عذرا جمال الدين الأفغاني

يقول المفكر جمال الدين الأفغاني: “العبيد هم الذين يهربون من الحرية، فإذا طردهم سيّدٌ، بحثوا عن سيّد آخر”. هذه الصيحة الداعية إلى الحرية أطلقها ابن أفغانستان الحكيم المجدد والثائر جمال الدين، منذ قرن ونصف، ولم يكن يدري بأن أبناء البلد الذي زرع فيه الدين المعتدل، الذي يسعى للأخلاق والعلم، يسابق أبناؤه الطائرات، طلبا للخروج من بلاد الأفغان إلى بلاد الأمريكان الذين عاثوا خرابا في البلاد، وحوّلوا الكثير من أعزة القوم إلى أذلة، وعندما قرّروا ترك الأرض المحروقة، اتضح بأن الكثير منهم مجرد “عبيد” يهربون من الحرية، إلى درجة أن السيد طردهم، فبحثوا عن سيد آخر، تماما كما قال الحكيم جمال الدين الأفغاني منذ عقود.

ما صارت تقدِّمه الكثير من الشعوب الإسلامية من ذل وقرابين من الكرامة، لبقية شعوب العالم، تجاوز كل الحدود وأساء إلى تاريخ إسلامي كبير، قاده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت فيه العزة كلها لله ولرسوله وللمؤمنين، وسار على نهجه رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه.

فمن غير الممكن أن نعيش هجرة شباب صائم عبر زوارق الموت، من أجل حلم العيش تحت راية إيطاليا أو قبرص أو غيرهما من البلدان الأوروبية، ولو ككانسي الطرقات ورافعي القمامة، ويتشبَّث آخرون بأجنحة الطائرات الاستعمارية المغادرة، طلبا لمزيد من الذل في حالة مازوشية لم يسبق وأن سمع عنها العالم، في أقل البلدان كثافة سكانية وإمكانات مادية وعقم تاريخي رهيب، وهم ينتمون إلى أمة المليار نسمة، التي كانت بلادا لا تغرب عنها الشمس في العصر العباسي، وكانت شمسا للعلوم جميعا وأرضا للأحلام.

لا يهمّ إن كانت طالبان، ستقبر الحريات وتقيّد أربعين مليون نسمة، ولا يهم إن كان أبناء البلد يرفضون هذه العودة، ولو بتنازلات من حليف تنظيم “القاعدة”، فالعلاقة المقطوعة بين الحكام والشعوب في غالبية دول العالم الإسلامي، صارت قاعدة مزمنة، ووصل الأمر إلى درجة الانتحار في بحار بقية الأمم ومطاراتها أو أراضيها رفضا لهؤلاء الحكام وأوضاع بلادهم؛ لأن الأمر يعني أننا غيّرنا معنويا الكثير من القواعد الإسلامية التي تقول إننا خيرُ أمة أخرجت للناس، وإن العزة كلها لهذه الأمة، التي خصّها الله تعالى بالرسالة المحمَّدية.

لقد اغتنمت الكثير من القوى المعادية للإسلام والمسلمين تلك الصور البائسة لشبانٍ أفغان وهم يحتلون مطار العاصمة، طلبا للهجرة إلى أي دولة كانت بما في ذلك فلسطين المحتلة، فقامت بنشرها على نطاق واسع، وركزت على صور سقوط هؤلاء من الطائرات، التي تشبَّثوا بأبوابها ونوافذها وأجنحتها وحتى عجلاتها في أغرب عملية انتحار تحدث في تاريخ البشرية، ولسان حالها يدعو العالم إلى مشاهدة البؤس الذي بلغته الأمة الإسلامية، التي صارت لا تأكل إلا مما زرعه الآخرون، ولا تموت إلا عشقا في الآخر، وهي محسوبة على الإسلام.

نعود إلى الحكيم جمال الدين الافغاني، الذي قيل له مرة إن المستعمِرين ذئاب، فقال لهم: "لو لم يجدوكم نعاجا لما كانوا ذئابا"!

نقلا عن صحيفة الشروق الجزائرية