هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
قاموس الحكم المصري ومفرداته مليء بما هو غريب وعجيب، واعتاد المشير السيسي على وصف نفسه بأوصاف أكثر غرابة وعجبا، تنتشر على مواقع التواصل الإلكتروني، واتسعت فأضحت تملأ مجلدات وأسفارا. وكلها أوصاف مفرطة في النرجسية والذاتية، وقبل ترشحه للانتخابات الرئاسية كان أكثرها غرابة ذلك الوصف الذي قاله: «أنا طبيب كل الفلاسفة، وزعماء العالم قالوا للناس اسمعوا كلام الراجل ده» ووصْف بهذا المستوى لا ينفع معه تعليق أو إبداء رأي، ويحتاج استشارة محلل نفسي حيث تبدو حالة نرجسية للهرب من الحمل المُلقَى على عاتقه، ولم يكن مؤهلا له.
وقد تكون هذه حالة تحليق في عالم افتراضي يعيشه وحده ولا أحد سواه، وتعكس هشاشة وضعفا نفسيا شديدا، يتم تعويضه بالتشدد والقسوة المبالغ فيها، والغرق الكامل في دوامة جباية الأموال والحصول عليها من أي مصدر، والاهتمام بسبل وطرق وضع اليد على أكبر قدر منها، وبدأ بصندوق «تحيا مصر» الممول من رجال المال والأعمال، وصندوق «مصر السيادي» الذي أودع فيه أصول الدولة وممتلكاتها، وكأنهما ميزانية موازية يتصرف فيهما وحده بعيدا عن الميزانية الرسمية، وذلك لتغطية العجز والتبديد والإسراف في الإنفاق الشخصي والرئاسي والحكومي. ويبدو فخا تم نصبه بإحكام لتصفية الأصول الثابتة والمنقولة لكل ثروة البلاد، وتعريضها لخطر الحجز من المصارف الغربية وبيوت المال الكبرى متعددة الجنسية، وأذرعها ذات الألف يد والألف وجه!!
وهي تركز أنشطتها حاليا على قضايا تغيير الهوية والموروث الحضاري الوطني والعربي، وتتضافر الجهود الحكومية والأهلية لفصم العُرى الوطنية والقومية والدينية، وإلباسها اللبوس الصهيوغربي في ظروف تفكيك مكونات الهوية الراسخة والناضجة، عبر قرون طويلة انصهرت في سبيكة واحدة متعددة المكونات والعناصر حافظت بها على تماسكها وصلابتها، رغم الثوب الحالي الطامس لها، الذي قطع أشواطا طويلة في فصم العلاقات الاجتماعية والمصيرية والبينية العميقة، وإضعاف الوشائج الروحية واللغوية، وكانت سبيكة فريدة جامعة دمجت الجميع في بوتقة واحدة، والمشكلة فيما ظهر من اصطناع هويات زائفة فاقدة للعمق الحضاري والتاريخي الحقيقي، وتزكي التناقضات المخربة للبنى الثقافية والتاريخية، وتوظيف الدين الإبراهيمي الجديد لهذه المهام، والعمل على نشره بين عناصر هشة ومتهافتة، وتمكينها من التحكم في مصير «القارة العربية» بثرواتها وكنوزها وتراثها وآثارها ومعارفها وفنونها.
والانشغال على ما يسبغه على نفسه طبيب كل الفلاسفة وتزكيته، فأطلق في أيلول/سبتمبر الماضي «استراتيجية وطنية لحقوق الإنسان»، وهي من قبيل التسميات الطنانة والرنانة التي بلا معنى، ونظر إليها باعتبارها لحظة مضيئة في تاريخ مصر المعاصر!! وخطوة جادة على سبيل النهوض بحقوق الإنسان في مصر!! وهذا لغو لازم للاستهلاك الرئاسي والإعلامي، وعادة ما يُطْنِب في خيالات ووعود لا تنفذ، ويبذل جهدا كبيرا لإقناع العامة بما لا يُقْنع، وحشرهم في أنفاق مغلقة ومفرغة تزيد من تعقيدات الوضع ومعوقاته، فلا تفلح معها إنشاءات أو منتجعات (أشبه بمستوطنات) ولا أبراج أو عواصم وجمهوريات جديدة، وكثير منها يفتقد معنى الخدمات الحقيقية، في مواجهة أزمات وتحديات أزمنت، وأشعرت الغالبية العظمى من الشعب بأن ما يتم ليس لصالحه بل لصالح أباطرة المال والأعمال والمقاولين ومطوري العقارات وبناة المنتجعات، وهم الذين ازدادوا تخمة تحت حكم طبيب كل الفلاسفة بدرجات تجاوزت زمن الرئاسة المزدوجة من رئيس رسمي (حسني مبارك) ورئيس مواز (جمال مبارك).
ومستوى المعيشة في انخفاض والديون في تراكم وارتفاع، حتى ضاقت سبل العيش الكريم، وأكدت لطبيب كل الفلاسفة أنه لم يكن مؤهلا لمنصبه الخطير الذي شغله، وتحول على يديه إلى مصدر للسخرية والتندر، فظلم نفسه وهو يتعامل مع هذا المنصب الرفيع بطريقة «شِجِيع السيما» في أوبريت «الليلة الكبيرة» كلمات صلاح شاهين وموسيقى وأداء سيد مكاوي، وعَرْض مسرح العرائس (الماريونيت) وهو فن إغريقي قديم. وشجيع السيما اسم شعبي مصري لراعي البقر الأمريكي المنتصر دوما على خصومه مهما كان عددهم، وكانوا أشبه بنظام الفتوات المصري والقبضايات الشامي.
ونَقَله منصبه غير المؤهل له مباشرة «من الدار للنار» كما يقال، فازداد ضعفا، وعلى مدى 8 سنوات لم يستوعب ضرورة المراجعة والتصحيح، وأحاط نفسه بـ «بطانة» تثني على أعماله الفاشلة طوال الوقت، ولم يتقن غير الجباية والحصول على المال بكل السبل، ويَسْعد لتلبية مطالب الأثرياء عرب وعجم، ومن يمكنونه من الاقتراض والاستدانة. وعادة ما يزداد طبيب كل الفلاسفة سعادة حين يتحدث أو يلتقي بمسؤولين، غربيين وصهاينة، ويستجيب لمطالبهم، ويقبل بضغوطهم، التي تصب في مجرى التفريط في الاستقلال، الذي أضحى أثرا بعد عين!
ويصف «أولاد البلد» إعلان «طبيب كل الفلاسفة» رفع حالة الطوارئ بالنِّمرة؛ أي الفخ بعد التعديلات التشريعية، فور إعلان الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان في 25/ 10/ 2021، وجعلت هذا الإعلان هو والعدم سواء، وحَوَّلت الطوارئ من حالة استثنائية مؤقتة إلى وضع أبدي مُقنن، وأفرِغ من مضمونه، وأضحى إجراء شكليا يضاف إلى عشرات الإجراءات الشكلية التي اعتمدها «طبيب كل الفلاسفة» لحكمه، وأكد التوجس المتكرر والثابت من أي قرار ومرسوم رئاسي اتُّخِذ، طوال سنوات حكمه، وعدم إسقاط سنوات سبقت الانتخابات الرئاسية 2014، وكان في مراكز القرار والفعل بداية من العمل تحت رئاسة المشير طنطاوي، حتى زمن الرئيس المؤقت عدلي منصور.
واللافت في «طبيب كل الفلاسفة» إفصاحه عن نواياه، فقال: «الكثير من مواد الدستور كُتبت بحسن نية»، ورأى «أن البلاد لا تُحكم بحسن النوايا» أي إنه يضمر السوء للبلاد وللشعب الذي انتخبه، والآن فغالبية المواطنين يبادلونه المشاعر نفسها، وينظرون لجمهوريته الجديدة، بأنها ليس فيها ملمح واحد من النظام الجمهوري الحقيقي الأقرب للديمقراطية، ولمشاركة الشعب في اختيار حاكمه، وتحديد مهامه، ومساهمة المواطن في الحياة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وفي قضاياه العامة، والقرارات في النظام الجمهوري لا تُتَّخذ بمعزل عن رأي الشعب بالانتخاب والتصويت وإبداء الرأي، مع إمكانية الاستفتاء في القضايا والشؤون المهمة، ونتيجة التصويت ملزمة للرئيس، وينفذها من لحظة إعلانها، وتتحدد له مدّة رئاسة، ويحمل جنسية الجمهورية التي يحكمها دون غيرها، وهل في جمهورية طبيب كل الفلاسفة الجديدة أي ملمح من هذا؟!
«الجمهورية الجديدة» ليس لها من اسمها نصيب مجرد فقاعة تتواءم مع أفكار الطبيب الفيلسوف، الذي لن يجد جمهورية بالحجم الذي يريده، وهو حجم «الدكان» فمن الصعب أن يتغير، فقدراته لا تمكنه لذلك، وليس لديه أكثر مما يقدر عليه، فليتوقف المراهنون عليه وعلى أي تغيير في زمنه، فهو الذي يطلب من الآخرين أن يتغيروا، أما هو فلا.
هذا هو قدر مصر تحت رئيس يأخذ ولا يعطي، يُحاسِب ولا يُحاسَب، ويستهلك ولا ينتج، وهو «طبيب كل الفلاسفة» لكنه عاجز عن التعرف على نفسه وشخصيته وما فيهما، ولا ننسى أنه استطاع التغيير لخدمة طموحه الشخصي، وعلى طريقته، والتغيير لديه بالأوامر، وحصره في طلب التفويضات والتعديلات الدستورية أكثر من مرة، فذلك تغيير سهل، أما التغيير الحقيقي فلا يتاح، والمتاح هو ما يبقيه في الحكم، فالتغييرات والتعديلات الدستورية التي تمت تبقيه رئيسا حتى عام 2034، وكي يؤمن بقاءه أقسم بأغلظ الأَيمان بألا يسمح بتكرار ما جرى في 25 كانون الثاني/يناير2011، وكأنه ممسك بمفاتيح الغيب، وهو شيء لا يدعيه بشر، وإنما تدعيه آلهة صغار، لها رأي آخر!!
(القدس العربي)