زمرة البرهان بين العِيّ والغَيّ

كان مقالي هنا في 29 حزيران (يونيو) 2019 بعنوان "عسكر السودان والعِي المقرون بالغَي"، ويجيء استخدامي لنفس المفردات عنوانا لمقال اليوم للتدليل على أن أولئك العسكر لم يتعلموا شيئا بعد أكثر من عامين في السلطة، والعِيّ هو العجز عن التعبير اللفظي، وعن تحقيق المراد، والغَيّ هو الضلال (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)، وبهذا يكون الغويّ هو الظالم الممعن في الضلال (قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) ـ آية 18 سورة القصص.

منذ أن انفرد بالسلطة في السودان بانقلاب عسكري في 25 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، وعبد الفتاح البرهان يمارس الزلل باللسان والفعال لتبرير الانقلاب على حكومة كان شريكا فيها مع نفر من الجنرالات اختارهم بنفسه، وطوال أكثر من أسبوعين وهو وأبواقه يجاهدون لنفي تهمة الانقلاب عن أنفسهم، ولم يهتدوا بعد لـ "مسمى" لعملية تحريك قوات عسكرية للإطاحة بكامل الحكومة وحل مؤسساتها وفرض الأحكام العرفية وإطلاق العسكر في الشوارع ليطلقوا الرصاص على رافضي الانقلاب، وإذلال المارة بالضرب بالعصي والسياط.

ويتجلى العي المفاهيمي والسياسي لدى البرهان في أنه انقلب على الحكومة التي جاءت نتاج ثورة شعبية، ثم يتكئ على مواثيق وعهود تلك الثورة، ويشي ذلك بأنه يدرك أنه بلا شرعية ثورية أو دستورية أو سند شعبي، ولهذا كان التعويل على قبول رئيس الحكومة الشرعي عبد الله حمدوك ـ والذي أطاح به البرهان ـ العودة إلى منصبه ولكن في ظل سلطة الانقلاب، ولتلك الغاية أوفد العربات المصفحة وأرتالا من العسكر إلى بيت حمدوك حيث اختطفوه وزوجته، وعندما تفشى خبر كل ذلك، قال البرهان إنه يستضيف حمدوك في بيته (بيت البرهان) لحمايته من المخاطر (ولم يقل من هو مصدر الخطر على حمدوك).

وكان معلوما لدى الكافة أن شريك البرهان الأول في الانقلاب هو الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) الذي يقود مليشيا عائلية / قبلية، ومعلوم أيضا أن العلاقة بين البرهان وحميدتي توثقت عندما كان كلاهما يصلي أهل إقليم دارفور جحيما، وأن البرهان يستقوي على الجيش النظامي بالمليشيا التي يقودها حميدتي، والتي ولاؤها لآل دقلو فقط.

وطوال الخمسة عشر يوم التي أعقبت الانقلاب، ظل حميدتي بعيدا عن الأضواء، وكان ذلك مثار دهشة لأن الرجل لا يفوت فرصة دون الوقوف أمام الكاميرا ليتحدث عن كل ما يعنُّ له في أمور الحكم، وينطق بما يسميه السودانيون "كلام الطير في الباقير"، والباقير بلدة ريفية قريبة من الخرطوم، وشقشقة الطيور فيها غير مفهومة لبني الإنس، ثم وقبل أيام قليلة أطل حميدتي عبر شاشات التلفزة وقال كلاما متناسقا من حيث اللغة، كان تكرارا لما قاله البرهان لتبرير الانقلاب، وكان واضحا أنه يقرأ من شاشة ظلت عينه ثابتة عليها، وكان واضحا أيضا أنه قام بأكثر من "بروفة" لقراءة ذلك النص ليتفادى الزلل الذي وقع فيه مرارا، ثم تجلى العي في أن حميدتي كان جالسا وعلم قواته (الدعم السريع) ـ وليس علم القوات المسلحة التي يزعم أن قواته جزء منها، يرفرف على يساره.

بعد عزل عمر البشير واحتلال كبار جنرالات عهده بقيادة البرهان لقصر الرئاسة مشكلين حكومة عسكرية، اشتعلت نيران الغضب الشعبي بضراوة، وخرج الملايين إلى الشوارع رافضين حكم العسكر، وشهروا سلاح العصيان المدني، وعندها تم نفض الغبار عن بعض كبار ضباط الجيش المتقاعدين ليتواصلوا مع وسائل الإعلام دفاعا عن عسكرة الحكم، فلبى نفر منهم النداء وأطلوا عبر شاشات التلفزة وكل واحد منهم يتسمى "خبير استراتيجي"، وبعد الانقلاب الأخير عادت نفس الوجوه إلى المشهد الإعلامي لتقول "كلام الطير في الباقير"، فيدرك من يستمع إليهم مغزى مقولة الكاتب المصري جلال عامر: كان نفسي أكون خبير استراتيجي بس أهلي ضغطوا عليّ عشان أكمل تعليمي.

المستور ينكشف: إسرائيل حصلت على وعد من البرهان بمنحها قاعدة تجسس على البحر الأحمر، ولم يُعرف عن إسرائيل قط أن قدمت لدولة أو كيان ما، عونا ماديا؛ "منين يا حسرة" وهي التي تعيش عالة على دافع الضرائب الأمريكي، وهكذا يريد البرهان أن يبيع جانبا من سيادة بلاده بلا مقابل، وتلك من آيات العي، والداء الذي أعيا دواؤه.

وقبل أيام قليلة قال البرهان لقناة "الجزيرة" الإنجليزية أن ما يتردد عن قيام جنوده بقتل المتظاهرين الرافضين لحل الحكومة غير صحيح (ربما تأسيسا على أن القول بأنه استولى على السلطة غير صحيح)، ولم يوضح البرهان كيف قُتِل 16 شخصا في الأيام الأولى للانقلاب: هل قصفتهم طير أبابيل بحجارة من بارود؟ هل أنزل الله عليهم شهابا رصدا؟ ثم أضاف: حرية التعبير مكفولة، ولكن "دون إثارة الفتن"، وهذه عبارة زئبقية تستخدمها الأنظمة الديكتاتورية لقمع معارضيها لأن كل حراك أو فعل مناهض للحكم يكون في تقديرها فتنة تستوجب الحسم.

والشاهد هو أن البرهان وعسكر الانقلاب يعانون من عي أخلاقي وسياسي، فقد انقلبوا على من جعلوا جلوسهم في قصر الحكم ممكنا، وصاروا ينكلون بالمواطنين آناء الليل وأطراف النهار، فالجنود الموالون للانقلاب يقتحمون مساكن الطلاب في حرم الجامعات، بل ويعتدون على مديري الجامعات وعمداء الكليات، ويتسورون البيوت ممارسين الاعتقال العشوائي للشباب الذي كان له دور واضح في الحراك الشعبي ضد نظام البشير، وقبل أيام قليلة كانت للمعلمين وقفة احتجاجية ضد الانقلاب أمام وزارة التربية في الخرطوم، فهجم عليهم العسكر واعتقلوا 89 منهم وعاملوهم بفظاظة جعلت معلمة حبلى تسقط جنينها وهي رهن الاعتقال.

وباجتماع العي والغي عند الانقلابيين يصبح حديثهم عن كفالة الحريات والديمقراطية ضربا من الديماغوجية، فكيف ينفي البرهان عن نفسه شبهة الانقلاب، وقد صار جهاز الاستخبارات العسكرية يقوم بمهام الشرطة، وصار كل من يعارض الانقلاب يساق للاستجواب أمام النيابة العسكرية؟

وإذا أراد الله نشر فضيحة قيض لها الإعلام الإسرائيلي، فقد منحت جريدة هآرتس الإسرائيلية البرهان لقب "رجل إسرائيل في السودان"، وتأكيد ذلك أن تأتي واشنطن وهي الكفيل التاريخي لإسرائيل وتطلب من الأخيرة أن تقنع انقلابيي السودان عن النكوص عن فعلتهم، ثم إذا بالمستور ينكشف: إسرائيل حصلت على وعد من البرهان بمنحها قاعدة تجسس على البحر الأحمر، ولم يُعرف عن إسرائيل قط أن قدمت لدولة أو كيان ما، عونا ماديا؛ "منين يا حسرة" وهي التي تعيش عالة على دافع الضرائب الأمريكي، وهكذا يريد البرهان أن يبيع جانبا من سيادة بلاده بلا مقابل، وتلك من آيات العي، والداء الذي أعيا دواؤه.