هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في الأساطير الإغريقية أن كل شيء كان الملك ميداس يلمسه كان يستحيل إلى ذهب، وكانت كتب القراءة/ المطالعة المدرسية على أيامنا تتضمن نصا مسرحيا شعريا عن الأسطورة بعد "سودنتها"، وفيها يقف الملك منشدا: الذهب الذهب/ يكاد عقلي يذهب/ أعزّ شيء يُقتنى/ يا ليت كل ذهب في الأرض يأتيني هنا/ ولا يحوز وَفْرَه/ من الورى غيري أنا.
يقال إن السودان ثاني أكبر منتج للذهب في أفريقيا (بعد جنوب إفريقيا)، ويقدر الإنتاج السنوي للذهب في السودان من القطاعين المنظم والتقليدي، بأكثر من 100 طن، ولكن رُبع وريع هذه الكمية يتسلل خارج البلاد عبر الموانئ البرية والبحرية والجوية، مما يشي بوجود مافيا راسخة الأقدام وعظيمة القدرات، تحتكر تهريب الذهب فلا يعود من عائدات تصديره إلا القليل جدا على الخزينة العامة، وبعد تشديد الرقابة على سوق الذهب بلغ إنتاج الذهب المسجل خلال الأشهر الستة الأولى من العام الجاري ثلاثين ونيف طنا.
في التاريخ الأمريكي تعني عبارة "وايلد وست" الغرب المتوحش/ العنيف/ المتفلِّت، والتصقت الوحشية بالغرب الأمريكي خلال حقبة التكالب على الذهب في الغرب الجغرافي للولايات المتحدة، عندما كان التنافس على مناجم الذهب والفوز بها يحسم بالسلاح الناري، ثم صار قطع الطريق أمام معدني الذهب وسرقة ما يحملونه من المعدن النفيس تجارة رابحة دفع ثمنها عشرات الآلاف أرواحهم.
ويكاد سودان اليوم بأكمله أن يصبح غربا متوحشا، فإلى جانب مطاردات القط والفأر التي كادت أن تصبح ممارسة يومية بين الشرطة ومهربي الذهب، ظهرت في الآونة الأخيرة مجموعات مسلحة تغير على المناجم بغرض الاستيلاء عليها بانتزاع ملكيتها ممن شادوها، أو لنهب ما أنتجوه من ذهب، والأنكى من كل ذلك أن بعض تلك الجماعات المسلحة محسوبة على الحركات المسلحة التي وقعت اتفاق سلام مع الحكومة في تشرين أول (أكتوبر) الماضي مما يشي، مدعوما بقرائن عديدة، أنه سلام "أي كلام"، وهو كذلك بالفعل لأن من يزعمون تمثيل الجماعات التي عانت من ويلات الحرب الأهلية في أطراف البلاد، منشغلون بالوجاهة والمناصب، بينما ما زالت تلك الأطراف تنزف يوميا.
السودان ثاني أكبر منتج للذهب في أفريقيا (بعد جنوب إفريقيا)، ويقدر الإنتاج السنوي للذهب في السودان من القطاعين المنظم والتقليدي، بأكثر من 100 طن، ولكن رُبع وريع هذه الكمية يتسلل خارج البلاد عبر الموانئ البرية والبحرية والجوية، مما يشي بوجود مافيا راسخة الأقدام وعظيمة القدرات، تحتكر تهريب الذهب فلا يعود من عائدات تصديره إلا القليل جدا على الخزينة العامة،
في ذات يوم من ذات سنة، وقف نائب دائرة في شمال السودان النوبي في البرلمان مطالبا بإغلاق السجن المركزي في دائرته، متعللا بأن السجن ظل خاويا من السكان طوال 15 سنة لانعدام الجريمة بكل أشكالها، باستثناء نزاعات بسيطة حول الماء والأرض، يتم حسمها بالتراضي بواسطة العُمد (جمع عُمدة)، وأن طاقم الحراسة في ذلك السجن "الفاضي" يتقاضى رواتب "ع الفاضي".
واليوم فإن تلك المنطقة أصبحت غربا أمريكيا تجوبه سيارات الدفع الرباعي، وعلى متنها رجال غلاظ أفظاظ أيديهم على الزناد، وفدوا إليها من كل فج عميق، وغايتهم السلب والنهب، وشجعهم على ذلك أن التعدين في شمال السودان النوبي كثيرا ما يعود بكنوز أغلى من الذهب هي آثار الحضارة النوبية التي ظلت مدفونة لآلاف السنين.
والكارثة المؤكدة التي حاقت سلفا بالسودان هي أن جماعات التعدين الأهلي يستخدمون سم السيانيد والزئبق في أعمال تنقية الذهب الخام وتسربت كميات مهولة من تلكما المادتين إلى ثنايا التراب والمياه الجوفية ونجم عن ذلك تسميم التربة وماء الزرع والشرب، فكان أن أوقفت الحكومة استيراد وتسويق المادتين وانفتح بذلك باب جديد للتهريب، وصار السيانيد والزئبق سلعتين رائجتين في السوق السوداء، لأنهما مرغوب فيهما من قبل المعدنين الذين لا طاقة لهم بالأجهزة المتطورة في أعمال التنقيب والتنقية والصهر.
غير أن ما يؤرق كل سوداني هذه الأيام هي الفوضى الأمنية الشاملة التي لم يسلم منها أي إقليم في البلاد، فهناك آلاف السيارات المسماة بوكو حرام تستخدم في الإجرام، وهي بدون لوحات ومن ثم يصعب تعقبها، ويتحرك على متنها قوم مسلحون حتى الأسنان يتبع بعضهم لجهات معلومة لدى الكافة، يروعون المواطنين حتى داخل بيوتهم ليتنزعوا ممتلكاتهم ومعها أرواحهم في أحيان كثيرة.
وتسلل كبار القادة في المؤسسة العسكرية إلى السلطة بعد سقوط نظام عمر البشير عقب ثورة 2018- 2019 الشعبية، وبرروا ذلك بأنهم الأقدر على حفظ الأمن، وفي ظل راهن الأوضاع حيث لا أمن ولا أمان، فهناك مشروعية للتساؤل: هل يتعمد هؤلاء القادة ترك الحبل على الغارب للعصابات الإجرامية حتى تصل البلاد إلى حالة من عدم الأمان تستوجب التدخل الطارئ ـ وهو اسم الدلع للانقلاب العسكري؟