كتاب عربي 21

هل يجب أن تمر الديمقراطية عبر طرق الفقر؟

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
في الثلث الأول من القرن الثامن عشر زار الشاب الفرنسي السياسي والمثقف ألكسيس دي توكفيل المملكة المتحدة وهي تخوض ثورتها الصناعية الكبرى، وعاين الأثر الاجتماعي لما سمي وقتها بقوانين الفقر التي وضعتها المملكة للتكفل بسواقط الثورة الصناعية. وقد ألقى لاحقا محاضرتين لخص فيهما نتائج اطلاعاته، ونشرت المحاضرتان تحت عنوان "رسالتان في العوز"، ضمن الآثار الكاملة لتوكفيل. وكانت الخلاصة الأهم في الرسالتين "إن الإفراط في الرعاية الاجتماعية مولد للكسل ومعيق للاقتصاد ومثبت للديمقراطية". لقد ولدت أنظمة الرعاية أو التكفل بالفقراء، بإطعامهم وإيوائهم، سلوكا تواكليا وإعراضا عن العمل، حتى أن مؤسسات النسيج في يوركشاير كانت لا تجد عمالا.

تبدو لي هذه الخلاصة المبكرة صالحة لقراءة مرحلة ما بعد الثورة في تونس.. لقد أنتجت الثورة كسلا جماعيا خرّب احتمال البناء الديمقراطي.

دولة الرعاية والفائض الاستعماري

ولّدت ملاحظات توكفيل نقاشا عميقا في البرلمان الفرنسي حول سبل الرعاية دون تحفيز الكسل، وفرنسا حينها تلاحق الثورات الصناعية بجوارها، غير أن النخبة الفرنسية عالجت مشكلة الفقر بطريقة مختلفة، فقد دفعت جيوشها لاحتلال بلدان أخرى وعالجت فقر شعبها بنهب ثروات الشعوب. وكان توكفيل أحد أكبر المحرضين على الاستعمار، وله رسائل معروفة في تبرير احتلال الجزائر.
هل كانت دولة الرعاية الأوروبية تصل هذا المدى من الازدهار وتصير أنظمتها السياسية نماذج يقتدى بها لولا مغانم الاستعمار؟ والوجه الآخر للسؤال: هل يمكن بناء ديمقراطية سياسية مماثلة دون مغنم استعماري؟ أو هل تبني الديمقراطية في عوالم فقيرة وبفقراء معدمين؟ وندقق، هل يمكن بناء ديمقراطية في تونس بشعب فقير؟

لقد أجّل الفائض الاستعماري السؤال الاجتماعي، فبقي معلقا إلى ما بعد أزمة 1929 (أزمة الثلاثينات)، حيث عولج بعد الحرب الثانية بالدعم الأمريكي (النيو ديل)، وهو الدعم الذي صنع الدولة الاجتماعية الحالية في أوروبا.

في الدولة الكافلة أو دولة الرعاية تبلورت الديمقراطية السياسية وتمتعت الشعوب بالحرية والنعماء، متغافلة عن المغنم الاستعماري الذي جعل حياتها رغدا. لقد بقي هناك سؤال معلق: هل كانت دولة الرعاية الأوروبية تصل هذا المدى من الازدهار وتصير أنظمتها السياسية نماذج يقتدى بها لولا مغانم الاستعمار؟ والوجه الآخر للسؤال: هل يمكن بناء ديمقراطية سياسية مماثلة دون مغنم استعماري؟ أو هل تبني الديمقراطية في عوالم فقيرة وبفقراء معدمين؟ وندقق، هل يمكن بناء ديمقراطية في تونس بشعب فقير؟

تونس مثال لتواكل الشعب على الدولة

مؤسسو الدولة التونسية الجديدة (المستقلة على الورق) انشغلوا بمعالجة الفقر والجهل والمرض، فاقتدوا بنماذج الدولة الاجتماعية التي كانوا يرونها في فرنسا. وهم تلاميذها النجباء، فأولوا الاجتماعي أهمية كبيرة أخرجت الكثير من الجهل والفقر وعالجت أدواء جسمانية واجتماعية كثيرة، لكنها خلقت في ذات الوقت سلوك التواكل على الإنفاق العام الذي فاقمته النقابات بمطلبية لا تكتفي أبدا. وهذا الداء العضال يعيق الآن الدولة من أن تتقدم على طرق النجاح الاقتصادي، فتتعرض تجربتها السياسية الديمقراطية للإعاقة الدائمة.
خلقت في ذات الوقت سلوك التواكل على الإنفاق العام الذي فاقمته النقابات بمطلبية لا تكتفي أبدا. وهذا الداء العضال يعيق الآن الدولة من أن تتقدم على طرق النجاح الاقتصادي، فتتعرض تجربتها السياسية الديمقراطية للإعاقة الدائمة

فالتواكلية التي تحرضها نقابات طفيلية تنهك الموازنات وتدفع الدولة إلى الإفلاس التام. لقد خلقت دولة الرعاية شعبا فقيرا ومتواكلا؛ كلما أعطته ازداد كسلا. وهي واقفة الآن في لحظة العجز عن العطاء، أي في لحظة تعرية الفقر الحقيقي لشعب نسي أهمية العمل، وهي نفس اللحظة التي عاينها توكفيل في المملكة المتحدة في بدايات القرن الثامن عشر، لكن ما من حيلة لتدبر فائض استعماري لتدليل الشعب بعطاء من لحم الآخرين. وهذا يعيدنا إلى السؤال الأصلي: هل يمكن بناء الديمقراطية في بلدان فقيرة؟

الحالة التونسية (مثل نظيرتها المصرية) تؤجل النظر إلى صورتها الحقيقية في المرآة، فهي دولة فقيرة بشعب متواكل. والرز الخليجي مسكن مؤقت مثله مثل الاقتراض الدائم من مؤسسات النقد الدولي، لذلك وجب الإلحاح على السؤال عن احتمال بناء الديمقراطية في عالم فقير.

يقول كثير من المتفائلين (وهم مبشرون بحلم غير واقعي) إن الديمقراطية ستعالج الفقر وتخلق الشعب الغني السعيد في المستقبل، ويتخذون من هذه الفكرة برنامج عمل لكنهم لا ينتبهون في الطريق إلى حلمهم أن الفقراء يخونون حلمهم بسرعة، لأن الفقر حقيقة والديمقراطية احتمال، والفقراء أكثر واقعية وأقل صبرا.

عندما انفجرت الثورة التونسية أكبر الحالمون حلمهم، فاتجهوا إلى بناء مؤسسات شكلية تصنع ديمقراطية على الورق، وغفلوا عن تحول الشعب إلى متسول على عتبات الدولة. وفيما كانت نخب الصالونات تعالج الدستور (مفتاح السعادة) قفزت النقابات إلى المطلبية وحركت الفقراء، فأفرغت النقاشات النخبوية من مضمونها فولد الدستور ميتا. مع ملحوظة مهمة هنا، لقد تحرك الفقراء المنظمون في نقابات فقط (ممن سميناهم مجازا بالطبقة الوسطى)، بينما بقي الفقراء الحقيقيون خارج كل حسابات النخب، لذلك حولتهم الشعبوية إلى مطية سهلة.
فيما كانت نخب الصالونات تعالج الدستور (مفتاح السعادة) قفزت النقابات إلى المطلبية وحركت الفقراء، فأفرغت النقاشات النخبوية من مضمونها فولد الدستور ميتا

إن مشهد تباكي الباجي قائد السبسي في حملته الانتخابية (2014) على امرأة لم تذق طعم اللحم منذ ثلاثة شهور؛ هو نفس خطاب نبيل القروي الذي وزع كراتين المعجنات وفاز بكتلة نيابية (2019) دون أن يكون له حزب حقيقي على الأرض، وهو نفس خطاب قيس سعيد الذي انقلب على ديمقراطية شكلية باسم الفقراء المتروكين على الهامش، وهم الفقراء الذين رقصوا فرحا بقدومه (2021) ثم بكوا قبل اكتمال مائة يوم على حكمه.

هؤلاء الفقراء هم العائق الحقيقي لبناء الديمقراطية التي لا تطعمهم خبزا، فيؤثرون اختصار الطريق مع أي شعبوي. لا فرق هنا بين موظف تقوده النقابة بخطاب الزيادات في الأجور (ومنها خروف العيد) وبين فقير يقوده شعبوي بكرتونة مقرونة، لقد كف هؤلاء الفقراء عن سماع خطاب نخب تعدهم بما ليس في يديها.

والسؤال موجه للنخب المشغولة بالدستور (مفتاح السعادة المزيفة): هل يمكنكم تحويل الدستور إلى مفتاح للمقرونة؟ والإجابة مسبقا هي أنكم في غربة عن الحقيقة، فالديمقراطية لا تبنى بالفقراء. إذن هل نسلم بواقع بائس ونغلق القوس الديمقراطي؟ وأين نذهب إذا صدمتنا هذه الحقيقة الفاجعة؟

البحث عن نقطة بداية جديدة

حتى الآن كانت الديمقراطية وسيلة لخداع الفقراء واستعمالهم سياسيا دون بناء الديمقراطية، وهذا الوضع قابل للاستمرار ولكن إلى حدود. هناك نقطة يستحيل عندها مواصلة خداع الفقراء؛ لأن المال سيشح فيعجز الدافعون عن الدفع، هنا يمكن توقع الفوضى كنتيجة لا كمخرج من أزمة. فحدوث فوضى في عالم الفقراء سينتج فقط المذابح، فما هو الحل والدائرة تنغلق؟
حتى الآن كانت الديمقراطية وسيلة لخداع الفقراء واستعمالهم سياسيا دون بناء الديمقراطية، وهذا الوضع قابل للاستمرار ولكن إلى حدود. هناك نقطة يستحيل عندها مواصلة خداع الفقراء؛ لأن المال سيشح فيعجز الدافعون عن الدفع، هنا يمكن توقع الفوضى كنتيجة لا كمخرج من أزمة

السياسي الذي سيطرح السؤال الواقعي عن أسباب الفقر وجذوره سيعثر على الإجابة في تاريخ التفقير الطويل الذي مارسه الاحتلال ونهب به الثروات، وسيقر (رغم أن الأمر مكشوف للجميع) بأن الاحتلال لم ينقطع وأن الاستقلال والسيادة كلمات جميلة لا تزال على ورق الدساتير ولم تنزل إلى الأرض، فإذا أفلح في تأسيس فكرة تحرر وطني من جديد فسيكون قد عثر على نقطة البداية الضرورية لاستئناف عمل سياسي مؤسس.

لقد كان مطلب استئناف معركة التحرير في عمق الثورة ومطالبها، وإن لم يكتب بلغة دقيقة وبجمل سياسية مرتبة منهجيا، وكان الانحراف إلى التأسيس القانوني (الدستوري) انحرافا عن مطلب التحرير. وبعد عشر سنوات لم يجد الدستور من يحميه فالفقراء لا يأكلون الدساتير؛ صحيح أنهم يبدون الآن كقطعان هائمة بلا مراجع تكشف الطريق، ولكن غرقهم في الفقر سيكون دليلا كافيا ليعثروا وحدهم دون النخب على نقطة البداية.

لقد عاد شعار طرد المحتل إلى الواجهة بصوت خافت ومضطرب، ولم يرتق إلى منهج عمل مؤسس، ونحن على يقين بأن ذلك سيكون الباب الذي ستخرج منه التجربة التونسية ولو بعد زمن طويل وبثمن مر.. نعم.

نعم سيخلق انقلاب قيس سعيد ما يكفي من الفقر لكي يستفيق المفقرون إلى أسباب فقرهم فيستأنفون معارك التحرير، وهي الطريق الحقيقي لخلق الثروة دون فائض استعماري. بالثروة تبنى الديمقراطية وليس العكس، لكنها طريق طويل ومن يستنكف عن السير فيه يقوم بتأجيل المستقبل.
التعليقات (1)
حمدى مرجان
الخميس، 18-11-2021 05:18 ص
عندما تتاح الفرص وتتكافأ وهذا هو عمل المؤسسات ، فسيتسابق الشعب نحو الافضل في جودة حياته ، ولن يقف حائل بينه و بين حلمه وطموحه ، وهذا هو جوهر الديمقراطية ، فقد وجد نفسه وحفظ كرامته ونال حريته ، فيقنن ما يحميه من امراضه ، ويشرع ما يحافظ علي امنه وامانه ، وبذلك سيقضي علي الفساد والمفسدين بكل صوره وصورهم ، وينتخب من يعلمه الصيد وليس من يعطيه كرتونة ، فسبحان الله كانوا يقتسمون " التمرة " وحكموا العالم ، بفضل الدستور والقانون وتكافؤ الفرص و " لو ان فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها "