مثل كل الأنشطة الحياتية الأخرى، ولولا ثقتنا في الكاتب لظننا بأنه ضمن الطابور المندس بيننا، والداعي إلى خنوع مواطنيه وإضعاف عزائمهم، وإمراض أبدانهم بالكسل والخمول، والركون إلى الدعة والاستسلام.