هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
عنوان الكتاب: "خير الدّين التونسي بين الحقيقة وظلّها"
المؤلّف: عبد الحق الزموري
الناشر: ارتحال للنشر والتوزيع
الطبعة الأولى: أيلول- سبتمبر 2021
عدد الصفحات: 209
يعدّ خير الدين التونسي (1821- 1889)، يعرف في تونس بخير الدّين باشا وشغل رئيسا لوزراء تونس في الفترة الممتدة بين 1873 و1877 ثمّ صار صدرا أعظم في الدولة العثمانية، أبرز رواد البحث السياسي العربي والإسلامي منذ بواكير عصر النهضة العربية (القرن الـ19)، وهو الذي بنى مشروعه الإصلاحي على الانفتاح على العالم الغربي، وهو ما ساهم في تشكّل شخصيته وعقله التنويريين، مستفيدا أيمّا استفادة من زياراته المتكررة والمبكّرة لأوروبا، فرنسا على وجه الخصوص.
ولئن حظيت أفكار خير الدّين الإصلاحيّة بكثير من المراجعة والتحليل، بل وبكثير من التفصيل في عدد كبير من الدّراسات العربية والغربية، فإنّ التركيز اقتصر في العموم على الجهد الإصلاحي لخير الدّين، وعلى تأثيره على بعض من نخب عصره، والعصور التالية، دون حفر في "كيفيّة تشكّل العقل الإصلاحي".
في هذا الإطار يتنزّل كتاب "خير الدّين التونسي بين الحقيقة وظلّها" للمؤلف والباحث التونسي المتخصص في التاريخ، عبد الحق الزموري، الذي اجتهد في تتبع دوائر خير الدّين وعلاقاته وصداقاته، وخصومه، ورجال ثقته، على حدّ وصفه هو، بحثا في ما أسماه بتشريح هندسة "السياقات" التي أنتجت المصلحين وسرديّة الإصلاح.
ويشغل عبد الحق الزموري مديرا لمؤسسة أبعاد للدراسات المستقبلية ـ إسبانيا، ونائب رئيس الرابطة العربية للدراسات المستقبلية ـ الخرطوم، وهو إلى ذلك مؤلف ومترجم كتب عديدة فردية وجماعية منها: "التشيّع في تونس، قراءة علمية في التاريخ الطويل" (2020) و"التصوّف طريق الإسلام الجوانية" مترجما عن جوفروا (2019).
كسر "أغلال" الصّورة المسوّقة
يبين عبد الحق الزموري هدفه من كتاب "خير الدّين التونسي بين الحقيقة وظلّها" والمتمثّل في ما أسماه بكسر "أغلال" الصّورة المسوّقة عن واحد من أخطر رجالات تاريخنا الحديث والمعاصر: خير الدّين التونسي، صورة ـ إذا ما أخذنا بآليات الانتباه إلى الفروق بين تاريخ الوقائع والتواريخ التي تكتب انحيازا و"غالبا ما تكون في أوقات تالية عن الحدث نفسه ـ مضخّمة ومعدّلة ضمن تاريخ "مرمّق" بشكل لاحق توضع بعقل إيديولوجي لخدمة أهداف لا علاقة لها بالواقع غالبا".
يدفع المؤلف الباحثين الشبّان والمبتدئين منهم إلى الجموح نحو مربعات التساؤل وعدم الطمأنينة والرّكون إلى جملة ما يعتبرونه حقيقة مسلّمة وهم يدرسون الفكر الإصلاحي لخير الدّين التونسي، وذلك حتى لا يتحول الوهم إلى حقيقة تحكم البناءات لسنوات أو عقود أو قرون كما هو حال أمتنا، على حدّ وصفه هو.
يقول الزموري: إنّ كتابه هذا يندرج ضمن مشروع أوسع يهدف إلى المساهمة في تفكيك "سرديّات كبرى مهيمنة"، شكّلت بناءاتنا المشتركة، وطبعت اختياراتنا المجتمعيّة الرّئيسية. ولأجل ذلك كان عليه اختيار مدوّنة غير تقليديّة يتخذها قاعدة تساؤلاته ومادّة إعادة النّظر في المسلّمات القديمة في هذا المجال، قاعدة تكون أكثر تعبيرا عن تلقائية الأحداث وصدق الإحساس والتفاعل معها لدى هؤلاء المصلحين. وقد بنى مدوّنته انطلاقا من مراسلات خير الدّين (التي صدرت عنه أو تلك التي تلقّاها) كمجموعة أساسيّة، وطعّمها بمعلومات تاريخيّة وأرشيفيّة لنفس الفترة (النصف الثاني من القرن التاسع عشر).
وفي ذات السياق، يشير الزموري إلى أنّه رغم نشر عدد كبير من مراسلات الرّجل منذ ثلاثينيات القرن الماضي، إلاّ أنّ تلك الإصدارات بقيت متفرّقة وجزئيّة، ولم تُحظ بعمل علمي شامل ودقيق رغم احتوائها على كنز من المعلومات والأسماء والأسرار والرؤى والمواقف والتحليلات، كما لم تخضع لدراسات تفكيكيّة ـ تحليلية لخير الدّين المصلح وهو يستهلك معنَى وينتجه في سياقات النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
النهضة التونسية انبنت على الإصلاحية التنويرية لخير الدين
يحتلّ إرث خير الدّين مكانة مهمّة في الصرح الوطني للتونسيين. وقد عرف فكره نجاحا هائلا منذ بداية التجربة، ولا تزال النخب التونسية الحديثة، على اختلاف مشاربها الفكرية والسياسية، مجمعة على اعتباره الوتد المتين للجهد الإصلاحي المعاصر، بل "كان لخطابه الترميمي صدى حتى بدايات القرن الحادي والعشرين عند العديد من المثقفين العرب".. وقد ترجم كتابه "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك" (1867) إلى عدّة لغات أوروبية وأسيويّة.
ويؤكّد عبد الوهّاب بوحديبة، في مؤلف جماعي يحمل عنوان "خير الدّين التونسي"، أنّ أفكار خير الدّين التونسي "الإصلاحيّة التّنويريّة كتب لها الدّوام بعد أن استلهمها المصلحون في بلادنا جيلا بعد جيل، فانبنت عليها نهضتها المباركة". ويعتبر خير الدّين التونسي "أب الإصلاح في تونس وباني نهضتها الفكريّة"، على حد وصف كلّ من أحمد عبد السلام في كتابه "المعهد الصادقي وخرّيجيه" (sadiki et les sadikiens)، والراحل معن زيادة، رئيس تحرير مجلة "الفكر العربي" ورئيس تحرير "الموسوعة الفلسفية العربية"، في مقدّمة تحقيقه لكتاب خير الدين: "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك".
الوعي الذي يُصنع داخل مُختبر
يؤكد عبد الحق الزموري في ختام بحثه أن خير الدّين زار فرنسا 9 مرّات على الأقل، وتنوّعت زياراته وتوزّعت أسبابها من رسميّة دبلوماسيّة إلى عائليّة إلى استشفائيّة إلى خاصّة. كما تشير إلى أنّ فرنسا وباريس كانت دائما هدفا للزيارة أو قاعدة انطلاق وتحرّك نحو غيرها. وتحتوي تلك المراسلات على كمّ هائل من الأحداث والتفاصيل والتحاليل السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة، ولكن أيضا على عدد كبير من الأسماء التي تقاطع معها خير الدّين في مجالات مختلفة، والتي "شكّلت شبكة العلاقات التي كان يتحرّك ضمنها ويتفاعل معها استهلاكا للمعنى وإنتاجا له".
وبالتالي اشتغل الزموري على فهم كيفية تشكّل العقل الإصلاحي التونسي (والمسلم عموما) في القرن التاسع عشر وكيف كان يعمل في نفس الوقت، وهو ما أسماه بالوعي الذي يصنع داخل مختبر؟
ويضيف الزموري بالقول: إنّ مساءلة تلك الوقائع حول المسارات المهنيّة والعائليّة للمصلحين أيضا إلى محاولة إعادة رسم خلفية وعي هؤلاء، وممارساتهم، وعدّتهم الذّهنيّة انطلاقا ممّا أطلق عليه "التاريخ البكر"، أي الرسائل الشخصيّة المعبّرة عن الاستجابات الشرطيّة الأولى للأحداث، قبل أن تدخل عليها القراءات الموجّهة، وإعادة الصّياغات الضّروريّة في كتابة السّرديّات.
سعى المؤلف إلى إعادة تسليط الضوء على مناطق العتمة في سيرة خير الدّين إعادة تناول السرديّات الحاسمة في تشكيل وعينا الجمعي من خلال التفكيك وإعادة التركيب، نحو فهم أقرب لتعقيدات الواقع ـ السياقات التي نشأ فيها الفكر الإصلاحي في المراحل السابقة عن الاحتلال المباشر.
وتتمثل القيمة الفارقة لتلك الرحلات بحسب الزموري في التقاطعات والتكثيف والتّجريب الذي كانت توفّره لخير الدّين ولغيره من مصلحي العالم الإسلامي، هي ما يمكن أن نطلق عليه بالفرصة التاريخيّة لجيل من أصحاب العقول المتوثّبة الرّاغبة في الإصلاح والخروج من العطالة الحضاريّة. وتعرض مدوّنة الرسائل التي اشتغل عليها الكاتب ـ الباحث والمتعلقة بتلك الرّحلات، ما أسماه بـ "مشهد" ردّات الفعل الأولى لعقل مسلم عند تقاطعه مع تعرّجات حضارة جديدة ناهضة تجرّب مخرجات نهضتها وتبني على أساسها عقلها ومدنيّتها في آن. قيمتها أنّها تعطينا صورة عن التفاعل الحي، التلقائي، قبل أن يتحوّل إلى سرديّة لاحقة يدخل عليها الفاعل نفسه أو أتباعه اللاحقون تعديلات وترميمات ضرورية لإخراج مقبول للصورة المسوّقة.
وبالتالي سعى المؤلف إلى إعادة تسليط الضوء على مناطق العتمة في سيرة خير الدّين إعادة تناول السرديّات الحاسمة في تشكيل وعينا الجمعي من خلال التفكيك وإعادة التركيب، نحو فهم أقرب لتعقيدات الواقع ـ السياقات التي نشأ فيها الفكر الإصلاحي في المراحل السابقة عن الاحتلال المباشر.
الصورة الحقيقية والصورة المسوّقة
يدفع الزموري قرّاء مؤلفه "خير الدّين التونسي بين الحقيقة وظلّها" إلى مناقشة مسلّمات الحقيقة، فهل الصورة هي الحقيقة أم ظلها هو الحقيقة؟ فبحسب تتبعه لجملة رسائل مدوّنة بحثه وجملة النقاشات ذات الصلة، فإنّ شخصية خير الدّين التونسي لها مسارات وجملة أعمال وإنجازات وإخفاقات، بيد أن الحقيقة "الخام" الخالية من التسويق البعدي تظلّ نسبيّة. كما إن الأفكار الإصلاحية الواردة في الكتاب تبقى زوايا نسبية من الحقيقة وإن تغلّفت بها.
جماع القول، يدفع المؤلف الباحثين الشبّان والمبتدئين منهم إلى الجموح نحو مربعات التساؤل وعدم الطمأنينة والرّكون إلى جملة ما يعتبرونه حقيقة مسلّمة وهم يدرسون الفكر الإصلاحي لخير الدّين التونسي، وذلك حتى لا يتحول الوهم إلى حقيقة تحكم البناءات لسنوات أو عقود أو قرون كما هو حال أمتنا، على حدّ وصفه هو.