هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يستعد العراق الشهر المقبل لإجراء انتخابات برلمانية يرى كثيرون أنّها لن تغيّر من المشهد العام في البلاد شيئاً بعد حوالي عقدين من الفوضى والفساد والحروب الداخلية. وكما يقول بعض العراقيين علناً، "نرى الكثير من صور المرشحّين لكنّنا لا نعرف شيئا عن برامجهم" في إشارة الى حجم اليأس من التغيير وتحوّل الانتخابات إلى مجرّد فولكلور لإضفاء الشرعية على الوضع غير الشرعي القائم على المحاصصة الطائفية ونهب الخير العام.
وكان العراق قد خَبِرَ حركات احتجاجية واسعة في العام ٢٠١٩ ضدّ الطبقة الحاكمة ونفوذ الميليشيات الطائفية نتيجةً لجم الفساد المستشري وارتفاع معدّلات البطالة وتردّي الوضع الاقتصادي وازدياد النفوذ الإيراني. وقد وصف البعض حينها هذه الاحتجاجات بأنّها انتفاضة شيعية ضد السلطة الشيعية. فعلى الرغم من تضامن الشريحة الأكبر من العراقيين مع هذه الاحتجاجات، إلاّ أنّ المناطق السنيّة بالذات حاولت ألا تتصدّر المشهد خشية أن يتعرّض ما بقي منها سالماً الى الدمار والتهجير مرّة أخرى. اذ كلّها تظاهروا إتُّهموا بالراديكالية والإرهاب، ونُظّمت العمليات العسكرية ضدّ مناطقهم وتمّ استخدامهم كذريعة لإنهاء الاحتجاجات.
أدّت احتجاجات تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٩ إلى مقتل أكثر من ٦٠٠ مواطن على يد قوات الأمن والميليشيات المسلّحة على وجه التحديد. وبالرغم من أنّها نجحت في الإطاحة بحكومة عبدالمهدي وأجبرت البرلمان على تبني قانون انتخابي جديد، إلاّ أنّه وبفعل قوى الأمر الواقع، تم تفريغ مطالب المحتجّين من محتواها لاحقاً. ويخشى كثيرون من أن يؤدي تراجع الإقبال على التصويت هذه المرّة الى مشكلة إضافية مفادها تقويض المزيد من سلطة الدولة مقابل صعود نفوذ الميليشيات الشيعية وربما عودة تنظيمات مثل "داعش" الى المشهد مجدّداً.
وتكتسب هذه المخاوف مصداقية أكبر مع الضغط الذي تمارسه إيران وأذرعها تجاه السلطات العراقية والقوات الأمريكية بغية الانسحاب من العراق. ويصب الاتفاق الأخير الذي جرى بين الرئيس الأمريكي جو بايدن ورئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي حول مصير القوات الأمريكية في العراق في نفس الخانة. اذ نصّ البيان الختامي لجولة الحوار الاستراتيجي الرابعة بين البلدين في يوليو الماضي على الإتفاق على انسحاب جميع القوات الأمريكية المقاتلة من العراق بحلول نهاية ديسمبر من العام الحالي ٢٠٢١.
يخشى كثيرون من أن يؤدي تراجع الإقبال على التصويت هذه المرّة الى مشكلة إضافية مفادها تقويض المزيد من سلطة الدولة مقابل صعود نفوذ الميليشيات الشيعية وربما عودة تنظيمات مثل "داعش" الى المشهد مجدّداً.
يتواجد في العراق اليوم حوالي ٢٥٠٠ إلى ٣٠٠٠ جندي أمريكي شكّلوا العمود الفقري لقوات التحالف ضد تنظيم "داعش"، و لعبوا دوراً محورياً في هزيمة التنظيم. وبالرغم من أنّ دور القوات الأمريكية تحوّلت في مرحلة من المراحل إلى دور إشكالي خاصّة بعد أن تبيّن أن معظم الدعم الذي كانت تقدّمه الولايات المتّحدة إلى القوات الرسمية العراقية ذهب في نهاية المطاف إلى الميليشيات العراقية المحسوبة على إيران، إلاّ أنّ تواجد هذه القوات مهم لناحية التوازنات الداخلية والإقليمية أيضاً. إذا ما التزم بايدن بهذا الاتفاق، وأنهى التواجد الأمريكي العسكري في العراق في ظل الظروف السائدة، فهذا يعني أنّنا قد نصبح أمام سيناريو مشابه لما حصل في أفغانستان.
ماذا إذا ما فُسِّر هذا الانسحاب على المستوى الداخلي على أنّه انتصار لفئة على فئة أخرى؟ ألا يفترض هذا الأمر بدوره إمكانية حصول موجات تهجير وتدمير جديدة؟ وما إذا فُسّر هذا الانسحاب على المستوى الإقليمي على أنّه انتصار لمعسكر على معسكر آخر، ألا يؤجج هذا من حالة العداء ويعيدنا إلى المربّع الاول؟ هل الدول العربية والخليجية مستعدّة لمثل هذا الإحتمال وما قد ينجم عنه من تداعيات على المستوى السياسي والإقتصادي والعسكري والإنساني؟ وهل الفترة الفاصلة بين السيناريو الأفغاني الحالي والسيناريو العراقي المحتمل كافية ليعيد اللاعبون الإقليميون ترتيب أوراقهم على هذا الأساس؟
القسم الأكبر من موارد الطاقة في الخليج يذهب إلى شرق آسيا وإلى الصين تحديداً التي باتت الشريك الإقتصادي الأكبر لدول المنطقة دون أن تضطر إلى أن تنفق فلساً واحداً على شراكات أمنية أو تأمين طرق الملاحة الدولية.
المتابع للتحرّكات الأمريكية في المنطقة مؤخراً ولقرارات بايدن الأخيرة، يفترض انّ موضوع الانسحاب الأمريكي من العراق ليس مجرّد مناورة إعلامية أو محاولة لكسب الوقت بقدر ما هو خطوة إضافية في استراتيجية تقليص التواجد الأمريكي في المنطقة. هذا التقليص يأتي في سياق تخفيف واشنطن من التزاماتها وأعبائها في الشرق الأوسط لصالح التركيز على تخصيص الموارد السياسية والاقتصادية والعسكرية لمجابهة الصعود الصيني في شرق آسيا.
هذا الإتجاه في السياسة الأمريكية لم يولد مع بايدن وإنما مع الرئيس أوباما، ومسار اليوم يقول أنّ واشنطن ستنسحب من العراق عاجلاً أم آجلاً، وأنّ النتيجة الرئيسية للإنسحاب ستكون خلق حالة فراغ تحفّز القوى الإقليمية على التنافس والصراع من أجل ملئها والسيطرة عليها. أعتقد أنّ ما جرى في أفغانستان يجب ان يُدرس على مستوى أعمق في العالم العربي لاسيما من قبل حلفاء الولايات المتّحدة والدول الصديقة لها.
هناك تساؤلات عن مدى قدرة أو رغبة واشنطن على الاستمرار في تقديم الضمانات الأمنيّة وحماية طريق التجارة والملاحة البحرية في وقت ينظر فيه الكثير من الأمريكيين إلى أنّ هذه الضمانات هي أعباء سياسية وإقتصادية وأمنية تصبّ في نهاية المطاف في خانة خدمة الطرف الأكثر إستفادة من هذه الخدمات، وهو الصين! فمنذ فترة طويلة لم تعد الولايات المتّحدة تعتمد على نفط الخليج بالشكل التي كان عليه الأمر في السبعينيات، ولم تعد واشنطن كذلك الشريك الاقتصادي الأول لهذه الدول.
القسم الأكبر من موارد الطاقة في الخليج يذهب إلى شرق آسيا وإلى الصين تحديداً التي باتت الشريك الإقتصادي الأكبر لدول المنطقة دون أن تضطر إلى أن تنفق فلساً واحداً على شراكات أمنية أو تأمين طرق الملاحة الدولية.
على كل حال، لن نضطر إلى الانتظار طويلاً قبل أن نعرف إذا كانت الدول العربية وفي القلب منها الدول الخليجية مستعدة لمثل هذا السيناريو أم لا على ضوء التطورات التي ستحصل في العراق حتى نهاية العام.