هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
اعتبر بعض الكتاب العرب والسوريين أن حل الأزمة بين الدولة العربية الاستبدادية والمجتمع المغلوب على أمره لا يكون إلا بنشوء عقد اجتماعي على غرار ما حدث في أوروبا خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، حين نشأت فكرة العقد الاجتماعي للحد من سلطة الملكية المطلقة القائمة على ما عرف بنظرية الحق الإلهي للملوك، وجعل الملوك مسؤولين أمام الناس وليس أمام الله.
يذكرنا هذا الطرح، بطرح آخر جرى في تسعينيات القرن الماضي، حين طرح كثير من المثقفين العرب ضرورة نشوء مجتمع مدني للخلاص من الاستبداد، متأثرين بحركة التضامن البولندية، وبدور المجتمع المدني في البلدان الغربية المتطورة، وتناسوا أن المجتمع المدني في الغرب هو أحد تجليات ما بعد الحداثة السياسية.
أهمية لجوء الفلاسفة إلى فكرة العقد الاجتماعي تكمن في لحظتها التاريخية، حيث كان المجتمع الأوروبي ينتقل تدريجيا من مجتمع مشمول بكونية الدين إلى مجتمع سياسي لا يكون الدين سببا في مشروعيته.
هذه خصوصية أوروبية فقط على مستوى التاريخ، وهي ليست موجودة في أمكنة أخرى لا في السابق ولا في الوقت الحالي.
العلاقة الجدلية بين الديني والسياسي ذات الخصوصية الأوروبية، هي التي جعلت من فكرة العقد ذات أهمية، ففي الفضاء المسيحي ثمة مقابلة بين القانون المقدس والقانون العلماني، وهي مقابلة غير موجودة في الفضاءين اليهودي والإسلامي حسب ما تنبه إلى ذلك برنارد لويس.
إن مقولة السيفين ومقولة الجسدين البشري والإلهي للملك والتمييز بين قانون الأمير وقانون سلطة الشعب لا وجود لها إلا في أوروبا المسيحية.
ولذلك، فإن فكرة العقد الاجتماعي لها جذور اجتماعية ودينية كانت بمنزلة الناظم للعلاقة بين الله والإنسان وبين الحاكم والمحكومين.
لا مانع على مستوى الانتشار الثقافي ولزيادة الوعي السياسي، من نشر فكرة العقد الاجتماعي بين الناس، لما لها من أهمية على الصعيد الفكري في التأكيد على أولوية الفرد، وفي أن المجتمع يتكون بالأساس من أفراد، أي أن الإرادة الأولى هي إرادة فردية وليست جمعية.
لكن تحويل الفكرة إلى محرك تاريخي وصيرورة عملية من دونها لا يتم إنهاء الاستبداد والانتقال إلى الديمقراطية، فهذا وهم تاريخي.
لا يتطلب الواقع العربي بعد عشر سنوات من اندلاع الثورات عقدا اجتماعيا، وإنما يحتاج إلى عقد سياسي على غرار العقد السياسي الذي جرى في الولايات المتحدة وتم من خلاله إنهاء حالة الرق في القرن التاسع عشر، وعلى غرار العقد السياسي الذي جرى في جنوب إفريقيا نهاية القرن الماضي، والذي جرى بموجبه إنهاء حقبة الأبارتيد.
تحتاج سوريا اليوم وكثير من الدول العربية، إن لم يكن جميعها، إلى عقد سياسي يعيد ترتيب العلاقة بين الحاكمين والمحكومين، ذلك أن من سمات العقد السياسي أنه يكون عقدا جزئيا لتفاهمات جزئية، ثم تدخل عليه تعديلات مع مرور الزمن ونضوج التجربة، بخلاف العقد الاجتماعي الذي يضع كل الاجتماعي في طرف مقابل السلطة الحاكمة كطرف آخر.
لا يتطلب الواقع العربي بعد عشر سنوات من اندلاع الثورات عقدا اجتماعيا، وإنما يحتاج إلى عقد سياسي على غرار العقد السياسي الذي جرى في الولايات المتحدة وتم من خلاله إنهاء حالة الرق في القرن التاسع عشر، وعلى غرار العقد السياسي الذي جرى في جنوب إفريقيا نهاية القرن الماضي، والذي جرى بموجبه إنهاء حقبة الأبارتيد.
ومن الأهمية بمكان التأكيد على أن العقد السياسي لا ينشأ بالتراضي ـ إلا إذا كانت النخب مؤمنة بالديمقراطية وبالحلول الوسط، وهذه حالات نادرة في العالم ـ وإنما ينشأ بالقوة وإجبار الحكام المستبدين على تقديم تنازلات يجدونها ضرورية للتخفيف من الأثمان الباهظة التي قد يدفعونها إذا لم يقدموا تنازلات سياسية.
ولذلك، يحتاج العالم العربي اليوم إلى فكرة الديمقراطية فقط، والتركيز عليها، ثم تأتي لاحقا أفكار مثل العقد الاجتماعي والليبرالية والعلمانية، على الرغم من أهميتها في تعميق الديمقراطية الليبرالية.
إن الاستبداد والإجرام الذي مارسه النظام السوري ضد الشعب وقطعه الطريق على أية حلول سياسية، يؤكد أن الحالة السورية ومثيلاتها، لا يكون بطرح أفكار نشأت في سياق تاريخي معين، وإنما يكون بإزالة الاستبداد أولا، ثم الانتقال إلى طرح الأفكار التي تؤسس لمجتمع جديد ودولة جديدة.
*كاتب وإعلامي سوري