تفتّقتْ أذهانُ مُنظِّري السياسة والحروب، بعد قرون من الاقتتال والتنازع، عن مفهوم قانوني يَقْصرُ على مَن عاشَ في إقليمٍ محددٍ لمدة محددة أن يكتسب جِنْسِيَّة هذا الإقليم. وبدأ مفهوم الجنسية يظهر في القانون الدولي قبيل منتصف القرن التاسع عشر، وبعد عقود أصبح التنقّل في الأرض، التي يُفترَض ألا يملكها أحد، مرهونا بحمل وثائق السفر، وقبول النظام السياسي لأي إقليم مرور شخص، أو عدم قبول اجتيازه لأرضه. وكان يمكن فهم ذلك إذا كان الممنوع مجرِما، لكن الرفض عادة لا يرتبط بالمجرمين أصحاب الأموال، فأبواب الدنيا مفتوحة لمن ملك المال، وأبواب البؤس مُشرعة لمن لا يملكه.
كثير من مخرجات التنظيم السياسي لفلسفة الدولة في صورتها الراهنة، تبعث على إشعال مشاعر السخط؛ منها ترسيخها منع حق الناس في التنقل، والفرار بحرياتهم، أو السعي في الأرض لطلب الرزق، دون أدنى اكتراث بسلوك الدول المانعة لدخول الفارين من جحيم الفقر أو جحيم
الاستبداد، ليجدوا أنفسهم أمام جحيم الرجل الأبيض الذي ما زال غارقا في العنصرية والازدراء لكل من لم يسعفه أبوَاه بحمل جنسية الأوطان "المتحضرة".
قامت حضارة البيض في
أوروبا وأمريكا على جثث لا تُحصى من البشر "الأدنى" مكانة ومنزلة، وشهدت كل المستعمرات جرائم لا يمكن وصف مرتكبيها بالبشرية، وبدلا من التكفير عن جرائم القتل والاستعباد في عصور ما قبل إلغاء الرق، وجرائم الاحتلال والكولونيالية في عصور الاستعمار، يستمر الغرب في التعامل بإجرام مع الفارّين إليه من جحيم مناطقهم التي حصدت آثار الاستعمار؛ "الفقر والاستبداد".
كثير من مخرجات التنظيم السياسي لفلسفة الدولة في صورتها الراهنة، تبعث على إشعال مشاعر السخط؛ منها ترسيخها منع حق الناس في التنقل، والفرار بحرياتهم، أو السعي في الأرض لطلب الرزق، دون أدنى اكتراث بسلوك الدول المانعة لدخول الفارين من جحيم الفقر أو جحيم الاستبداد
إن مشاهد
اللاجئين على حدود بيلاروسيا وبولندا، ومشاهدهم على سواحل اليونان وهم يتعرضون لإطلاق النيران ومحاولة إغراقهم وقتلهم من القوات اليونانية "النظامية"، تثير أقصى درجات الغضب والسخط على الدواعش البيض، نعم هم دواعش لا يقلون خسة وإجراما عن الدواعش من بني ثقافتنا، والصامتون على هذه السلوكيات من الدول "المتحضرة" أكثر نفاقا من المقتاتين على موائد المستبدين في منطقتنا.. إننا نشهد أَخَسَّ الضِّباع في هيئة البشر في أوروبا هذا الزمان.
اتصالا بهذا الوضع، نشر
موقع "نيويوركر" تقريرا، ترجمه موقع "عربي21"، عن سجن سري في ليبيا لمن يسمون "المهاجرين غير الشرعيين"، وهذا السجن بعِلم الاتحاد الأوروبي، وفيه يعيش التعساءُ الذي حاولوا الفرار من أوطانهم، أسوأَ حياة يمكن تخيلها، حيث يتناوب مئة شخص على حمام واحد، ولا يوجد مكان للجلوس أو النوم، ويجري التعذيب بأقسى صورة، والقتل أمر معتاد لمن يريد الهرب. وتعمّد كاتب التقرير دخول السجن كأحد الذين حاولوا السفر إلى أوروبا وعايش أهوالا بشعة، تجري بعِلم الرجل الأبيض الذي يزعم أنه ينشر ثقافة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي مسألة ليست جديدة عليه؛ فكم سمعنا عن تحويل معتقلين لديه إلى دول قمعية عربية لانتزاع الاعترافات من المعتقلين تحت التعذيب، وسبق أن رأينا قيم الأمريكيين في معتقلي أبو غريب العراقي، وغوانتانامو الأمريكي.
إن أسباب منع انتقال المهاجرين ليست مرتبطة بالاقتصاد القومي فقط، بل هناك دوافع عنصرية ضد غير البيض عموما، وهناك دوافع دينية ضد المسلمين تحديدا. ولسنا سُذّجاً لابتلاع خطابات الاقتصاد، وإظهار التعاطف اللفظي في المؤتمرات الصحفية، وحسناً فعلت الخلافات الفرنسية- البريطانية الأخيرة، التي دفعت وزير الداخلية الفرنسي للقول بأن "لهجة لندن في الغرف المغلقة [بشأن أزمة المهاجرين] لم تكن هي نفسها في العلن"، فالذين يعرّضون أنفسهم لخطر
الموت في رحلات المجهول لا ينبغي أن يتعلقوا بأحبال ذائبة.
إذا كانت أوروبا صادقة في إنهاء أزمة اللجوء إليها، فالحل في دعم الديمقراطية في مناطقنا المنكوبة؛ في العالم العربي، وأفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية، وكل المناطق التي تُصنَّف بأنها دول عالم ثالث، أو دول الجنوب، لكن أوروبا داعمة للاستبداد والقمع الذي يتيح لها نهب ثرواتنا بقفازات بيضاء، وتترك عبء الاقتتال الداخلي نتيجة الاستبداد للشعوب المكلومة
إذا كانت أوروبا صادقة في إنهاء أزمة اللجوء إليها، فالحل في دعم الديمقراطية في مناطقنا المنكوبة؛ في العالم العربي، وأفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية، وكل المناطق التي تُصنَّف بأنها دول عالم ثالث، أو دول الجنوب، لكن أوروبا داعمة للاستبداد والقمع الذي يتيح لها نهب ثرواتنا بقفازات بيضاء، وتترك عبء الاقتتال الداخلي نتيجة الاستبداد للشعوب المكلومة، وهي تغذي نار الاحتراب في الخفاء، وتدعو إلى الحكمة في العلن، فإذا كان الأمر كذلك، فلتتحمَّل عناء ما تدعمه، ولْتَذُقْ مرارة
الهجرة إليها، ولْتدفع بعض ثمن معاناتنا بقبول من استطاع النجاة بروحه من نيران الاستبداد، ومن رحلة الموت.
ستظل صورة الطفل السوري إيلان في ذاكرتنا، وستبقى صور الذين قضوا على الحدود الأوروبية في مخيلتنا، وهم لا يجدون ما يلتحفون به فماتوا من شدة البرد، وستبقى صورة ذلك الطفل الجميل الذي مات وعمره عام واحد بسبب البرد في غابة على تلك الحدود الملعونة ماثلة أمامنا. سنحفر ذكراهم في عقولنا وأرواحنا، ولن ننسى يوما أنهم ضحية لمستبدين يدعمهم الغرب، وأنهم ضحية لفاسدين يدعمهم الغرب، وأنهم ضحية لإغلاق الغرب حدوده أمامهم، ولن ننسى أنهم إخواننا، عانوا مثلما نعاني، وهربوا مثلما نتمنى، وحلموا بمستقبل أفضل مثلما نحلم. ولن ننسى أننا شركاء في
المعاناة والأحلام، ولن ننسى أنهم قضوا حتفهم وهم يحاولون أن يحققوا حلمنا بالخروج من بين أيدي سفلة الحكام العرب، إلى أرض ربما تكون أكثر أمانا ورخاء، لكنها مرهونة القرار بمستبدين آخرين أكثر تأنقا وخُبثا.
twitter.com/Sharifayman86