إلى وقت قريب كان يُنظر إلى "لعب الكرة والغناء والتمثيل" على أنها مجالات لإمتاع الناس وتسليتهم والترفيه عنهم، كما هو الشأن مع عروض السيرك وبرامج المنوعات التلفزيونية والأفلام الكوميدية، وكلها تعمل على توفير أجواء تساعد الناس على التخفيف من واقع حياتهم الشاق نتيجة للأعمال الجادة التي يقومون بها في الحياة ويقوم بها قوام الحياة؛ من تدريس وتعليم وطب وتمريض وهندسة وبناء وتشييد وعدل وقضاء وأمن، وغير ذلك من أشكال العمران والنماء.
لكن الصورة وتقريبا منذ ستينيات القرن الماضي بدأت تأخذ شكلا عكسيا، وأصبح اللاعبون والممثلون والمطربون نجوما في سماء البشر ودنيا البشر، وهي الحالة التي ازدادت وطفحت في السنوات الأخيرة، غذى ذلك بالطبع التطور في وسائل الاتصال والتواصل والإعلام.
وبدا الأمر بعد ذلك أنه لم يكن بالبساطة التي ظهر بها، وشيئا فشيئا بدأت الصورة تظهر لنا بوضوح أكثر، فقد تحولت مجالات "الترفيه" هذه إلى ما يشبه "الإمبراطورية"؛ لها سادة وكهنة وطقوس ومنطق وثروات هائلة، بل وجيشها الخاص إذا لزم الأمر.
الصورة وتقريبا منذ ستينيات القرن الماضي بدأت تأخذ شكلا عكسيا، وأصبح اللاعبون والممثلون والمطربون نجوما في سماء البشر ودنيا البشر، وهي الحالة التي ازدادت وطفحت في السنوات الأخيرة، غذى ذلك بالطبع التطور في وسائل الاتصال والتواصل والإعلام
وبدأ الموضوع يدخل في دوائر الاهتمام الخبيث والتخطيط اللئيم لإدارة كل ذلك، فأنت تتكلم في سيطرة واسعة وتأثير عريض على "جماهير غفيرة"، أيضا مليارات تتحرك وتكتنز.. هذه نار يجب أن تستعر بالليل وتشتعل النهار، ووقودها
الجماهير التي يجب أن تعبئ نفسيا وذهنيا للتخديم على كل ذلك.
* * *
فقامت لذلك كيانات ضخمة للقيام بهذه التعبئة وهذا الحشد الذي لا ينقطع، وأصبح هناك إعلام مصنف وموقوف تقريبا لهذا الغرض، وعليك فقط ملاحظة ومراجعة كم البرامج الرياضية - مثلا لذلك - والتعليق الرياضي والتشاجر الرياضي والتصالح الرياضي، وعليك أن تلهث وراء كل ذلك وما فيه من إثارة ونميمة وأخبار وزركشة وحكايات لا تُمل ولا تنقطع. أذكر أني سمعت وزير الشباب المصري السابق د. خالد عبد العزيز، يعلق على هذه الظاهرة قائلا: أنت تسمع البرامج الرياضية وكأن ما تسمعه لم يكن "مباراة كرة". وتعجب الرجل من إخراج الأمر بهذه الصورة الغريبة، لأنه يساهم في شحن سلبي للشباب المراهق الذي يتوق إلى الانتماء والولاء؛ لشيء ما يتجاوز عائلته وجامعته أو مدرسته.. فيتمخض ذلك عن انتمائه وولائه لفريق كرة!!
والشعور بالانتماء هو شعور غريزي وسنجده عند الحيوان كذلك، وراقب مجموعة الكلاب التي في منطقتك السكنية ستجدها في حاله "انتماء مناطقية" كما يقول العلماء، فبعد أن تقوم بعملية "الهوهوه والنباح" المطلوبة على أي كلب أو مجموعة كلاب غريبة عن المنطقة، تجدها تستدير في ثقة تامة وراحة بالغة، عائدة إلى مناطقها في جماعات منظمة.
* * *
المشكلة الأكثر طرافة وظرفا هو أن اللاعبين يصدقون أن الموضوع بجد! وأن المجتمعات لا تصحو من نومها ولا تعود إلى بيوتها إلا على "حسهم"، وبالتالي فـ"حسهم" في دنيا الناس أمر يتعلق بالديمومة أو الصيرورة التي تتعلق بحركة المجرات والكواكب. وعلى رأي عمنا ديستويفسكي (1821-1881م) في قصة "المقامر": ما أقسى "الوهم الخادع" الذي يمنح الإنسان إحساسا كاذبا بالأهمية الخطيرة. الراحلة أروى صالح (1951-1997م) حدثتنا هي أيضا في كتاب "المبتسرون" عن مثل ذلك في أوساط المثقفين للأسف.
سنجد بعضهم يتقدم لينظّر ويطرح أطروحات سواء في حواراته أو في أفلامه" و"الذات صديقة من يسيطر عليها" كما يقول المثل الهندي، وأنا مسيطر بحنجرتي التي تستبد بطرب الناس مثلا أو بحركاتي التعبيرية التي تثير ضحكات الناس.. فلمَ لا؟
* * *
الغناء والتمثيل مشكلته أقل تعقيدا لكنها أوسع انتشارا؛ كونه يتصل بنوعيات وطبقات كثيرة تشمل الشباب والكبار، الرجل والمرأة، الفقراء والأثرياء، الريف والحضر، وهم أيضا لهم كياناتهم الخاصة بهم وأصبح لديهم خبراء يقفون خلفهم كي يجعلوا من نجوميتهم حالة دائمة السطوع واللمعان وأكثر إثارة واهتماما، وهو ما يمنحهم سلطة واسعة تتجاوز كونهم مطربين أو ممثلين. سنجد بعضهم يتقدم لينظّر ويطرح أطروحات سواء في حواراته أو في أفلامه" و"الذات صديقة من يسيطر عليها" كما يقول المثل الهندي، وأنا مسيطر بحنجرتي التي تستبد بطرب الناس مثلا أو بحركاتي التعبيرية التي تثير ضحكات الناس.. فلمَ لا؟
* * *
كل ما نريده هو أن نستمتع بمباريات الكرة في حدود كونها متعة وتسليه ومصدرا للبهجة؛ لا حرب داحس والغبراء.. نريد أن نستمتع بفيلم أو مسلسل في حدود كونه دراما للتسلية أو للضحك أو الخروج من المألوف اليومي، أن نسمع أغنية في حدود كونها "حالة طرب".
لكننا للأسف نجد من يجرجرنا لبحور "التفاهة"، وتصبح هذه الأشياء محور حياتنا وأفكارنا ونقاشاتنا، ونصبح مثل "رجل الثلج الطيب الذي يقع في غرام المدفأة!!".
كل ذلك في جانب والنظر إلى "جوهر الموضوع" جانب آخر، وجوهر الموضوع في فكرة "الفراغ الذي يستدعي ما يملؤه"، وهذه حقيقة من حقائق الحياة كالشمس والقمر والليل والنهار.
بعيدا عن إغراءات السياسة والتحزب (وهي أشياء لها قيمتها وأهميتها في حدود دورها وظروفها).. الإصلاحيون سلكوا طرقا كثيرة تشعبت بهم هنا وهناك، لكنهم بكل أسف وحسرة لم يسلكوا هذا الطريق الذي سيأخذهم - طال أم قصر - إلى قلب المدينة.. "مدينة الإنسان" الذي بقدر ما يكون "واعيا عقولا خلوقا" سيكون إنسانا يواجه الحياة ومفسدي الحياة بقوة وثقة ووضوح
نحتاج بالفعل إلى وضع العنوان الصحيح في المتن الصحيح، والجماهير هنا لا تلام على فكرة، لأن القطرة تثقب الحجرة بتواصل السقوط عليها، فالناس لم ينجذبوا كل هذا الانجذاب لنوادي الكرة والغناء والتمثيل وكل تلك الأشكال من ألوان التسلية والتسلي؛ إلا لفراغ قاتل يفتك بهم فتكا، فراغ غاب عنه المعنى والقيمة والهدف النبيل والولاء العميق والانتماء الراسخ للأصول والجذور.. الأمة.. اللغة.. الوطن.. الدين، وحلت محله انتماءات أخرى كلها وثيقة الصلة باللهو والتسلية والترف.
وهو الدور الذي يجب أن ينهض له كل من يريد لأمته إصلاحا وصلاحا، بعيدا عن إغراءات السياسة والتحزب (وهي أشياء لها قيمتها وأهميتها في حدود دورها وظروفها)..
الإصلاحيون سلكوا طرقا كثيرة تشعبت بهم هنا وهناك، لكنهم بكل أسف وحسرة لم يسلكوا هذا الطريق الذي سيأخذهم - طال أم قصر - إلى قلب المدينة.. "مدينة الإنسان" الذي بقدر ما يكون "واعيا عقولا خلوقا" سيكون إنسانا يواجه الحياة ومفسدي الحياة بقوة وثقة ووضوح.. معرضا عن اللغو مقبلا على الخيرات، كما جاء في القرآن الكريم، ساعيا إلى المثال والكمال، ناهضا بشأنه وشأن مجتمعه وأهله.
وسنعرف دائما وأبدا من التاريخ أن هناك "علاقة طردية" بين خفة الشعوب وتجبّر الحكام، والعكس صحيح تماما.
twitter.com/helhamamy