كتب

في فلسطين.. الأرض شرط لاستعادة الحياة والكرامة

شكلت الأرض محور الصراع العربي الفلسطيني ـ الصهيوني، فعملت على بلورة وعي الفلسطيني وهويته وكينونته
شكلت الأرض محور الصراع العربي الفلسطيني ـ الصهيوني، فعملت على بلورة وعي الفلسطيني وهويته وكينونته

الكتاب: في معنى الأرض.. استعادة الذات الفلسطينية
المؤلف: بلال عوض سلامة
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسا، 2021

"شكلت الأرض محور الصراع العربي الفلسطيني-الصهيوني، فعملت على بلورة وعي الفلسطيني وهويته وكينونته وذاكرته بامتياز، فتمحورت هويته حول العمل فيها والانتماء إليها، بصفتها وسيلة إنتاجه المادي الرئيسية، التي ينتج بها، وتعيد إنتاجه وشكل وجوده المعنوي والرمزي والقيمي". لذلك يعرّف الباحث والأستاذ في دائرة العلوم الاجتماعية في جامعة بيت لحم بلال عوض سلامة، الفلسطيني "بحق" بأنه "الفلاح المرتبط بالأرض. 

فتاريخ المقاومة وبداية الفعل الوطني بدأ بأول احتجاج للفلاحين ومقاومتهم الأطماع الصهيونية في عام 1886، حين هاجم الفلاحون الذين طردوا من الخضيرة وملبس اليهود المستعمرين، وحين رفضت قرى لوبية والعبيدية وبدو الديلاق والزبيدات مسح الأراضي في منطقة طبريا تمهيدا لبيع أراضي الجفتلك في عام 1901، مرورا بالاحتجاجات في عام 1917، وثورة البراق في عام 1929، إلى ثورة الفلاحين في عام 1936، فالتطهير العرقي في عام 1948 وانتفاضة يوم الأرض في عام 1976، إلى إسقاط مشروع برافر في النقب المحتل، فالسيطرة على 60% من مناطق الضفة الغربية و40% من قطاع غزة بحسب اتفاقية اوسلو.. نجد أن الفلاح الفلسطيني كان أول المبادرين لمقاومة السياسات الهادفة إلى سلب الأرض من أصحابها، لما تشكله من خطورة على مصيره ووجوده". 

يقول سلامة: إن الأرض حين تُستعمر تُصادر معها أشكال الحياة كافة؛ الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية للشعوب الأصلية، لهذا وجد الاستعمار الصهيوني في العمل الزراعي الأساس الوحيد لبناء المجتمع، لأنه يضمن له مقومات البقاء والوجود والبنية التحتية التي تضمن له السيادة والتفوق، بل أنه سن تشريعات لاستلاب الأرض وعبرنة العمل من حيث الأيدي العاملة، وعبرنة السوق، لأن نجاح مشروعه في فلسطين لن يتم ما لم يستول على الأرض، ويفكك العلاقة والارتباط بين الأرض والفلسطيني. في هذا السياق حاول المستعمِر هندسة وتشكيل الفلاح الفلسطيني لتعذر إبادته بيولوجيا، وبعدما عجز عن احتوائه ماديا أوجد واقعا وظرفا استعماريا من الصدمة في الوجود والمصير بالجرائم والمجازر والتهجير والسجن وسياسات النهب والسلب. 

يركز سلامة في كتابه هذا على واحدة من أدوات الاستعمار الصهيوني الهادفة إلى فصل الفلسطيني عن أرضه وهي "المحتشدات" أو المعازل المكانية. أداة استخدمها الاستعمار الفرنسي في الجزائر، تقوم على حصر السكان الأصليين وعزلهم في مناطق محددة ومغلقة بعيدا عن أرضهم وبطريقة تسمح بتقييد حركتهم، ومراقبتهم، ومعاقبتهم أيضا. تقود هذه العملية إلى تغيير جوهري في السمات الاجتماعية والتقليدية والثقافية لهم، وتخلق واقعا متناقضا بين الأرض الواقعية والمتخيلة لديهم، تعمل على صوغ هوية موقعية لهم لا وطنية ضمنها وشرطها الاستعمار، بحسب سلامة.

هدف جوهري

يوضح سلامة أنه بعد انسحاب العثمانيين من بلاد الشام وسيطرة الاستعمار البريطاني على فلسطين والمنطقة، أدرك الفلاح الفلسطيني حجم الخطر الداهم على وجوده وأرضه ومستقبله، فقد طبق الانتداب البريطاني نظاما صارما في السيطرة والحكم على الفلسطينيين، شمل الإدارة العامة والتخطيط المعماري وتسوية الأراضي وتسجيلها، مستخدما قوانين عثمانية عُدلت واستهدفت الفلاح الفلسطيني وحاصرته، إضافة إلى فرض مزيد من الضرائب المرتفعة على الأراضي، وتطبيق قانون 28 لعام 1926 الذي هدف إلى نزع الأراضي من مالكيها، ونزع ملكيات الأوقاف الإسلامية والمسيحية. 

 

إن "المحتشدات" تولد البؤس والمعاناة، فالعيش في هذه البيئة المصطنعة والمتقوقعة على ذاتها اجتماعيا وثقافيا وسياسيا واقتصاديا يجعلها فضاء للتدمير الذاتي و"السبات الاستعماري" كالاقتتال الداخلي وارتفاع معدل الجريمة، والفقر والبطالة. لكنها قد تولد الثورة أيضا.

 



ويذكر أن الأراضي المستهدفة هي التي شكلت لاحقا الأساس الذي اعتمد لتقسيم فلسطين، وفق خطة استعمارية كانت تعمل لمصلحة الحركة الصهيونية. وهذا ما يفسر أيضا السيطرة على السهول الساحلية المزروعة حمضيات في عام 1922بنسبة 34%، وتسهيل حركتي التصدير والاستيراد في المجال الزراعي للجمعيات الصهيونية. 

إن إفراغ الأرض الفلسطينية من سكانها، كان ولا يزال، هدفا جوهريا في عقيدة الحركة الصهيونية وإسرائيل. لذلك اعتمد الاستعمار الصهيوني الإحلالي على ركيزتين الأولى استمرار المحافظة على هجرة اليهود إلى فلسطين، الأمر الذي يعني في المحصلة طرد السكان الأصليين، والثانية استخدام القوة لقمع او احتواء أي ردة فعل معارضة للفلسطينيين. يستشهد سلامة بمقولة لقائد إسرائيلي عمل مستشارا لحكومة الاستعمار الصهيوني، تلخص سياسة الاحتواء والعنف الرمزي والمادي تجاه الفلسطينيين يقول فيها" نعطيهم كهرباء ونأخذ منهم الأرض ونقيد حركتهم، نعطيهم مدارس عليا لكننا نمنع خريجيهم من دخول الوظائف العليا" ويلفت إلى أن هذه السياسة العنصرية ما زالت مستمرة في "المحتشدات" لدى فلسطينيي 1948، أو من خلال التسهيلات الاقتصادية التي تعطى للفلسطينيين في أراضي 1967 في شكل تصاريح للتنقل والعمل، وفي حالة أخرى يتم اللجوء إلى العقاب الجماعي للمحتشدات المناضلة والمقاومة، عن طريق العقوبات الاقتصادية وتضييق سبل العيش، في محاولة لخلق التمايزات والهويات الجغرافية والمناطقية للمحتشدات، لتسهيل عمليات الهيمنة والسيطرة وتفكيك الهوية الجمعية للفلسطيني. 

إنها سياسة لهندسة المشهد والمكان الفلسطيني وإعادة صياغته، شملت أيضا تهجير الفلسطينيين ومحاولات القضاء عليهم بوصفهم جماعة قومية متعلقة بالأرض تشكل عائقا أمام المخططات الصهيونية، كما شملت تفكيك التواصل الجغرافي للقرى والمدن كما حدث من خلال جدار الفصل العنصري، الذي ابتلع 11% من مساحة الضفة الغربية، وكما يحدث الآن من خلال الإعلان عن فرض الاستيلاء على المنطقة "ج" في الضفة الغربية، وكما يحدث في التعامل مع بدو النقب من تسييج ونقل السكان إلى تجمعات سكانية لضمان التحكم بهم ورقابتهم، وهو الأمر نفسه المعتمد في التضييق والتهجير لسكان الأغوار حاليا، لفصلهم عن أراضيهم. كما طبقت هذه السياسة في اتفاقية اوسلو، ليتحقق الهدف الرئيسي المتمثل بالحصول على أراض أكثر وسكان فلسطينيين أقل.

 

إن استخدام مصطلح "المثقف الفلاح" يأتي انطلاقا من أهمية الأرض في الصراع من جانب، وأهمية البنيتين الفلاحية الاجتماعية والمنظومة القيمية من جانب آخر، كجدار منيع في معركة الفلسطينيين الوجودية.

 



يقول سلامة إن "المحتشدات" تولد البؤس والمعاناة، فالعيش في هذه البيئة المصطنعة والمتقوقعة على ذاتها اجتماعيا وثقافيا وسياسيا واقتصاديا يجعلها فضاء للتدمير الذاتي و"السبات الاستعماري" كالاقتتال الداخلي وارتفاع معدل الجريمة، والفقر والبطالة. لكنها قد تولد الثورة أيضا. 

ويلفت إلى أن تراجع قيمة الأرض من النواحي المعنوية والقيمية أو الرمزية في خطاب الأحزاب السياسية الفلسطينية، وممارساتها في الداخل أو في المحتشدات التي تسيطر عليها السلطة في بيئات مصطنعة بعد اتفاقية أوسلو، واستبدال السلطة خطاب وشعار الأرض الواقعية الحقيقية بخطاب الممكن والأرض المتخيلة، مع الاكتفاء بالنضال المدني والمساواة بالحقوق ، كما هي الحال مع فلسطينيي 1948 من داخل برلمان الاستعمار، كل ذلك يطرح سؤالا جوهريا ووجوديا : كيف يمكن للفلسطيني أن يؤدي دورا سياسيا ما لم تكن الأرض الحقيقية هي المنطلق لفعله السياسي وهدفه النهائي؟.

بنية فلسطين فلاحية

يحاول سلامة الخروج باستخلاصات توضح، كما يقول، معالم الطريق لاستعادة الذات الفلسطينية المقاومة، ضمن مشروع تحرري في ميداني الثقافة والعودة إلى الأرض، باعتبارهما الحلقة في الصراع مع الاستعمار الصهيوني، انطلاقا من الدفاع عن ثقافة الفلاح، بما تنطوي عليه من منظومة قيم، وارتباط وانتماء وفداء وهوية وتضحية وكرامة وذاكرة جمعية. فإذا انتزعت هذه السمات عن الفلسطيني تكون مهمة محوه ثقافيا قد تحققت. 

ويرى سلامة أن الذاكرة التي تقوم على المعاناة والمأساة تعد موردا أساسيا للهوية وهي ذاكرة قوية تترك علامات تجعل الأفراد الذين عاشوا المآسي نفسها يتقاسمونها. لافتا إلى أنه بفقدان الأرض استعاض الفلسطيني بالذاكرة والرواية، وبالثقافة المنبثقة عنهما، وبالرموز التي تحيل إليهما( المخيم، الكوفية، الثوب الفلسطيني، المفتاح، شجرة الزيتون) وأيضا الفدائي، والشهيد، والمناضل الذين كانت غايتهم الأرض. ولهذا لم يكن ممكنا للفلسطيني أن يعيد إنتاج نفسه في معزل عن الأرض أو الذاكرة والمعاناة المرتبطة بها. 

يؤكد سلامة أن بنية فلسطين فلاحية ووسيلة الإنتاج الأساسية فيها في الأرض، لذلك فإن مهمة "المثقف الفلاح"، ليس في هويته وفي قيمه فحسب بل في وظيفته المجتمعية وانتمائه إلى عموم الشرائح المقهورة والمهمشة، تستدعي العمل على جانبين، الأول يشمل البعدين السياسي والتحرري وتوظيف فكره وممارساته اليومية في مقاومة الاستعمار والتعبئة الوطنية وحفظ الذاكرة وصيانة الهوية. والثاني يتمثل في نقد التكلس الاجتماعي والثقافي وتفكيكه. 

يقول سلامة: إن استخدام مصطلح "المثقف الفلاح" يأتي انطلاقا من أهمية الأرض في الصراع من جانب، وأهمية البنيتين الفلاحية الاجتماعية والمنظومة القيمية من جانب آخر، كجدار منيع في معركة الفلسطينيين الوجودية. وهو كذلك محاولة لإعادة الاعتبار للفلاح الفلسطيني وثقافة الأرض والارتباط بها، والتصدي لتجريد أكثر من ثلاثة أرباع الفلسطينيين في المحتشدات في الداخل والخارج من تعريف الثقافة، من منطلق أن خلفياتهم الاجتماعية وثقافتهم فلاحية.

 

إن فقدان الفلسطيني لأرضه يعني بالضرورة فقدانه قيمة إنتاجه الأساسية التي تضمن له الخبز وتكفل له الكرامة. إن السيادة على الأرض تعني السيطرة على الموارد التي تحتويها، وعالم الناس والأساسيات التي يحتاجونها. إنها بنية نفسية وبنية مادية. ولذلك يجب أن تعتبر التنمية والعمل الزراعي من أساس معركة التحرر والسيادة الملحة، فالأرض أولا وأخيرا هي كل شيء.

 



في الفصل الأخير من كتابه والمعنون ب" الذات الفاعلة والتنمية بالكرامة" ينبه سلامة إلى هندسة عملية الإلحاق الاقتصادي للفلسطيني من خلال ضرب أسلوب حياته الإنتاجية، وفك ارتباطه بالعمل الزراعي في الأرض، حيث حُولت علاقات التبعية بأشكال رأسمالية ضمنت استلاب الفلسطينيين وتحولهم إلى عمال  في قطاع البناء أو قطاع الزراعة في المستعمرات الإسرائيلية. 

ويلفت إلى أنه لا يمكن تحقيق تنمية فلسطينية في ظل الاستعمار الصهيوني، ما لم تعالج السياقات التنموية بوصفها جبهة رئيسية من ميادين الاستقلال والتحرر، لأن الاستعمار قائم على تدمير القدرات الانتاجية والاقتصادية للمجتمعات المستعمرة، ويسعى إلى رسملة علاقاته الإنتاجية التي تلحق البؤس بالأغلبية وتحرمها الأمن، وتجعلها تابعة للسوق الاستعمارية، بعدما عزلت بمحتشدات منعزلة، للسيطرة عليها وعلى مستقبلها. 

ويقول: إن فقدان الفلسطيني لأرضه يعني بالضرورة فقدانه قيمة إنتاجه الأساسية التي تضمن له الخبز وتكفل له الكرامة. إن السيادة على الأرض تعني السيطرة على الموارد التي تحتويها، وعالم الناس والأساسيات التي يحتاجونها. إنها بنية نفسية وبنية مادية. ولذلك يجب أن تعتبر التنمية والعمل الزراعي من أساس معركة التحرر والسيادة الملحة، فالأرض أولا وأخيرا هي كل شيء.


التعليقات (0)