أفكَار

شهادة مهمة لكاتب بريطاني عن 11 سبتمبر ومحاربة الإرهاب (3من3)

صحفي بريطاني يكشف دور لندن في تسليم معتقلين في غوانتانامو إلى سلطات بلادهم- (الأناضول)
صحفي بريطاني يكشف دور لندن في تسليم معتقلين في غوانتانامو إلى سلطات بلادهم- (الأناضول)

يستعيد الكاتب والإعلامي الاستقصائي البريطاني إيان كوبين، في هذه الورقة المطولة، تداعيات أحداث 11 أيلول (سبتمبر) في الولايات المتحدة الأمريكية، وما تبعها من غزو لأفغانستان ثم العراق، وهي ورقة نشرها في موقع "ميدل إيست آي" يوم 3 أيلول (سبتمبر) الجاري.


"عربي21"، وفي سياق متابعتها وتغطيتها ليس فقط لمآلات الحرب في أفغانستان وانسحاب القوات الأمريكية والغربية وانهيار حكومة الرئيس أشرف غني، لصالح عودة السيطرة لحركة طالبان، وإنما أيضا لحجم التحول الذي جرى في العالم بسبب أحداث 11 أيلول (سبتمبر) في الولايات المتحدة، وما تبعها من إعلان للحرب على الإرهاب، تترجم شهادة الكاتب والصحفي البريطاني إيان كوبين، بالنظر لما تحمله من معلومات وآراء مهمة عن تلك الحرب وما نجم عنها.. 

الورقة التي تنشرها "عربي21" على ثلاثة أجزاء متتابعة، مع أنها تتضمن معطيات أصبحت معلومة عن عدد ضحايا أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنها تحمل وجهة نظر صحفي استقصائي بريطاني حاز سبقا صحفيا في تعرية الانتهاكات التي اقترفتها بريطانيا في مجال حقوق الإنسان، وبعد ذلك الجرائم التي ارتكبتها القوات الأمريكية في أفغانستان والعراق.

 

وفي ما يأتي الجزء الثالث والأخير من المقال:

البحث بشكل أعمق

بدأت أبحث بشكل أعمق فوجدت ما يثبت أنه لا صحة على الإطلاق للزعم بأن MI5 و MI6 مذنبان فقط في أنهما "كانا بطيئين في تحري النمط المتجلي" لعمليات التسليم التي تنفذها الولايات المتحدة. 

بعد يوم واحد من أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) طار إلى واشنطن على متن طائرة دي سي 10 كل من إليزا مانينغهام بولار، مدير عام جهازMI5، وريتشارد ديرلوف، رئيس جهازMI6، وفرانسيس ريتشاردز، رئيس المقر الرئيسي للاتصالات الحكومية المعروف بـGCHQ، وكانت مهمة كبار جواسيس بريطانيا هي إيصال رسالة مفادها أنه سيكون هناك تضامن بريطاني تام.  

من خلال قراءة مذكرات ضابطين سابقين في "السي آي إيه"، أحدهما هو جورج تينيت الذي كان ذات مرة مديراً للوكالة، وكذلك يوميات أليستر كامبل، مسؤول الاتصالات في مكتب طوني بلير، وخطاب كانت قد ألقته إليزا مانينغهام بولار، يمكن للمرء أن يجمع قطع الأحجية، التي حالما يتم تركيبها فإنها ستروي الحقيقة كاملة. 

بعد مرور أربعة أيام على الرحلة المنفردة عبر الأطلسي أرسلت السي آي إيه وفداً إلى السفارة البريطانية في واشنطن لتقديم إحاطة استغرقت ثلاث ساعات لجهاز MI6 حول برنامج التسليم الذي يوشك أن يبدأ تنفيذه. 

كان من الممكن حتى التعرف على أسماء ضباط السي آي إيه الذين حضروا الإحاطة. كان أحدهم قد تقاعد عندما بدأت أجمع الحيثيات معاً، وكان مدهشاً لعيني البريطانيتين أن تشاهدا اسمه مدوناً مع عنوان منزله في دليل الهاتف لضواحي فرجينيا. 

اتصلت به فرد على الهاتف. عرفته بنفسي وسألته إن كان بإمكانه إعطائي أسماء ضباط جهاز MI6 الذين كانوا حاضرين في الإحاطة. زادني دهشة أن يقول له: "أحدهما كان مارك ألين. وأما الآخر فكان ذلك الخبير السوفياتي الكبير ـ ماذا كان اسمه؟".

لم تكن لدي أدنى فكرة، فبريطانيا ليست مثل الولايات المتحدة. حتى سنوات قليلة قصيرة مضت حتى أسماء رؤساء تلك الأجهزة كانت تعتبر أسراراً رسمية. 

بحلول منتصف عام 2009 كان من الممكن من خلال قراءة متأنية ودقيقة للتقارير السنوية الصادرة عن لجنة المخابرات والأمن استنتاج أنه عندما كان ضباط MI5 و MI6 يستجوبون السجناء الذين كانوا بوضوح عرضة لأن يمارس التعذيب بحقهم، لم يكونوا يتصرفون دون تفويض، بل كانوا يشتغلون انسجاماً مع وثيقة إرشاد وتوجيه تمت صياغتها بعناية فائقة، فيما يمكن أن يعتبر سياسة التعذيب لدى الحكومة البريطانية. 

أشار أحد تقارير لجنة المخابرات والأمن في البرلمان البريطاني بوضوح إلى أن طوني بلير كان على علم بهذه السياسة. فكتبت إلى رئيس الوزراء السابق لأسأله عما إذا كان يعلم بأن تلك السياسة نجم عنها تعذيب الناس وسألته عما إذا كان بإمكانه إخباري بالمزيد عن دوره في صياغة تلك السياسة. 

كلف طوني بلير شخصاً ما بالرد علي، فنفى أن يكون قد أجاز ممارسة التعذيب. حسناً، هذا أمر مثير للانتباه، لقد نفى زعماً لم أسأله عنه وتهرب من الإجابة على سؤال طرحته عليه. 

كتبت ثانية أطرح على بلير نفس السؤال. فكلف رئيس الوزراء السابق مساعده بالرد ثانية قائلاً إنه لم يفهم ما الذي كنت أسأل عنه. 

حاولت للمرة الثالثة، ولكن هذه المرة استعنت في صياغة الرسالة باثنين من المحامين – أحدهما لديه خبرة في العمل في المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي. 

 

بحلول منتصف عام 2009 كان من الممكن من خلال قراءة متأنية ودقيقة للتقارير السنوية الصادرة عن لجنة المخابرات والأمن استنتاج أنه عندما كان ضباط MI5 و MI6 يستجوبون السجناء الذين كانوا بوضوح عرضة لأن يمارس التعذيب بحقهم، لم يكونوا يتصرفون دون تفويض، بل كانوا يشتغلون انسجاماً مع وثيقة إرشاد وتوجيه تمت صياغتها بعناية فائقة، فيما يمكن أن يعتبر سياسة التعذيب لدى الحكومة البريطانية.

 



ومرة أخرى كلف بلير مساعده بالرد نافياً أن يكون قد أجاز ممارسة التعذيب. كان هذا الكر والفر بحد ذاته في ظني مزيلاً للالتباس. 

في وقت مبكر من عام 2011 بدأت الحكومة في الكشف عن سلسلة من الوثائق التي كانت حتى ذلك الحين من الأسرار، وذلك بعد أن قاضاها عدد من البريطانيين من النزلاء السابقين في غوانتانامو. 

ظل محامو الحكومة يماطلون ويجرون أقدامهم لشهور، ثم لسنين، ثم في النهاية، وبموجب أحكام الكشف عن المعلومات التي تنطبق على المحاكمات المدنية في بريطانيا، اضطروا لأن يخرجوا ببعض المواد ذات العلاقة. 

تقدمت من المحكمة بطلب الحصول على نسخ منها، فحصلت على الإذن بذلك. ما حصلت عليه يرقى إلى حمل كبير من الأوراق كفيل بملء دبة سيارة. بدت الوثائق كما لو أنها بعثرت عمداً، فاستغرقت إعادة ترتيبها أياماً. 

كان من بينها برقية بعث بها جاك سترو إلى مختلف البعثات الحكومية يأمر فيها بشحن المسلمين البريطانيين الذين سجنوا بعد الحادي عشر من سبتمبر إلى غوانتانامو. 

أرسلت البرقية في يناير/ كانون الثاني من عام 2002 خلال الأسبوع الذي افتتح  فيه معسكر أشعة إكس وبدأ فيه العمل، أي عندما التقط شين ماكوي صوره الكاشفة (وأيضاً خلال الأسبوع الذي استنفر فيه وزير الدفاع البريطاني جيف هون أعضاء القوات المسلحة بدوام جزئي الذين عملوا محققين مختصين في كل من أفغانستان والعراق). 

يبدو أن طوني بلير، أو أشخاصاً قريبين منه، اتخذوا قراراً في مطلع يناير/ كانون الثاني من عام 2002 بنزع القفازات. 

ومما كان مدفوناً ضمن الوثائق التي ملأت دبة سيارتي الورقة التي تحتوي على "سياسة التعذيب" البريطانية. وكان يوجد منها عدة طبعات، صدرت الأولى منها في يناير/ كانون الثاني 2002 بعد أن شهد ضباط MI5 الأمريكان وهم ينهالون بالضرب المبرح على السجناء في قاعدتهم المنشأة حديثاً في بغرام شمال كابول وسألوا لندن ما هو موقفهم القانوني فيما لو استجوبوا الضحايا. 

كانت هذه المسودة الأولى مبنية على وثيقة لوزارة الدفاع صيغت خصيصاً لعناصر الجيش البريطاني الذين قد يجدون أنفسهم في أوضاع مشابهة، يشاهدون الحلفاء وهم يعذبون السجناء. ثم صيغت طبعات معدلة منها في 2004 ثم في 2006 قبل وقت قصير من اعتقال وتعذيب متشددين بريطانيين مشتبه بهم في الباكستان. 

كانت بحق وثيقة مذهلة، حيث وجهت كبار ضباط المخابرات نحو موازنة قيمة المعلومات التي يسعون للحصول عليها مقابل درجة الألم التي قد يتوقع السجين المعاناة منها عند انتزاع المعلومات منه. 

كما أقرت بأن عناصر MI5 و MI6قد ينتهكون القوانين البريطانية والقوانين الدولية عندما يطلبون المعلومات من مساجين محتجزين لدى وكالات مخابرات أجنبية معروف عنها ممارسة التعذيب. 

وبينت وثيقة السياسة أنه يتوقع من وزراء الحكومة أن يستشاروا مسبقاً قبل القيام بأي عمل قابل لأن يجرم وذلك بغرض توفير الغطاء السياسي. 

وأخيراً حذرت من أن بريطانيا قد تواجه خطراً أكبر من هجمات إرهابية محتملة فيما لو أصبح الجمهور على دراية بوجود تلك الوثيقة. 

قضية مشتركة مع القذافي

شهدت الانتخابات العامة البريطانية عام 2010 تشكيل حكومة ائتلافية من المحافظين والديمقراطيين الأحرار، وخرج حزب العمال من الحكم بعد ثلاثة عشر عاماً. 

كانت واحدة من أولى خطوات رئيس الوزراء الجديد دافيد كاميرون الإعلان عن تشكيل لجنة تحقيق يرأسها قاض للبحث في ضلوع بريطانيا في برنامج التسليم وإساءة معاملة المعتقلين ما بعد الحادي عشر من سبتمبر. 

في وقت متأخر من العام التالي ظهر أوضح دليل ممكن على هذا الضلوع خلال الثورة الليبية. 

فأثناء البحث في مكاتب موسى كوسا، الرئيس السابق للمخابرات في البلاد، وقع باحث من منظمة هيومان رايتس واتش على كنز من الوثائق التي كانت حتى ذلك الوقت سرية، وتكشف عن الطرق التي كانت تنفذ عبرها المخابرات الأمريكية والمخابرات البريطانية عدداً من العمليات التي نجم عنها اختطاف معارضين لمعمر القذافي وتسليمهم له. 

كان من بين الضحايا رجل وزوجته الحامل اختطفا من بانكوك في عام 2004 وكذلك رجل وزوجته وأطفالهم الأربعة أصغرهم في السادسة من عمره وضعوا على متن طائرة في هونغ كونغ بعد ذلك بأسبوعين. 

تم نقلهم جميعاً جواً إلى طرابلس. ما بين العمليتين قام طوني بلير بأول زيارة له إلى ليبيا، حيث احتضن القذافي وقال إنهما وجدا قضية مشتركة في الحرب على الإرهاب. 

بينما أطلق سراح النساء والأطفال بعد فترة من الزمن قضى الرجلان ـ عبد الحكيم بلحاج وسامي السعدي سنوات في سجون القذافي حيث تعرضا لتعذيب شديد. 

أخبرتني زوجة بلحاج، واسمها فاطمة بودشار، كيف تم تثبيتها على نقالة باستخدام شريط لاصق وبقيت كذلك طوال مدة رحلة الطيران إلى طرابلس والتي استغرقت سبع عشرة ساعة. أما خديجة، الابنة الكبرى للسعدي فتحدثت كيف شاهدت أمها وأباها وقد وضعت الأكياس على رأسيهما وربطت أرجلهما بالأسلاك عندما هبطت الطائرة. 

من بين الوثائق التي عثرت عليها منظمة هيومان رايتس واتش فاكسات موقعة من قبل مارك ألين يذكر فيها كوسا بأن جهاز MI6 هو الذي وفر المعلومات التي سمحت باختطاف العائلتين. 

كما كانت هناك قوائم بأسئلة أراد جهازا MI5 و MI6 توجيهها للرجلين. فيما بعد استخدمت المعلومات التي انتزعها جلادو القذافي تحت التعذيب لتبرير اعتقال معارضين ليبيين يعيشون داخل بريطانيا. 

أصبح لا مفر الآن من أن تجري الشرطة تحقيقاً، ولكن عندما بدأ محققو اسكتلاند يارد البحث علقت الحكومة تحقيقها الذي يرأسه القاضي بحجة أنه لا يمكن الاستمرار به في نفس الوقت الذي تُجري فيه الشرطة تحقيقاتها. 

استغرق تحقيق الشرطة أكثر من ثلاث سنين، واستجوب جاك سترو بكونه شاهداً. وأخيراً سلموا ملفهم للمدعي العام البريطاني. ورغم وجود كم هائل من الأدلة ضد ألين، الذي أصبح الآن السير مارك ألين بمنحه لقب سير بعد عام واحد من تنفيذ عملية الاختطاف، إلا أن المحامين الذين يمثلون الحكومة قرروا أن الدليل غير كاف لتوجيه تهم، الأمر الذي أسخط ضباط التحقيق وعائلات الضحايا. 

حينها، وبعد عدة سنوات من قراري التنقيب بعمق في جرائم الدولة البريطانية، لم أكن أبداً مستغرباً، بل كنت سأستغرب فيما لو أوصى الادعاء العام بتوجيه الاتهام لألين. 

بعد أن رفع سامي السعدي وعائلته قضية ضد الحكومة البريطانية، تم تسوية الأمر خارج المحكمة، ودفع تعويض للعائلة قدره 2.2 مليون جنيه إسترليني ولكن لم تعترف الحكومة بالمسؤولية. 

إلا أن بلحاج تمسك بموقفه قائلاً إنه يمكن أن يسوي الأمر مقابل تعويض رمزي قدره ثلاثة جنيهات ولكن فقط فيما لو اعتذرت الحكومة البريطانية له ولزوجته فاطمة. جاء ذلك الاعتذار في عام 2018 على لسان تيريزا ماي التي كانت حينذاك رئيسة للوزراء. 

في هذه الأثناء بادرت لجنة المخابرات والأمن أخيراً بإجراء تحقيقي فعلي في ضلوع بريطانيا في الخطف والتعذيب، وذلك عندما ترأسها دومينيك غريف، المدعي العام السابق في إنجلترا وويلز، والذي كان يحظى باحترام كبير. 

في شهر يونيو/ حزيران من عام 2018 أعلنت لجنة المخابرات والأمن في البرلمان البريطاني أنه حيل بينها وبين استجواب بعض الشهود وأن وثائق من بعض الفترات المهمة غدت مفقودة لا يعرف ما الذي آل إليه أمرها، حيث أشار تقرير اللجنة إلى أن "سجلات رسمية لبعض الفترات المعنية على الأقل باتت مفقودة."

على الرغم من ذلك قالت اللجنة في تقريرها إن أجهزة الاستخبارات البريطانية قامت خلال الأعوام التسعة التي تلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر بتزويد شركاء في الخارج بأسئلة فيما لا يقل عن 558 مناسبة، رغم معرفتها أو وجود شكوك لديها بأن سجيناً ما يتعرض للتعذيب، وأنها كانت ضالعة في 53 عملية تسليم ـ وأنها مولت ثلاثاً من هذه العمليات ـ وأن ضباطها كانوا شهوداً على تعذيب وإساءة معاملة السجناء فيما لا يقل عن 13 مناسبة. 

وبعيداً عن كون المزاعم بضلوع بريطانيا في عمليات التسليم جزءاً من نظرية مؤامرة ـ كما أخبر جاك سترو البرلمان في عام 2006 ـ خلصت لجنة المخابرات والأمن إلى أن جاك سترو أمر شخصياً بدفع "جزء كبير من تكاليف" عملية تسليم شخصين اثنين في عام 2004. 

لم يكن فقط جهاز MI5 وجهاز MI6 وحدهما ضالعين في الإساءات والانتهاكات. بل ثبت أن وكالة استخبارات الاتصالات GCHQ، والتي زعمت لسنوات بأن يديها نظيفتان تماماً، قد ساعدت السي آي إيه في التعرف على أماكن تواجد أشخاص جرى فيما بعد اختطافهم وتعذيبهم. 

وفي ملاحظة قصيرة ذيل بها تقرير لجنة المخابرات والأمن ما يشير إلى أنه وفي ذروة فضيحة أبو غريب قررت وزارة الدفاع البريطانية إرسال فريق من المحققين العسكريين إلى السجن لاستجواب المعتقلين. 

على الرغم من أن التقرير تعرض للتنقيح قبل النشر وظللت فقرات منه، فقد أمكن استخلاص أن اللجنة توصلت إلى أنه في يناير/ كانون الثاني من عام 2002 شاهد ضابط من جهاز MI6 عناصر من السي آي إيه يضعون أحد سجناء بغرام، ابن الشيخ الليبي، داخل تابوت ويغلقونه عليه قبل وضعه على متن طائرة متجهة إلى مصر. 

يقول التقرير إن جهاز MI5 قام فيما بعد بتزويد الأسئلة التي وجهت إلى الليبي في مصر، ثم استخدمت ردوده ـ التي تضمنت الزعم الباطل بوجود علاقة بين صدام حسين والقاعدة ـ من قبل حكومتي الولايات المتحدة وبريطانيا للمساعدة في تبرير غزو العراق في عام 2003. 

ثبت بذلك أن الترنيمة التي كثيراً ما تتردد ومفادها أن حكومة صاحبة الجلالة "تندد بلا تحفظ باستخدام التعذيب" وأنها لا تشارك في التعذيب ولا تقره ما هي سوى كذبة جوفاء. 

أبدان كسيرة وعقول مهشمة

في عام 2010 كنت أتردد بانتظام على الجناح العسكري في مستشفى يقع في سيلي أوك في مدينة بيرمنغهام لأزور صديقاً كان قد فقد ساقيه الاثنتين في تفجير لغم أرضي في هيلماند. 

في الأسرة، الواحد تلو الآخر، يجلس جنود شباب أصيبوا في الحرب. كان الجو داخل الجناح دافئاً، الأمر الذي يجعلهم في العادة يجلسون على أسرتهم لا يرتدون سوى سراويلهم القصيرة المصممة بألوان العلم البريطاني. إذا نظرت إلى أبدانهم ما فوق السراويل تجدهم في كامل صحتهم، أما ما دون السراويل فلا يوجد في العادة شيء. أحد الفتيان كان صغيراً جداً لدرجة أنه كان يزعج زملاءه المرضى بالسطو على حلوياتهم. 

أبدان كسيرة وعقول مهشمة وحياة ضائعة. تتكرر هذه المآسي عبر أفغانستان والعراق، وفيما لا يحصى عدده من البيوت والمستشفيات داخل الولايات المتحدة وفي البلدان الحليفة لها. 

تقديرات أعداد الناس الذين قتلوا في العراق ما بين 2001 و 2014 تتباين بشكل كبير، وتتراوح ما بين 150 ألفاً و 450 ألفاً. أما الجرحى فلا يعرف أحد في واقع الأمر عددهم. يضاف إلى ذلك الآلاف ممن قتلوا وجرحوا بعد ظهور تنظيم الدولة الإسلامية. 

 

في خضم المشاهد المرعبة والفظيعة لتلك الأيام الأخيرة ـ شباب يتساقطون من الطائرات، وبشر بائس يائس يموت داخل قنوات المجاري بينما تنقل القطط والكلاب على عجل إلى دار الأمان ـ يسهل على المرء أن ينسى كم كان حجم الدعم في البداية لشن الحرب على أفغانستان، وإن لم يكن بنفس الدرجة لشن الحرب على العراق.

 



وطبقاً لما يقوله معهد واتسون للشؤون الدولية والعامة في جامعة براون فإن ما يزيد عن 175 ألفاً فقدوا حياتهم في أفغانستان، حتى قبل أن تبدأ حركة الطالبان تقدمها السريع في أرجاء البلاد في وقت مبكر من هذا العام. أكثر من خمسين ألفاً من هؤلاء هم من المدنيين. وفي الجانب الآخر من الحدود، داخل باكستان، يقدر عدد من قتلوا بحوال 66 ألفاً. 

في وقت سابق من هذا العام أحدث الرئيس الأمريكي جو بايدن هزة عندما أمر بسحب جميع القوات الأمريكية من أفغانستان بحلول الحادي والثلاثين من أغسطس/ آب. إلا أن أحداً لا يعلم حتى الآن أين ستقع القطع المتناثرة. 

بحلول يوليو/ تموز تبين بجلاء أن الولايات المتحدة جادة بشأن المغادرة قبل الذكرى السنوية العشرين لهجمات الحادي عشر من سبتمبر. في بداية الشهر انسحبت القوات الأمريكية تحت جنح الظلام من قاعدتها في بغرام، ولم يخبروا حلفاءهم الأفغان بأنهم ينوون المغادرة، وقاموا حرفياً بإطفاء الأنوار لحظة مغادرتهم. 

معظم القوات البريطانية انسحبت من العراق في عام 2011 ومن أفغانستان بعد ذلك بثلاث سنين. بعد يومين من انسحاب القوات الأمريكية من بغرام أعلنت الحكومة البريطانية أن القلة من جنودها المتبقين سوف ينسحبون من البلد. في حقيقة الأمر، تم إجراء مراسيم تنزيل العلم قبل ذلك، وكان ذلك محاطاً إلى حد كبير بالسرية. 

ما حصل هو أن الإخلاء السريع لما يقرب من 2500 من القوات الأمريكية المقاتلة من البلد ـ والأهم من ذلك سحب الغطاء الجوي الأمريكي ـ تسبب في انهيار معنويات الحكومة الأفغانية وأخمد الروح القتالية لدى الكثيرين من أفراد قواتها المسلحة. 

كانت أوائل الأقاليم سقوطاً تلك التي في الشمال، بما في ذلك النقاط الحدودية التي تتحكم بالعبور نحو الجسر الذي يربط البلد من فوق نهر بانج بطاجيكستان. ثم استسلمت المدن الواحدة تلو الأخرى، في بعض الأوقات بعد معارك متفرقة، وفي بعض الأوقات بعد مفاوضات على الطريقة التقليدية الأفغانية بين القوى المتحاربة. 

وأخيراً اكتسح الطالبان ووصلوا إلى كابول، وانسحبت القوة الأمريكية إلى داخل مطار المدينة، وتجمهر الآلاف من حوله في الخارج، يتوسلون النجدة، وهكذا عادت أفغانستان دورة كاملة إلى الوراء. 

في خضم المشاهد المرعبة والفظيعة لتلك الأيام الأخيرة ـ شباب يتساقطون من الطائرات، وبشر بائس يائس يموت داخل قنوات المجاري بينما تنقل القطط والكلاب على عجل إلى دار الأمان ـ يسهل على المرء أن ينسى كم كان حجم الدعم في البداية لشن الحرب على أفغانستان، وإن لم يكن بنفس الدرجة لشن الحرب على العراق. 

مباشرة بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر ظن كثير من الناس حول العالم أنه لا مفر من أن تتحرك الولايات المتحدة سريعاً لإسقاط نظام الطالبان الذي وفر للقاعدة الزمان والمكان للتخطيط للهجمات. 

 

معظم القوات البريطانية انسحبت من العراق في عام 2011 ومن أفغانستان بعد ذلك بثلاث سنين. بعد يومين من انسحاب القوات الأمريكية من بغرام أعلنت الحكومة البريطانية أن القلة من جنودها المتبقين سوف ينسحبون من البلد. في حقيقة الأمر، تم إجراء مراسيم تنزيل العلم قبل ذلك، وكان ذلك محاطاً إلى حد كبير بالسرية.

 



من خلال العودة بالنظر إلى الخلف ـ فيما يعرف بـ "القوة العظمى للمؤرخين" كما عبر عن ذلك مؤرخ للحرب في أفغانستان مؤخراً ـ لربما كان يتوجب على الولايات المتحدة وبريطانيا مغادرة البلد مباشرة في عام 2002 أو في مطلع عام 2003 بينما كانوا ما يزالون متقدمين. 

ولكن بدلاً من ذلك بقوا وخاضوا حرباً من المؤكد أنها غير قابلة للكسب. 

في المقابل كان العراق دوماً سينتهي إلى وضع كارثي، أخذاً بالاعتبار أن مبرر شن الحرب كان باطلاً والحجة الرسمية لصالحها كانت خديعة. 

اعتقد الزعماء السياسيون في واشنطن ولندن أن صدام حسين كان يمتلك أسلحة دمار شامل لأنهم أرادوا اعتقاد ذلك وليس لوجود أي معلومات استخباراتية تؤيد تلك الإمكانية. 

وكان الارتباط المزعوم بين صدام والقاعدة مجرد كذبة تقوم جزئياً على الاعترافات التي انتزعت تحت التعذيب من الليبي. 

إذا ما أخذنا بالاعتبار كثافة الذبح والموت والبتر وجوائح تدهور الصحة النفسية ـ ودعونا لا ننسى، تكاليف الثروة والدم ـ لا نكاد نرى أي قدر يستحق الذكر من مراجعة الذات من قبل المسؤولين، ولم يصدر لا عن البيت الأبيض ولا عن داونينغ ستريت إقرار بالذنب. 

عندما صدر تقرير السير تشيلكوت في عام 2016، بعد أكثر من 13 سنة من الغزو، كان نقده للحكومة البريطانية لاذعاً، واحتل نشرات الأخبار داخل بريطانيا على مدى أربعة وعشرين ساعة، ثم ما لبثت وسائل الإعلام أن عادت للانشغال بموضوع بريكسيت (الخروج من الاتحاد الأوروبي). 

في هذه الأثناء، ها هو تنظيم الدولة الإسلامية في خراسان يشن التفجيرات الانتحارية والهجمات الصاروخية داخل كابول، ومازال النزلاء محجوزين بلا محاكمة داخل غوانتانامو، وتبقى النضالية الإسلامية حقيقة واقعة في الحياة من غرب أفريقيا إلى جنوب شرق آسيا.  

يصر بايدن على أن أيام تنقل القوات الأمريكية في مشارق الأرض ومغاربها في محاولة لفعل الخير باستخدام القوة العسكرية قد ولت. ورغم ذلك يتعهد الرئيس بالانتقام ممن يقف وراء التفجيرات الانتحارية، ومازال أطفال أفغانستان تفتك بهم قنابل الأمريكان التي تتساقط على رؤوسهم في منازل ذويهم. 

يبدو محتملاً أن الحروب اللانهائية لم تصل إلى نهايتها بعد. 

* كتاب إيان كوبين "بريطانيا القاسية: التاريخ السري للتعذيب"، نشرته دار بورتوبيلو للكتب.


التعليقات (0)