هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
«سيظل الاحتلال الأميركي للعراق واحدة من أكبر عثرات الولايات المتحدة
في التاريخ». هذا القول ليس لي، لكنه لصحيفة «فاينانشال تايمز» البريطانية.
بين السفراء الأميركيين الأوائل في العراق بعد
الغزو سفير أفغاني الأصل اسمه زلماي خليل زاد، رجل غامض وجِدّي، لعب أدواراً مهمة
في حروب بوش الأب والابن، و«تسلل» بذكاء إلى أعلى منصب وصل إليه أميركي مسلم في
البيت الأبيض. واقتبس البيت الأبيض من خلفاء المسلمين لقب «حامل الأختام» ومنحه
لهذا الرجل بصورة غير رسمية، لأنه استطاع بذكائه في كارثة 11 سبتمبر (أيلول) أن
يستغل أفغانيته ليكون الرجل الذي يملك معظم الأجوبة عن أسئلة مهمة حول منفذي
الانقضاض الطائر على برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك.
طبعاً لم يكن زلماي خليل زاد يعرف أحداً من
منفذي العملية التي لم يسبق لها مثيل. لكنه أفغاني الأصل، ولو لم يكن زلماي قد
تورط في عمق تلك «العثرة» وهي غزو العراق، لكانت قصته «يمكن أن تُقرأ كواحدة من
أهم قصص النجاح الشخصي في التاريخ الأميركي»، كما قالت صحيفة «فاينانشال تايمز»
مرة أخرى.
بعد 14 عاماً من الاحتلال الأميركي للعراق،
أصدر زلماي مذكراته تحت عنوان «المبعوث... من كابل إلى البيت الأبيض... رحلتي في
عالم مضطرب». وقد خضعت طبعاً لمراجعة مصححين لغويين ومؤرخين وعسكريين وأصحاب خبرة
في كل فصل، وقبل كل ذلك رقابة تدافع عن أسرار الجيش الأميركي.
وفي جعبة زلماي خليل زاد معلومات ثرية وكاملة
عما جرى في كل ما جرى. وهو يضع النقاط على الحروف حين يقول بثقة إن الولايات
المتحدة عقدت محادثات سرية مع النظام الإيراني قبل غزو العراق حول مستقبل هذا
البلد، الذي خرج منتصراً على إيران خميني في ذروة نشوته بإسقاط نظام الشاه محمد
رضا بهلوي. ويتفاخر زلماي خليل بأنه حصل من محادثاته مع الإيرانيين على وعد بأن
الجيش الإيراني المهزوم في حرب الثماني سنوات لن يطلق النار على الطائرات الحربية
الأميركية إذا انحرف مسارها إلى المجال الجوي الإيراني. وهو يحدد أن المحادثات جرت
في جينيف مع محمد جواد ظريف السفير الإيراني لدى الأمم المتحدة، الذي شغل منصب
وزير الخارجية بعد ذلك. قال زلماي إن بوش أراد التزاماً بأن إيران لن تطلق النار
على الطائرات الأميركية إذا حلقت بطريق الخطأ فوق الأراضي الإيرانية. كانت طهران
سعيدة إلى أبعد الحدود؛ ها هو الجيش الأميركي ينتقم من الجيش العراقي الذي أذاق
قائد ثورة الملالي خميني كأس السم ومرارة الهزيمة.
وفي الاجتماع نفسه بين زلماي وظريف، وافق
الأخير على الطلب الأميركي. وكانت واشنطن تأمل من هذه المحادثات أن تشجع طهران
الشيعة العراقيين على المشاركة «البناءة» في تشكيل حكومة جديدة في بغداد. لكن كانت
هناك خلافات كثيرة بين الطرفين حول كيفية تشكيل حكومة عراقية جديدة والتعامل مع
دعم طهران للإرهاب. وفي مايو (أيار) من عام 2003 بعد شهر واحد من غزو العراق
واحتلاله، أوقفت واشنطن حوارها مع طهران، بعد أن تذكر بوش متأخراً أنه وصف النظام
الإيراني في عام 2002 بأنه عضو في «محور الشر» مع كوريا الشمالية والعراق. والغريب
أنه لا بوش ولا أوباما ولا ترامب ولا بايدن كانوا يتذكرون «محور الشر» بعد احتلال
العراق و«اكتشاف» أنه لا يملك أي سلاح من أسلحة الدمار الشامل، بينما كوريا
الشمالية مدججة بالقنابل النووية، وإيران بينها وبين السلاح الذري مسافة ليست
بالبعيدة.
يتذكر «المبعوث» زلماي أن ظريف كان يملك
أفكاراً إيرانية خاصة حول كيفية حكم العراق ما بعد الحرب عن طريق تسليم سريع
للسلطة إلى «المنفيين» العراقيين العائدين، وضرورة إعادة بناء المؤسسات الأمنية
العراقية من الألف إلى الياء، واجتثاث الأعضاء السابقين في حزب البعث ومعارضي
الاحتلال الأميركي. في هذه النقطة يقول خليل زاد إن هذا الطرح يهدف إلى تضخيم نفوذ
إيران داخل العراق. بينما يرى زلماي، كما يقول في مذكراته، أن الاستراتيجية
الأميركية كانت مع تشكيل حكومة عراقية مؤقتة تضم العراقيين الذين بقوا في البلاد خلال
حكم الرئيس الراحل صدام حسين، وليس فقط القادمين من المنفى. كما أن خليل زاد لم
يؤيد فكرة اجتثاث أعضاء حزب البعث. وهي فرصة لم يتردد ظريف في اغتنامها لمطالبة
واشنطن بتسليم قادة منظمة (مجاهدين خلق) الإيرانية المعارضة المسلحة إلى طهران،
التي كانت تقيم في العراق بعد أن منحها النظام العراقي السابق اللجوء. إلا أن
واشنطن لم توافق على الطلب الإيراني، وسمحت للمنظمة المعارضة بالمغادرة إلى أوروبا.
يعترف كاتب المذكرات أنه كان من مؤيدي فتح
حوار مع إيران، إلا أن بوش رفض. لكن زلماي قال بعد أن تم تعيينه سفيراً لبلاده في
بغداد عام 2005 إن السياسات الأميركية والإيرانية «متداخلة» وإنهما اتفقا على رحيل
إبراهيم الجعفري رئيس الوزراء «لعدم فاعليته». وقام قاسم سليماني قائد «فيلق
القدس» الإيراني بزيارة سرية إلى بغداد لإيصال رسالة إلى التحالف الشيعي بأن على
الجعفري أن يرحل. في ذلك الوقت، بدأت إيران تزويد الميليشيات التابعة لها
بالمتفجرات لمهاجمة القوات الأميركية.
وعلى ذكر قاسم سليماني، فإن خليل زاد نقل في
مذكراته ما أخبره به الرئيس العراقي الكردي الراحل جلال الطالباني من أن قاسم
سليماني، ولم يكن قد أصبح شخصاً معروفاً في عالم الإرهاب الميليشياوي، كان منزعجاً
من تحركات السفارة الأميركية ضد النشاط الإيراني في دعم الميليشيات الطائفية
ومجازرها ضد العرب وعملياتها في اغتيال الضباط العراقيين السابقين بناء على توجهات
سليماني نفسه.
توصل السفير إلى أن طهران لم تكن تعارض العنف
الذي الطي يرسخ أقدامها في العراق، بالإضافة إلى أن طهران كانت عازمة على إبقاء
العراق في حالة من عدم الاستقرار لردع أو منع أي تحرك أميركي ضد النظام الإيراني.
«كانت إيران تريد تحويل العراق إلى خراب محترق كي تتمكن من السيطرة عليه بسهولة
ويسر»، وهو ما حدث حتى اليوم.
أما السياسيون العراقيون الموالون لإيران فقد
«عملوا على إعداد دستور جديد للعراق بفقرات شبيهة على نحو مخيف بالدستور
الإيراني». وفي هذا الشأن، يقول زلماي: «عندما دخلت قاعة المجلس الوطني الانتقالي
في يوم تقديم مسودة الدستور ومشيت بين الصفوف شعرت كما لو أني في إيران، إذ كان
ممثلو الأحزاب الشيعية يهتفون (الله أكبر) ويرفعون أيديهم على الطريقة الإيرانية».
ونقل السفير الأميركي في مذكراته ما قاله له
شخصياً نوري المالكي قائلاً «في الواقع أخبرنا المالكي في إحدى المناسبات بأنه
يعتقد أن إيران كانت وراء عملية تفجير المسجد الذهبي في سامراء لتأجيج العنف
الطائفي».
لعل أهم ما جاء في هذه المذكرات ما قاله خليل
زاد: «لقد عانيت كثيراً لحمل إدارة بوش على تطوير استراتيجية خاصة بالمشكلة
الإيرانية، إذ كانت واشنطن تتبنى سياسة متناقضة، فقد كانت تهاجم إيران علناً وترفض
الحوار معهم، لكنها في الوقت نفسه لم تكن مستعدة للتصدي للأنشطة الإيرانية
الإرهابية في العراق». وخلاصة مذكراته: «إذا لم نكن سنحاور الإيرانيين، كان يتوجب
علينا استخدام وسائل أخرى، بما فيها القوة، لإحباط استراتيجيتهم. وفي حوار مع
الرئيس بوش عبر دائرة تلفزيونية مؤمنة ومغلقة قلت له؛ نحن نبدو كالبلهاء. عندها
قرر بوش استهداف مسؤولي (فيلق القدس) عند مجيئهم إلى العراق. وفعلاً ألقينا القبض
على ضابط إيراني كبير كان يقيم في مقر إقامة رئيس المجلس الإسلامي الشيعي عبد
العزيز الحكيم. واعترض وزير الخارجية في حينه هوشيار زيباري على اعتقال الضابط،
وقال إنه موجود لغرض دبلوماسي بصورة قانونية. فقلت له هل يمكنني رؤية المذكرة
الدبلوماسية والتأشيرات؟ ولم يرد زيباري. وأضاف زلماي؛ بحثت هذه المسألة مع
الطالباني الذي اجتمع سراً مع قاسم سليماني في قرية قرب الحدود العراقية
الإيرانية، وقلت له؛ إنكم تظهرون مراعاة كبيرة لإيران، ومن غير اللائق بالنسبة
إليك وأنت رئيس الجمهورية أن تجتمع سراً مع ضابط استخبارات إيراني. فقال الطالباني
إن سليماني كان يخشى قيامكم باعتقاله».
بعد سنوات من ذلك الحديث زار سليماني بغداد...
هذا بلد ألف ليلة وليلة. وفي الليلة الأخيرة لم يعتقل الأميركيون سليماني... لكنهم
قتلوه. وأدرك شهرزاد الصباح.
(الشرق الأوسط اللندنية)