بعد أيام، أي في يوم 6 شباط/ فبراير 2022 ستحيي
تونس في ظل أزمة سياسية غير مسبوقة ذكرى اغتيل القيادي في الجبهة الشعبية وأحد رموز حركة الوطنيين الديمقراطيين اليسارية شكري بلعيد. وقد أعقبت اغتيالَه عملية اغتيال أخرى في 25 تموز/ يوليو من السنة نفسها للقيادي في التيار الشعبي وعضو المجلس التأسيسي الحاج محمد براهمي.
وإذا ما كان الاغتيال السياسي هو القتل العمد لشخصية عامة لأسباب سياسية (طائفية، عرقية، أيديولوجية)، فإن حرص وسائل الإعلام الرسمية والخاصة على التأريخ للاغتيال السياسي بعد الثورة بهذين الحدثين يستوجب المراجعة. إذ عرفت تونس "موت" بعض الشخصيات العامة (مثل المناضل طارق المكي ورجل القانون عبد الفتاح عمر.. الخ)، في سياق مشبوه لا يزيده "تسييس" مؤسسة الطب الشرعى واستعارة الصراعات الهوياتية وعدم مصداقية أغلب وسائل الإعلام إلا شبهةً.
عندما جاء الرئيس التونسي
قيس سعيد إلى قصر قرطاج، توقّع التونسيون أن يكون ملف
الاغتيالات السياسية من أول الملفات التي سيتم تحريكها للخروج من حالة "التسمم السياسي" والانقسام المجتمعي التي سبّبها هذا الملف.
ورغم أن الآثار المباشرة للاغتيال السياسي كانت إعادة هندسة المشهد السياسي وسقوط الترويكا بعد "حوار وطني"؛ أعاد ورثة المنظومة القديمة وحلفاءهم إلى مركز السلطة برئاساتها الثلاث، فإن أغلب "القوى الديمقراطية" قد حرصت وما زالت تحرص إلى الآن على اتهام حركة النهضة -وهي الخاسر الأكبر من الاغتيال السياسي- بالوقوف وراء اغتيال شكري بلعيد عبر ما يسمونه بـ"الجهاز السري".
رغم أن الآثار المباشرة للاغتيال السياسي كانت إعادة هندسة المشهد السياسي وسقوط الترويكا بعد "حوار وطني"؛ أعاد ورثة المنظومة القديمة وحلفاءهم إلى مركز السلطة برئاساتها الثلاث، فإن أغلب "القوى الديمقراطية" قد حرصت وما زالت تحرص إلى الآن على اتهام حركة النهضة وهي الخاسر الأكبر من الاغتيال السياسي
ولا يعنينا في هذا المقال أن نبسط القول في التعاطي الإعلامي اللا مهني مع الاغتيال السياسي، كما لا يعنينا أن نبحث في الأهداف السياسية لهذا الاتهام وعلاقته بخدمة استراتيجيات المنظومة القديمة لإعادة التمركز والانتشار، فكل ما يعنينا هو تعامل الرئيس مع هذا الملف وإمكانيات توظيفه في صراعه ضد ما يسميها بـ"منظومة ما قبل 25 يوليو".
بعد الاغتيالات السياسية زمن الترويكا، ظهر الرئيس قيس سعيد في ساحة عمومية ليصرّح بموقف يمكننا اعتباره "بيانا انتخابيا سابقا للأوان"، أو طرحا غير رسمي لمشروعه السياسي "البديل" الذي اختار له منذ 2013 تسمية "من أجل تأسيس جديد". فقد ظهر السيد قيس سعيد في صورة "الخبير الدستوري" الذي يحمل مشروعا سياسيا يبشّر بنهاية تلك المرحلة سياسية بحكومتها ومعارضتها ونظامها الانتخابي وقياداتها التقليدية.
ورغم أنه لم يشكك في تزوير الانتخابات، فإنه اعتبر أن المشهد السياسي بأكمله هو نتيجة "تزوير العقول" من خلال ثنائية الإيمان/ الكفر، وغيرها من الثنائيات الهوياتية التي حكمت السجالات السياسية بعد الثورة. لقد مثّل الاغتيال السياسي بالنسبة إليه مخططا لإسقاط الدولة والمجتمع بدفع الأهالي نحو الاحتراب الأهلي، كما مثّل علامة على بلوغ المشهد السياسي مرحلة الحاجة إلى "تأسيس جديد" عبر انتخابات جديدة وقيادات محلية بحكم انتهاء دور المركز، وكل ذلك على أساس نظام مختلف لانتخابات وهيئة مختلفة للإشراف عليها.
لقد مثّل الاغتيال السياسي فرصة للرئيس كي يطرح بديله السياسي الشامل الذي لخصه شعار "فليرحلوا جميعا"، كما مثل فرصة ليطرح نفسه على الرأي العام باعتباره بديلا جذريا من خارج منظومة الانتقال الديمقراطي ووسائطها ومخرجاتها التي زيفت الإرادة الشعبية.
مثّل الاغتيال السياسي فرصة للرئيس كي يطرح بديله السياسي الشامل الذي لخصه شعار "فليرحلوا جميعا"، كما مثل فرصة ليطرح نفسه على الرأي العام باعتباره بديلا جذريا من خارج منظومة الانتقال الديمقراطي ووسائطها ومخرجاتها التي زيفت الإرادة الشعبية
لقد نجح "الخبير الدستوري" قيس سعيد في تلك المناسبة في أن يُنتج جملته السياسية من خارج منظومة الحكم والمعارضة على حد سواء، وهو خيار استراتيجي صائب سيجنى ثمرته في الانتخابات الرئاسية لسنة 2019. فلم يكن الرئيس ليحلم بالفوز في الدور الثاني على منافسه نبيل القروى لولا أنه قد مثّل لأغلب الفاعلين الجماعيين في "الديمقراطية التمثيلية" الخيار الأكثر عقلانية؛ بحكم وقوفه "ظاهريا" على المسافة نفسها من مختلف الفرقاء. ونحن هنا أمام إحدى "المفارقات" الجوهرية في وصول السيد قيس سعيد إلى منصب الرئيس: انتخابه بكثافة من طرف قواعد من نادى برحيلهم جميعا، وتزكيته شبه الإجماعية من طرف الأجسام الوسيطة التي يقوم مشروعه السياسي على إلغاء الحاجة إليها، وهو ما يدعو إلى التشكيك في عقلانية خيار النخب وفي مدى نضج عقولهم من الناحية السياسية، خاصة من حيث القدرة على الاستشراف.
بعد وصوله إلى قصر قرطاج، لم تكن استراتيجية الرئيس قيس سعيد العمل على إغلاق ملف الاغتيالات السياسية بصورة نهائية وذات مصداقية عند الرأي العام التونسي، بل حرص على إحياء المخاوف الجماعية من الخطر الإرهابي من خلال تصريحاته المتكررة بأنه مستهدف بالاغتيال. ولا شك في أن التونسيين يذكرون جيدا قضية "الظرف المسموم" الذي تلقته مديرة الديوان الرئاسي نادية عكاشة، ويذكرون جيدا الكثير من التسريبات التي تتحدث عن وجود مخططات لاغتيال الرئيس، ولكنهم يذكرون جيدا أيضا أن رئاسة الجمهورية لم تقدم للقضاء -أو للرأي العام- أية أدلة على جدية هذه التهديدات.
ورغم أن الرئيس لم يتهم بصورة صريحة أي طرف محلي بالوقوف وراء "مخططات الاغتيال"، فإن سياق التصريحات والتسريبات منذ وصوله إلى قصر قرطاج يشير بأصابع الاتهام –ولو من طرف خفي- إلى خصوم الرئيس، خاصة حركة النهضة. كما أن الصراع المفتوح بين الرئيس وبين ما يسميها "منظومة ما قبل 25 يوليو" سيحمل الرأي العام على اتهام تلك الحركة؛ بالنظر إلى ما قام به الإعلام خلال سنوات من ربطها بالإرهاب وبالاغتيال السياسي، وبالنظر أيضا إلى "الاستبعاد الممنهج" لأي فرضية أخرى قد تشير إلى تورط فرنسا أو حلفائها في المحاور الإقليمية وفي المنظومة القديمة.
لا تكمن خطورة ملف الاغتيالات السياسية في أنه قد يمثل أرضية للعمل المشترك بين الرئيس وبين بعض خصومه السياسيين -من الراسخين في تغذية الانقسام المجتمعي على أساس هوياتي- بهدف تخفيف الضغط على الرئيس وعلى الأداء الكارثي لحكومته في المستوى الاقتصادي، بل تكمن خطورته الأساسية في أنه سيكون مدخلا لإعادة إحياء الصراعات الهوياتية التي كان "الخبير الدستوري" قيس سعيد نفسه -قبل وصوله إلى قصر قرطاج- من بين من أشار إلى خطورتها على الدولة والمجتمع وعلى السلم الأهلية.
أثبت الرئيس أنه أبعد ما يكون عن مشروع "الكتلة التاريخية" ومنطقها المتجاوز للصراع الأيديولوجي، كما أثبت أنه مجرد لحظة جديدة في الصراع السياسي على أساس الهوية والاصطفافات الإقليمية، وهو واقع قد يدفعه إلى استثمار يوم 6 شباط/ فبراير لمحاولة الخروج من عزلته السياسية واستثمار ملف الاغتيال السياسي
فقد أثبت الرئيس أنه أبعد ما يكون عن مشروع "الكتلة التاريخية" ومنطقها المتجاوز للصراع الأيديولوجي، كما أثبت أنه مجرد لحظة جديدة في الصراع السياسي على أساس الهوية والاصطفافات الإقليمية، وهو واقع قد يدفعه إلى استثمار يوم 6 شباط/ فبراير لمحاولة الخروج من عزلته السياسية واستثمار ملف الاغتيال السياسي لتحقيق غايتين: أولا ضرب السلطة القضائية –خاصة المجلس الأعلى للقضاء- والسيطرة عليها وضمها إلى السلطتنين التنفيذية والتشريعية عبر مرسوم رئاسي غير قابل للنقض -بحكم حل الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين وغياب المحكمة الدستورية- وسيكون اتهام القضاء بعدم الحيادية في ملف الاغتيال سببا سياقيا جيدا للقيام بهذه الخطوة، ثانيا التصعيد السياسي ضد حركة النهضة وحلفائها وتهيئة الرأي العام لمراسيم أو لأحد محاور الاستفتاء التي قد تستهدف قانون الأحزاب فضلا عن القانون الانتخابي وغيره.
ونحن هنا لسنا أمام حتمية سياسية، ولكننا أمام فرضية راجحة بسبب الأزمة التي تعاني منها منظومة الحكم، وهي أزمة ستدفعها حتما إلى التصعيد بحكم غياب أي نية رئاسية للتراجع عن "تصحيح المسار" والتحكم الانفرادي في إدارته وفي تحديد مخرجاته.
twitter.com/adel_arabi21