حيرة كبيرة أمام المستقبل.. هي بعض ما نجد وبعض ما نعاين من سلوك النخبة السياسية في
تونس بعد الانقلاب (وكيف لا نسميه انقلابا؟)، كأني أرى النخبة تتربص بما يتكرم الرئيس من فاضل السلطة ليمنحها مكانة، أو يعطف فيخفف من غلواء حماسه للحكم الفردي فيعود من تلقاء نفسه، وربما منّى البعض نفسه باعتذار الرئيس عما فعل.
الرئيس ماض قدما في ما اعتزم، لا يلوي إرادته شيء حتى الأزمة الاقتصادية. وقد ترك الحبل على الغارب في آخر بيان لتمديد الأحكام الانتقالية (وهي تسميته الخاصة لانقلابه على الدستور والمؤسسات المنتخبة)، فقال إن أحكامه مستمرة إلى أجل يحدده هو وقت يشاء. ماذا تفعل النخب الحزبية والنخب المثقفة التي طالما لهجت بمديح الديمقراطية؟ إنها حائرة تنتظر.
لطالما توقعنا الأسوأ من مجريات الصراع السياسي بين النخب بعد الثورة، ولكن لم يذهب بنا الظن السيئ إلى درجة ظهور مثل قيس سعيد في المشهد
حيرة التحليل قائمة
لطالما توقعنا الأسوأ من مجريات الصراع السياسي بين النخب بعد الثورة، ولكن لم يذهب بنا الظن السيئ إلى درجة ظهور مثل
قيس سعيد في المشهد. لقد رافق صعوده إلى الدور الثاني الكثير من الريبة، فالرجل بلا تاريخ سياسي، ولكن منافسه المشبوه جعل التصويت له نوعا من طلب النجدة الغريزي أمام خطر داهم، فلما استتب له الأمر واطمأن التحليل إلى أن المسار الديمقراطي في طريقه؛ تحول الرئيس إلى خطر داهم ثم ها هو خطر جاثم فوق التجربة وفوق التحليل، ولا نجد مفاتيح فهم شخصيته وسلوكه غير الديمقراطي.
يجب أن نعترف بأننا حللنا غالبا بأقل القليل من المعلومات، وأن ما كان يجري في الكواليس السياسية يفوتنا أغلبه أو كله. كنا مثلا نعبر عن رفضنا المطلق لحركة السفير الفرنسي في تونس، ونرى في بيته المفتوح للنخب خطرا على التجربة بحكم الماضي الاحتلالي البغيض لفرنسا، لكن أن توجه فرنسا الانقلاب برمته وتجيش له الموقف الدولي فهذا كان بعض غفلتنا.
انتبهنا مبكرا إلى انزياح الجمهور الذي حصل بعد أقل من ستة أشهر من انتخابات 2019، فقد نزح كل جمهور القروي (المتهم بالتطبيع) وراء قيس سعيد (صاحب مقولة التطبيع خيانة عظمى)، بينما تراجع إلى الموقع الثاني جمهور قيس. وكان الأمر جماعيا حتى قلنا بأن هناك أوامر صدرت للجمهور الذي غير موقفه، ولكن رغم الانتباه المبكر لم نتخيل أن ينقلب هؤلاء كليا على عملية الانتقال الديمقراطي المتعثرة. نحن نقف على عفوية تحليلنا السابق ونرى أن حسن الظن مجلبة للغفلة.
مثلا نعبر عن رفضنا المطلق لحركة السفير الفرنسي في تونس، ونرى في بيته المفتوح للنخب خطرا على التجربة بحكم الماضي الاحتلالي البغيض لفرنسا، لكن أن توجه فرنسا الانقلاب برمته وتجيش له الموقف الدولي فهذا كان بعض غفلتنا
نقارن مع ابن علي 1990
نضطر إلى إقامة ممثلة بين تونس 2021 وتونس 1990 وحرب الاستئصال التي شنها ابن علي على
الإسلاميين، فقد تكون هذه إحدى مفاتيح فهم ما يجري الآن. كل الذين وافقوا ابن علي على حرب الاستئصال بنيّة نيل مكرماته بعد التخلص من العدو الإسلامي نراهم يقفون نفس الموقف من انقلاب قيس سعيد، ولا نظنهم إلا يتربصون في انتظار الأعطيات السياسية.
وحتى عندما يحللون بأن الأزمة الاقتصادية عاصفة وستلزم الانقلاب بتنازلات، فإننا في هذه اللحظة نقرأ تحاليلهم على أنها عرض خدمات (بمنطق سيدي هناك أزمة ونحن مستعدون للخدمة). لقد كتب الكثير منهم أشياء مماثلة زمن ابن علي لكنه انصرف عنهم، فباؤوا بخسران كبير لمدة ربع قرن.
هل يجيبون على سؤال بسيط: لماذا لم يتعلموا من تجربة ابن علي ويحللوا أسباب خساراتهم؟ إننا نجدهم بعد الانقلاب مرابطين على موقف قديم ما دامت هناك خسارة سياسية لعدوهم الإسلامي، فلا بأس بكل بديل ولو لم يفلح في مواجهة الأزمة الاقتصادية. هذا المنطق هو الذي خرب التجربة الديمقراطية وساعد الرئيس على الإجهاز عليها. لقد أقصى الإسلاميين من موقع القرار، وهذا مكسب لكن هل سيعطي قيس أكثر مما أعطى ابن علي؟ كل المؤشرات المقروءة منذ 25 تموز/ يوليو تقول العكس، ولذلك نجد على وجوه النخبة حيرة كبيرة. ونظن أنها ستتحول إلى خيبة كاسحة، وسيترجمون الحيرة والخيبة بعبارات مكابرة، فأي اعتراف بالخطأ سيكون بوابة رجوع لخصمهم الذي لا يطيقون وجوده.
لماذا لم يتعلموا من تجربة ابن علي ويحللوا أسباب خساراتهم؟ إننا نجدهم بعد الانقلاب مرابطين على موقف قديم ما دامت هناك خسارة سياسية لعدوهم الإسلامي، فلا بأس بكل بديل ولو لم يفلح في مواجهة الأزمة الاقتصادية
نحتاج إلى أدوات تحليل نفسي سياسي
لن نجد الكثير لنفسره في سلوك النخبة المتربصة بفضلات الانقلاب، سوى هذه الغريزة الاستئصالية التي تربوا عليها ولم يراجعوها، فلم يحسبوا أبدا خساراتهم الفردية والجماعية التي تكبدوها جراء العداء المبدئي للإسلاميين. لم يفهموا صوت الصندوق الانتخابي ولم يقبلوا به، ولا نراهم يفعلون (هذا إذا بقي أمامهم صندوق انتخابي).
لذلك نرى أن أدوات تحليلنا التقليدية يجب أن تتغير وتنحو إلى البحث في العُقَد النفسية المترسبة في عقول وأرواح هذه النخب. فهم ليسوا تعبيرة طبقية لنرى خلافاتهم من زاوية الصراع الاجتماعي، وهم ليسوا حداثيين لنرى نضالاتهم ضد الرجعية الدينية ونحلل بصراع الحداثة مع التخلف والماضوية. فالتقدميون كشفوا عن روح انقلابية خالصة، مناقضين بذلك كل خطاب تقدمي ارتبط بنشأة الديمقراطية وتطويرها في تجارب الغرب الديمقراطي.
سيقتضي هذا مراجعة مواقف كثيرة والاعتذار عن مواقف أخرى سبقت منا وقامت على حسن الظن، لنقل على الغفلة فلا بأس من ذلك ما دام المرء ينوي البقاء بهذه الأرض ليكون على الأقل أقل غفلة فيما تبقى له من وقت
نحن إزاء مواقف غريزية تحركها نوازع نفسية مرضية تحتاج إلى الطب النفسي لا إلى التحليل السياسي أو الاجتماعي. سيكون من العسير إقناعهم بأنهم مرضى، فهذه دوما حالة المريض النفسي، ولكن لنوطن التحليل على أن من نراهم في المشهد يبررون للانقلاب إنما يعبرون عن حالة نفسية مرضية غير قابلة للعلاج. ونحن هنا لا نود فناءهم ولا ندعو عليهم، ولكن أن نعقد عليهم أملا في تطوير أفكارهم ومواقفهم من المسألة الديمقراطية فهو أيضا مرض نفسي نستبق أن يستفحل بنا فنواصل حسن الظن الذي يجلب الغفلة.
وجب أن نبدأ من مكان بعيد، مثل اتخاذ سوء الظن بالنخبة سبيلا ومرتكزا صلبا للفهم والتحليل. سيقتضي هذا مراجعة مواقف كثيرة والاعتذار عن مواقف أخرى سبقت منا وقامت على حسن الظن، لنقل على الغفلة فلا بأس من ذلك ما دام المرء ينوي البقاء بهذه الأرض ليكون على الأقل أقل غفلة فيما تبقى له من وقت. لقد مرت يد النخاس ابن علي من رؤوس النخبة التونسية، وهذه مسلمة أولى للتحليل.