تطوّرت الحياة الإنسانيّة من الفرديّة
إلى المفهوم الجماعيّ التكامليّ المؤسّساتيّ، حيث بدأت حياة الإنسان بكيانات بسيطة
تمثّلت بالزواج، ثمّ تطوّرت إلى عائلة، ثمّ تنامت لتصبح عائلة كبيرة أو عشيرة.
وتختلف الأعراف العشائريّة في مجتمعاتنا
الإنسانيّة، من حيث دورها في الحياة العامّة ومدى التزام أفرادها بعاداتها
وتقاليدها بين بلد وآخر.
ويضعف دور العشيرة في المجتمعات التي يقوى
فيها القانون، ويتغوّل دورها في الدول الفاقدة للسيادة الداخليّة، التي تتحاشى
تطبيق القانون على الجميع!
والعراق من الدول المعروفة بالدور
البارز للعشائر في مختلف المجالات السياسيّة والإنسانيّة وغيرها.
وتمتاز غالبيّة
العشائر العراقيّة
بالتنوّع المذهبي، وهنالك في العشيرة الواحدة سنة وشيعة، وهذا لم يكن عائقا لدى العشائر
التي امتاز شيوخها بالحكمة والوفاء للوطن وقضايا المواطن.
ومع تنامي التغذية الفكرية السلبيّة ازدادت
في
العراق - مع الأسف - خلال السنوات الخمس عشرة الماضية المشاكل العشائريّة،
وبالذات مع دخول بعض أفراد العشائر على خطّ القوى الإرهابيّة، أو المتلحّفة بالقانون
والمناصب الرسميّة، وصاروا يسيئون لسمعة الوطن والعشيرة بسبب تصرّفات غير لائقة!
وآخر هذه الأحداث المؤلمة، المواجهة
العشائريّة التي وقعت بين عشيرتي الجنابيّين والجبور يوم 3 أيلول/ سبتمبر 2021،
وذلك بعد مقتل شابّين من الجنابيّين نحرا على يد أفراد من الجبور بعد مشادّة كلاميّة،
ويقال بأنّ المجرمين ينتمون لأحد فصائل الحشد الشعبيّ.
وبعيدا عن تفاصيل الحادثة التي لم تنته
تداعياتها حتّى الساعة رغم اعتقال بعض المنفّذين، نجد أنّ الكثير من تلك المناحرات
وقعت لأسباب تافهة، إذ أنّ بعضها وقع بسبب تفحيط درّاجة ناريّة كان يستقلها أحدهم
أمام موكب حسينيّ، فيما وقع خلاف طاحن بين أفراد من ذات العشيرة، وذلك لعدم تقديم "صحن
رز" لأحد الضيوف في مناسبة اجتماعيّة.
وقد تسبّب مبلغ ألف دينار عراقيّ (أقلّ
من دولار واحد) بنزاع عشائريّ أسفر عن وفاة طفل واحتراق أربعة منازل.
وقد حدثت نزاعات أخرى لخصومات بين
الأطفال، أو نتيجة لتعليق في مواقع التواصل الاجتماعيّ، أو بذريعة ملكيّة بطّة، أو
بقرة، أو بدافع مباراة لكرة القدم أو لعبة البوبجي، وغيرها من الحجج التي يفترض ألا
تصل لمرحلة القتل والدماء والفصول العشائريّة!
وهكذا نلحظ أنّ معظم أسباب الخلافات
العشائريّة غير منطقيّة وليس لها أيّ علاقة بالأعراف والعادات والتقاليد، أو حتّى الشرائع
السماويّة والقوانين!
وقد أكّدت الإحصائيات الرسميّة أنّ المحافظات
الجنوبيّة وبغداد جاءت بالمراتب الأولى في النزاعات العشائريّة، وأنّ عدد الذين
قتلوا في صراعات العشائر خلال عام 2021 بلغ 21 شخصاً، وأنّ بعض العشائر تمتلك
صواريخ وطائرات مسيّرة ومدافع رشاشة وأسلحة أخرى ثقيلة استخدمتها خلال نزاعاتها
الدمويّة.
ومع تنامي هذه الظاهرة المجتمعيّة نأمل معالجتها
عبر الآتي:
- ترتيب حلف عامّ بين عموم العشائر يُجرّم
الذين يعتدون على الآخرين، ويتجاهلون المحاكم الرسميّة في تحصيل الحقوق إن وجدت!
-
تشتري الحكومة
الأسلحة من المواطنين عبر حملة وطنيّة لجمع السلاح المتوسط والثقيل
دون تمييز بين قبيلة وأخرى، وبالذات مع وجود أكثر من ثمانية ملايين قطعة سلاح خفيف
في البلاد، وفقا لمسح رسميّ في العام 2017، ولا ندري كم هي أعداد تلك الأسلحة
اليوم!
-
مضاعفة العقوبات المتعلّقة بالنزاعات العشائريّة في حال كون أحد أطراف النزاع
استخدم الصفة الرسميّة، أو أسلحة الدولة المرخّصة!
-
إنهاء حالة المجاملات القانونيّة، حيث إنّ القانون العراقيّ يُجرّم المتورطين
بالنزاعات العشائريّة، ويحكم عليهم بعقوبات قاسيّة قد تصل إلى الإعدام، إلا أنّ
التداخل العشائريّ مع مؤسّسات الدولة جعل قادة الأمن في مدن النزاعات يتعاملون
بأساليب "ناعمة" لتلافي الملاحقة العشائريّة لهم من العشائر التي
يحاولون تطبيق القانون عليها، وهذه دلالات واضحة على هشاشة الأجهزة الأمنيّة التي
صُرف عليها مئات مليارات الدولارات!
- وجوب التحذير من تداعيات النزاعات
العشائريّة التي ستولد العداوة والكراهية بين عموم أبناء المدن التي تمتدّ فيها
العشائر المتناحرة، وستشجع كافّة أنواع الإرهاب والنهب والسلب والقفز على القوانين
الضابطة للعلاقات الإنسانيّة.
- وجوب تدخل المؤسّسات الدينيّة ووسائل
الإعلام المختلفة للتنبيه على خطورة هذه الآفة المجتمعيّة الترهيبيّة التخريبيّة.
هذه المقترحات وغيرها ستساهم في جعل القانون
الخيمة الحامية للجميع، ولكن السؤال الأبرز اليوم مَنْ يحمي المواطنين الذين ليس
لديهم عشائر كبيرة في العراق؟
twitter.com/dr_jasemj67