من ضروريات الوعي الإنساني أنّ
الموت ضرورة، إذ إنّه لا يذر من خلفه نفساً حيّة دون أخرى، وهو ما عبّر عنه القرآن بقوله "كُلُّ نَفسٍ ذائِقَةُ المَوتِ". هذه الضرورة، وبغضّ النظر عن الموقف الإيماني من حقيقة الموت، دالّة، بالضرورة أيضاً، على محدودية الحياة وزوال لوازمها، فلا اللذة باقية، ولا الألم. وإذا كان الموت قاضياً عليهما، فإنّهما دائماً، حتّى أثناء الحياة، تحت سطوة المنغّصات والمزيلات والمضْعفات. وبهذا يتجلّى الكدح الإنساني في حياة تتسم بالنَصَب الدائم، وهو ما ينبغي أن ينعكس في تعزيز الفاعلية
الأخلاقية في السلوك الإنساني، ولا سيما في الحدّ من جموح الطموحات الفرديّة في عالم محكوم بالتدافع وأدوات القوّة. وجموح الطموح الفردي في عالم كهذا، قد يصبغ الإنسان بالأنانية والانتهازية، لكنّ الموت بمجرّده غير كافٍ للحفاظ على فاعلية أخلاقيّة متحفّزة تلحظ تفاهة المكتسب الشخصي ما دام زائلاً.
سوى أثر الموت في تعزيز النزعات الأخلاقية عند الناس، فإنّه فاعل ماديّ مهمّ، في الدفع نحو التغيير في الواقع الإنساني، ولإعادة تشكيل موازين القوى، ولإضعاف الخصوم، ولذلك فإنّ قوى الاستعمار مثلاً، تحرص على تغييب شخصيات محدّدة من المناضلين ضدّها، بالاغتيال أو الاعتقال، وهي عملية مركّبة تهدف إلى استنزاف الخصم الذي قد لا يتمكّن من استيعاب الضربة وتعويض المغيَّبين، وتهدف إلى إعادة تشكيل الخصم، الذي قد تُصعَّد فيه شخصيات أقلّ كفاءة أو أكثر استعداداً للتفاهم مع العدوّ. وتلاحظ هذه العملية من جهة قيمة الفرد الذي قد لا يُعوَّض، ومن جهة أخرى الموت بوصفه أداة في الصراع.
قوى الاستعمار مثلاً، تحرص على تغييب شخصيات محدّدة من المناضلين ضدّها، بالاغتيال أو الاعتقال، وهي عملية مركّبة تهدف إلى استنزاف الخصم الذي قد لا يتمكّن من استيعاب الضربة وتعويض المغيَّبين، وتهدف إلى إعادة تشكيل الخصم، الذي قد تُصعَّد فيه شخصيات أقلّ كفاءة أو أكثر استعداداً للتفاهم
الموت هنا عملية قصديّة، قد يُنظر لها بنوع من التقدير كونها تأتي في سياق الفعل الإنساني، أمّا الموت القهري، الذي لا دور للإنسان فيه، قد لا يُنظر له بالتقدير نفسه. ثمّة حيثية مختلفة بالتأكيد، لكن المقدّمة واحدة، وهي أنّ الموت ضرورة مهما كانت أسبابه، والنتيجة واحدة وهي أنّ الموت فاعل ماديّ في الحركة
الإنسانية. ويمكن لتصوّر ذلك تخيّل البشر خالدين بأخلاقهم نفسها وموازين القوى الحاكمة لهم نفسها، فإنّ التحوّل في موازين القوى أو في السياسات حينئذ في غاية البعد، ومن هذه الحيثية يكون الموت رحمة، وهو ما يبيّنه الحديث النبويّ من أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مُرّ عليه بجنازة، فقال: "مستريح، ومستراح منه". قالوا: يا رسول الله، ما المستريح والمستراح منه؟ قال: "العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب".
يكثّف هذا الحديث الموقف الإسلامي من الموت، فمن جهة، يستكمل البعد الأخلاقي للموت؛ بالتأكيد على المآل الأخروي، كما في الآية: "كُلُّ نَفسٍ ذائِقَةُ المَوتِ وَنَبلوكُم بِالشَّرِّ وَالخَيرِ فِتنَةً وَإِلَينا تُرجَعونَ". ففاعلية التعزيز الأخلاقي للموت لا تكتمل إلا بمنح الحياة الدنيا المعنى المتمثّل في المآل الأخروي، والذي تتكشف فيه حكمة الابتلاء الدنيوي وتتبين فيه حقيقة العدل الإلهي، ومن ثمّ يكون انقلاب المؤمن عن الدنيا إلى الآخرة راحة، وهذا جانب فرديّ صرف. وبما أنّ الراحة ليست في الدنيا؛ فينبغي للمؤمن فيها أن يكدّ في إعادة تشكيل طموحاته الفرديّة في سياقات جماعية أوسع، وهذا هو العطاء الأخلاقي بعينه.
من جهة أخرى، يشرح الحديث الأثر الماديّ للموت في الواقع الإنساني العامّ، بإشارته إلى ما يفضي إليه موت العبد الفاجر من راحة، لا بين البشر وفي البلاد فحسب، بل ولدى الشجر والدوابّ أيضاً، وهي إشارة واضحة لأثر الفجور والطغيان والظلم والفساد على مجموع الحضور الدنيوي، بعوالمه المتعدّدة، وهو ما عبّر عنه القرآن بقوله: "ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرِّ وَالبَحرِ بِما كَسَبَت أَيدِي النّاسِ لِيُذيقَهُم بَعضَ الَّذي عَمِلوا لَعَلَّهُم يَرجِعونَ"، ولعلّ ذلك ينطوي على معنى إيمانيّ أعمق، وهو مركزية الحضور الإنساني بالنسبة للعوالم الأخرى وأثره البالغ فيها.
من يلاحظ الموت من هذه المعاني، فإنّه يتضاعف لديه الحسّ الأخلاقي الدافع لإعادة صياغة حضوره في موقع أعمّ وأوسع من ذاته وطموحاته، وبقدر ما للموت من دور فوقيّ في مجرى حركة الإنسان والتاريخ، فإنّ فيه دعوة لتعزيز الفعل الإنساني، الذي هو العامل الأهمّ
يأتي موقف المستضعفين من موت ظالميهم، من هذه الحيثية، بملاحظة ما في الموت من عبرة، قد تعظ بعض من بقي، وملاحظة ما للموت من أثر في حركة الإنسان والتاريخ، فإن كان المستضعف مؤمناً، فإنّه يضيف إلى ذلك البعد الأخروي الذي تتحقّق فيه العدالة. وليس في موقف من هذا النوع شماتة مذمومة، ولا توهّم بأنّ الموت يقصد أحداً دون غيره، ولا فيه دعوة انتظاريّة للكفّ عن الفعل الذاتي في التغيير اتكاء على ما يتكفّل به الموت، وإنما هي ملاحظة مجرّدة لحقيقة الموت. ومن جهة أخرى فإنّ من يلاحظ الموت من هذه المعاني، فإنّه يتضاعف لديه الحسّ الأخلاقي الدافع لإعادة صياغة حضوره في موقع أعمّ وأوسع من ذاته وطموحاته، وبقدر ما للموت من دور فوقيّ في مجرى حركة الإنسان والتاريخ، فإنّ فيه دعوة لتعزيز الفعل الإنساني، الذي هو العامل الأهمّ.
ثمّة موقف غير مفهوم من الموت، يبدو وكأنّه يتصوّر الموت ناسخاً للأثر الدنيوي للميت، فلا ينبغي، لدى أصحاب هذا الموقف، الوقوف عند تركة الميت وأثره، طالما أنّ الموت قد جلّله بهيبته، أو طالما أن الميت انتقل إلى العدل الإلهي. هذا الموقف مترع بالسذاجة الأخلاقية وربما المازوشية، فالأخلاقية الواقعية تقتضي مراجعة تلك التركة، في محاولة التخفيف من حضورها الآثم، ولتعزيز عبرة الموت وعظته في من بقي. فجزء من فاعلية الإنسان المتفاعلة مع واقعة الموت هو حساب التركة وتقييمها، وهذا دور أخلاقيّ بامتياز.
twitter.com/sariorabi