هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
بحكم الأمر الواقع، فإن الجنرال عبد الفتاح البرهان هو رئيس الدولة، وهو الحكومة التنفيذية في السودان، وذلك بعد أن نفذ انقلابه الأخير في 25 تشرين أول/ أكتوبر الماضي، مدعوما ببعض كبار الجنرالات في القوات النظامية، ومن يعرفون بشركاء الدم الذين أفسح لهم بعض المقاعد في مجلس السيادة لنفي العسكرة الكاملة عنه، وهم أصلا قادة مليشيات مسلحة، طبخوا بمساعدة البرهان وأعوانه ما أسموها باتفاقية السلام، فكوفئوا عليها بتلك المقاعد.
لا يفتأ البرهان يردد أنه زاهد في السلطة، وأنه مجرد فاعل خير يريد توصيل البلاد إلى مرحلة الانتقال الديمقراطي وتنظيم انتخابات عامة، فهل يؤتمن على الديمقراطية شخص في رقبته ومنذ أن جلس في قصر الحكم دماء زهاء خمسمائة شخص كل جريرتهم أنهم يعتقدون أن العسكر لا شأن لهم بأمور الحكم؟ هل يؤتمن على أمر انتخابات حرة شخص لا يؤمن بحرية التعبير وحرية الرأي؟ ففي مطلع الأسبوع الماضي أوعز البرهان لأحد رعيته بسحب ترخيص قناة "الجزيرة مباشر" (صدر البيان الخاص بسحب الترخيص باسم وكيل وزارة الثقافة والإعلام في خمسة سطور كانت تحتوي خمسة أخطاء إملائية وخطأين نحويين).
منذ السادس من نيسان/ أبريل من عام 2019 ظلت "الجزيرة مباشر: مرابطة بين آلاف الشباب الذين قادوا الحراك الذي أطاح بحكومة عمر البشير واختاروا الاعتصام أمام القيادة العامة للجيش، مطالبين بإلحاح بخروج العسكر من هياكل الحكم، وفي أواخر أيار/ مايو من تلك السنة سحب البرهان والعسكر الذين انفردوا بالحكم بعد رحيل البشير ترخيص "الجزيرة مباشر"، وبعدها بيومين نفذ العسكريون مجزرة بحق شباب الاعتصام، ويوم الإثنين الماضي (17 كانون الثاني/ يناير) وبعد 24 ساعة من سحب ترخيص القناة ارتكب العسكر مجزرة بحق متظاهرين سقط خلالها 7 قتلى على الفور وأصيب نحو ثمانين شخصا بالرصاص الحي.
وقبلها بثلاثة أيام اقتحم عسكريون مكاتب قناة "العربي" واعتدوا على العاملين فيها ثم اختطفوا اثنين من الصحفيين واقتادوهما إلى جهة غير معلومة، وتعرض مكتب قناة "العربية" لأمر مشابه قبل نحو أسبوعين، ففي ذلك اليوم شهدت الخرطوم مواكب حاشدة تطالب برحيل البرهان من القصر الجمهوري، واعتدى عسكريون على طواقم قناة "العربية" وهشموا بعض الأجهزة الخاصة بها، وفي غضون ساعات كان وفد من كبار الجنرالات يزور المكتب معتذرا باسم البرهان (على أمل أن يبلغ الاعتذار مالكي قناة "العربية").
وبلغ الهوان واختلال الميزان عند البرهان أنه اضطر قبل أيام إلى زيادة تعرفة الكهرباء بنسبة 500%، بعد أن استهلك كل ما في الخزينة العامة من أموال، فما كان من أهل الولاية الشمالية الذين يعتمدون على الزراعة كوسيلة وحيدة لكسب العيش، وتعتمد مضخات الري عندهم على الكهرباء، إلا أن قطعوا الطريق السريع الذي يربط السودان بمصر، فتعطلت آلاف الشاحنات المتجهة إلى مصر ومعظمها محمل باللحوم التي تبيعها المؤسسة العسكرية السودانية لمصر بـ "تراب الفلوس"، فما كان من البرهان إلا أن قام بإلغاء تلك الزيادات، ليس حرصا على نجاح الموسم الزراعي في الولاية الشمالية، ولكن كسبا لرضاء عبد الفتاح "الأول" الذي علمه المكر والغدر، بينما لم يحرك البرهان ساكنا عندما قطع أهل الشرق الطريق السريع الذي ينقل صادرات وواردات البلاد وأغلقوا ميناءها الوحيد لمدة 43 يوما، لأن قطع طريق الشرق، والذي كبد الخزينة السودانية مليارات الدولارات كان في سباق التمهيد لانقلابه الأخير.
والناس قد ترحم، لكن التاريخ لن يحمي من اللوم "الفريق"، والمجد يحفظ في سواد القلب في حدق العيون، ويُسْتنَم الغث للأقدام تسحقه بقارعة الطريق.
شهدت مختلف مدن السودان العديد من المواكب الرافضة لانقلاب البرهان خلال الأسابيع القليلة الماضية، فكيف كان تعامل الرجل الوصي على الانتقال الديمقراطي معها؟
للإجابة على هذا السؤال بلغة الأرقام فإنه ومنذ بداية المسيرات والتي استمرت 113 يوما، للمطالبة بإسقاط حكم عمر البشير، وحتى حدوث الإسقاط تعرض 67 شخصا للقتل، بينما من قتلوا خلال ساعات في 3 حزيران/ يونيو 2019 والبرهان رئيس المجلس العسكري الحكام للبلاد كان بالمئات، وخلال ستة مواكب جماهيرية تعارض تسلط البرهان الحالي، فقدَ 73 شخصا أرواحهم عندما حصدتها آلة البرهان الحربية، فكلما خرج موكب أطلق البرهان عسكره مسلحين بقاذفات دوشكا الروسية ليمارسوا التقتيل والترويع، ونصب قناصين على أسطح البنايات ليمارسوا القتل المستهدف الذي ابتدعه الإسرائيليون للتخلص من النشطاء الفلسطينيين ذوي العود النضالي الصلب، فمعظم الشباب الذين سقطوا بنيران عسكر البرهان في الأسابيع الأخيرة من أبرز القيادات الميدانية للحراك المناوئ لحكم العسكر.
الأمر الملاحظ، والآلة العسكرية البرهانية تمارس القتل بلا هوادة، هو اتسام البرهان ورهطه بقدر عال من البجاحة المقرونة بالغباء، فكلما سقط قتلى خلال المواكب سارعت الشرطة تارة إلى نفي أن رجالها يتصدون للمواكب وهم يحملون البنادق على ما في هذا من اتهام صريح لقوات نظامية أخرى بممارسة القتل)، وتارة أخرى لتبرير استخدام الرصاص الحي بالزعم في بياناتهم بأن المتظاهرين "لجأوا إلى العنف المنظم واستخدام تكتيك شبه عسكري" كما قال آخر بيان لهم، ولم يفتح الله على الشرطة السودانية حتى الآن بجملة مفيدة حول ملابسات مقتل ضابط شرطة برتبة عميد في الثالث عشر من الشهر الجاري، الذي شهد حراكا شعبيا كانت الشرطة تتصدى له بالرصاص والغاز المسيل للدموع!! كيف يقتل قائد قوة شرطية طعنا بالخناجر، وهو محاط بالمئات من جنده والعشرات من صغار الضباط ولا يتم الإعلان عن الجاني؟
ما يؤكد أن البرهان لا يؤتمن حتى على ستر نفسه من الزلل، أنه، وعسكره يتولون اصطياد المتظاهرين يوم الإثنين 17 كانون الثاني/ يناير الجاري بالذخيرة الحية، عقد اجتماعا لمجلس الأمن والدفاع وخرج ببيان يشيد فيه بـ "الحنكة" التي تتعامل بها الأجهزة الأمنية مع المواكب الجماهيرية، ويترحم على "شهداء الأجهزة النظامية والأمنية"، وكأن البيان لا يتجاهل فقط عشرات القتلى برصاص تلك الأجهزة بل يعتبرهم فطايس (جمع فطيس).
ثم وقف البرهان خطيبا مستدركا وأعلن "واجبنا معرفة من يمارس القتل سواء كان معنا أم علينا"، وهكذا ومن حيث لا يدري صار هو وجماعته في خندق "معنا"، وبقية الشعب "علينا"، وما زال الرجل يردد أن الجيش (يعني شخصه) وصي على الشعب ويؤتمن على أمور الحكم.
والناس قد ترحم،
لكن التاريخ لن يحمي من اللوم "الفريق"،
والمجد يحفظ في سواد القلب في حدق العيون،
ويُسْتنَم الغث للأقدام تسحقه بقارعة الطريق.