قضايا وآراء

المشهد التونسي: حالة استثناء أم "مرحلة انتقالية"؟

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
منذ أن صرّح السيد وليد الحجام، مستشار الرئيس التونسي، لوكالة رويترز بنيّة رئاسة الجمهورية تعليق العمل بالدستور ووضع قانون جديد للتنظيم المؤقت للسلطات العمومية قبل الذهاب إلى الاستفتاء الشعبي العام على "مشروع الرئيس"، كان واضحا أن هناك توجها نحو تحويل "حالة الاستثناء" إلى "مرحلة انتقالية" ستضع كل التونسيين أمام الأمر الواقع: واقع الانقلاب على الجمهورية الثانية بدستورها ومؤسساتها ومخرجاتها ومنظومتها السياسية.

وقد جاءت المراسيم/ القرارات التي صدرت يوم 22 أيلول/ سبتمبر عن رئاسة الجمهورية لتؤكد أن الرئيس قد قرر أخيرا قطع الحبل السّري الذي يربط "إجراءات 25 تموز/ يوليو" بالدستور، رغم إصراره على الإبقاء على التوطئة والبابين الأول (الأحكام العامة) والثاني (الحقوق والحريات) وجميع الأحكام التي لا تتعارض مع التدابير الاستثنائية، وذلك لكي يبتعد عن شبهة الانقلاب من جهة أولى، ولكي يبعث برسالة طمأنة للمتخوفين على الحريات الفردية والعامة من جهة ثانية.
في غياب أية سلطة رقابية لمراسيم الرئيس واستحالة الطعن فيها (بحكم عدم وجود محكمة دستورية، وإلغاء المرسوم الأخير للهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين)، يبدو أن استحواذ الرئيس على كل السلطات التنفيذية والتشريعية قد أصبح أمرا مقضيا

ولا يعني ما تقدم إلا أن المراسيم (وهي أقل رتبة من الدستور والقانون) قد أصبحت قاضية على الدستور وعلى كل الترسانة القانونية، وليس العكس. وفي غياب أية سلطة رقابية لمراسيم الرئيس واستحالة الطعن فيها (بحكم عدم وجود محكمة دستورية، وإلغاء المرسوم الأخير للهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين)، يبدو أن استحواذ الرئيس على كل السلطات التنفيذية والتشريعية قد أصبح أمرا مقضيا، دون وجود أية سلطة مضادة تحد من مخاطر السلطة المطلقة، بل دون وجود أية مؤشرات على إمكانية تشكل جبهة وطنية للتصدي للانقلاب والدفاع عن الديمقراطية التمثيلية ووسائطها الحزبية والمدنية والنقابية؛ ضد مشروع الرئيس وديمقراطيته القاعدية التي تهدد تلك الوسائط بلا استثناء، بل تنسف علة وجودها ذاتها لأنها تتأسس على انعدام الحاجة إليها وعلى نهاية زمنها السياسي.

منذ أكثر من سنة، كنا من أوائل من نبّه إلى طبيعة مشروع الرئيس الذي يقوم على منطق البديل لا على منطق الشريك. وقد بيّنّا في عدة مقالات أن "الالتقاء الموضوعي" أو التقاطع بين الرئيس وبين أغلب ورثة المنظومة القديمة من جهة أولى، وبينه وبين محور الثورات المضادة من جهة ثانية؛ لا يجب أن يحجب هامش الحرية الذي فرضه الرئيس على حلفائه قبل خصومه، كما لا ينبغي أن يحجب أن الرئيس يتعامل مع مشروعه بمنطق إيماني لا بمنطق سياسي، وسيعمل بكل ما أوتي من قوة على حمل الكافّة على ذلك باعتماد منطق سياسي صدامي؛ أساسه التقسيم الحاد للناس على أساس موقفهم من مشروعه (تزكية الذات والأنصار وشيطنة كل الخصوم بمعاجم دينية وسياسية متعددة).

وقد جاءت "إجراءات 25 تموز/ يوليو" لتؤكد هذا الطرح. فبعد استبشار الحزام السياسي والنقابي والمدني والإعلامي الداعم للرئيس بتلك القرارات التي أرادها أن تكون موجهة حصريا ضد حركة النهضة وائتلاف الكرامة، ومن تحالف معهما من المنظومة القديمة، وجد ذلك الحزام نفسه أمام وضعية ملتبسة لا يكاد يجد فيها صدى لرغباته وانتظاراته.

لو أردنا تجاوز الشتات الأيديولوجي والتنظيمي لأنصار الإجراءات الرئاسية، فإننا نستطيع أن نختزلهم - بحكم غلبة الطرح الأيديولوجي للصراع - في صنفين أساسيين: أنصار منطق الاستئصال الصلب (أي تحويل حركة النهضة من ملف سياسي إلى ملف أمني بمنطق المخلوع وورثته في بعض الأحزاب التجمعية واليسارية والقومية)، وأنصار الاستئصال الناعم أو الليّن (تحجيم دور حركة النهضة والدفع بها إلى هامش الحقل السياسي القانوني أو إلى المعارضة "المدجّنة" دون استهداف أمني ممنهج).
الرئيس يشترك مع كل مكوّنات "حزام الإجراءات" في أطروحة مركزية، وإن كان يخالفهم في توظيفاتها السياسية. وتلك الأطروحة هي التسوية أو المطابقة بين منظومة الفساد وحركة النهضة، وهو طرح لم يصنعه الرئيس لكنه عرف كيف يستفيد منه

فالرئيس يشترك مع كل مكوّنات "حزام الإجراءات" في أطروحة مركزية، وإن كان يخالفهم في توظيفاتها السياسية. وتلك الأطروحة هي التسوية أو المطابقة بين منظومة الفساد وحركة النهضة، وهو طرح لم يصنعه الرئيس لكنه عرف كيف يستفيد منه، مع الحرص على التعامل الانتقائي مع ورثة المنظومة القديمة وتمتيعهم بمعاملة تفضيلية.

ولكنّ "حزام الإجراءات" لم يفهم - أو لا يستطيع أن يفهم بحكم الآفات الأيديولوجية المهيمنة على شبكات فهمه - أن مشكلة الرئيس ليست مع النهضة "فقط"، بل مع كافة مكونات المنظومة السياسية ومع مسار الانتقال الديمقراطي ومخرجاته ومؤسساته، أي لم يفهم "الديمقراطيون" أن النهضة ليست إلا "الموضوع المتاح" بحكم أنها مركز الحقل السياسي في الديمقراطية التمثيلية والنظام البرلماني المعدّل، وليست "الموضوع المقصود" الذي هو المنظومة كلها ومختلف "وسائطها" الجماعية (الأحزاب، النقابات، المنظمات المدنية، الإعلام.. الخ).

بعد وصوله إلى قصر قرطاج، استطاع الرئيس أن يعمّق أزمة الديمقراطية التمثيلية، وأن يوظف تناقضاتها من أجل الدفع بالبلاد إلى حالة من التأزم التي ستعطي لإجراءات 25 تموز/ يوليو نوعا من الشعبية التي لا يمكن إنكارها مهما كان توصيفنا لتلك الإجراءات. فالبلاد كانت تعيش أزمات سياسية دورية منذ الثورة، وهي أزمات كنا قد بيّنا في مقالات سابقة طبيعتها البنيوية (بنية الدولة ذاتها أو خياراتها الكبرى منذ الاستقلال وبعد الثورة)، والتأسيسية (هشاشة المنجز الدستوري وانتهازية التوافقات بين الفاعلين الجماعيين بعد الثورة). وقد عمل الرئيس على الاستفادة من ذلك الواقع السياسي والدفع به إلى نهاياته المنطقية من منظور مشروعه السياسي.

ولا شك عندنا في أن انقلاب 25 تموز/ يوليو هو جزء من سلسلة انقلابية بدأت منذ 14 كانون الثاني/ يناير 2011، من خلال اعتماد منطق استمرارية الدولة. كما لا نشك في أن الحزام الداعم للإجراءات من خارج تنسيقيات الرئيس (أي أنصار مشروعه) لم يدعم حالة الاستثناء إلا لإعادة ترتيب المشهد السياسي داخل الدستور الحالي، وبالشراكة مع وسطائه الحزبيين والنقابيين والمدنيين، مع استثناء النهضة وائتلاف الكرامة وقلب تونس. ولم تكن المطالبة بخارطة الطريق وبالحوار الوطني إلا تعبيرا عن هذا الفهم للإجراءات، ولكنّ مواقف الرئيس ومراسيمه ورفضه لأي حوار أو تقديم خارطة طريق، كل ذلك أظهر مدى تهافت العقل السياسي الذي راهن عليه بمنطقٍ يكاد يكون إيمانيا لا سياسيا، وبخطابات مساندة هي أقرب إلى المناشدة منها إلى المعجم النقدي.
لن يكون أمام كل الفاعلين الجماعيين عندها (سواء أكانوا من خصومه أم من حزام الإجراءات) إلا خيارين: إما التوحد "الآن- وهنا" لإسقاط هذا التوجه الاستبدادي المنقلب على الدستور، ولن يكون ذلك ممكنا إلا بجبهة وطنية تتجاوز الصراعات الأيديولوجية، أو انتظار صدور دستورهم الجديد

بمراسيمه الأخيرة، أطلق الرئيس رصاصة الرحمة على كل أولئك "الأنصار" الذين أرادوه شريكا توافقيا يحل محل النهضة وائتلاف الكرامة وجزءا من المنظومة القديمة، أي شريكا يتقاسم معهم السلطة تحت سقف الجمهورية الثانية بعد أن يخلّصهم من النهضة أساسا، وإن كان ثمن ذلك العودة إلى النظام الرئاسي.

فقد أظهرت تلك القرارات أنّ الرئيس ما زال مصرا على منطق البديل، وأنه سيمضي فيه إلى الأقصى بالانفراد بوضع دستور جديد - عبر خبراء يختارهم بنفسه - ولن يكون أمام كل الفاعلين الجماعيين عندها (سواء أكانوا من خصومه أم من حزام الإجراءات) إلا خيارين: إما التوحد "الآن- وهنا" لإسقاط هذا التوجه الاستبدادي المنقلب على الدستور، ولن يكون ذلك ممكنا إلا بجبهة وطنية تتجاوز الصراعات الأيديولوجية، أو انتظار صدور دستورهم الجديد بعد تمريره عبر الاستفتاء الشعبي العام (بتوظيف حالة الاستثناء) والعمل به صاغرين تحت قيادة الزعيم الملهم ورقابة الحشد الشعبي.

twitter.com/adel_arabi21
التعليقات (0)