هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: صورة القدس بين التّوراة والقرآن تحت ظلال النّصوص
الكاتب: بو بكر المباركي
الناشر: مجمع الأطرش لنشر الكتاب المختص وتوزيعه، تونس 2021
عدد الصفحات: 246
1 ـ بين يدي الكتاب
في النصّ القرآني شواهد كثيرة تؤكد تفاعل الدّين الإسلامي مع النّصوص التّوراتيّة تواصلا وتدقيقا أو نقضا مما دعم عناصر التشابك الرمزي بين الديانتين. ولعلّ روحانية مدينة القدس من أبرز هذه العناصر اليوم. فقد تحولت إلى موضوع قائم بذاته. وإلقاء نظرة سريعة على "معجم ما ألف في فضائل وتاريخ المسجد الأقصى والقدس وفلسطين ومدنها من القرن الثالث الهجري إلى نكبة فلسطين سنة 1367هـ- 1948م" الذي أعده شهاب الله بهادر يغنينا عن كل تفصيل. فقد عرض مئات المصنفات المختلفة التي كتبت في موضوع الأقصى باللغة العربية فحسب قبل منتصف القرن العشرين.
ثم ها أنّ نكبتها تجعلها تتجاوز بعدها الديني أو القومي اليوم وتضحي عنصرا محدّدا للسياسات والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بين الدول. وتكتسب دلالات مختلفة بحسب الزوايا التي ينظر إليها منها. ولكن صورتها في النصوص الدينية تظلّ عنصرا موجّها حاسما في هذه التمثلات. وهذا العامل ما جعل الباحث بو بكر المباركي يعود إلى التوراة والقرآن. فيدرس صورة القدس فيهما ويحفر في خلفياتها وفي العناصر المشكلة لها.
2 ـ في المدونة ومنهج المقاربة
يعتقد المباركي أنّ دراسة الفضاء من أفق علاقته بالنّصوص المقدّسة تستوجب تناولا علميا رصينا قادرا على طرح الأسئلة العميقة وعلى تجنّب الإجابات المتوترة أو المتسرّعة التي تحول دون الولوج إلى الموضوع. كما يعتقد أنّ مقاربة المسألة. تقتضي اعتماد المدونات الموثوقة. لذلك يحصر مبحث صورة فضاء القدس بعلاقته المباشرة بالنصوص الدّينية التأسيسيّة التّوراتيّة أي الأسفار الخمسة من العهد القديم ـ اعتمادا على نسخة من الكتاب المقدس صادرة عن دار الكتاب المقدّس في الشّرق الأوسط ـ القاهرة 2001 ويقارنتها بالمادّة القرآنية ـ بالاعتماد على نسخة صادرة عن دار القرآن الكريم" ببيروت، بحثا عن الدرجة القصوى من الصّفاء والوضوح وبعيدا عن المؤثرات التاريخية والحضارية اللاحقة.
ويقتضي هذا المبحث، في تقديره الانفتاح على الحقول المعرفيّة الكثيرة والمناهج العلميّة المختلفة حتى يكون قادرا على الوقوع على ما وراء الآثار المكتوبة القديمة. وليجسّد مسعاه يعلن اختياره للمقاربة التّفسيرية الدّينية واللغوية والأنثروبولوجيا التّاريخية أولا ويعمل على تحقيقه عبر ضبط الجهاز الاصطلاحي للموضوع شأن: الصّورة، والنّصّ، والرّمز، والمقدّس ويصدر فيه على كتب تفسير العهد القديم: "التّفسير التّطبيقي للكتاب المقدّس" وتفسيرين للقرآن الأوّل قديم والثّاني معاصر هما تفسير ابن كثير والتّحرير والتنوير لمحمّد الطاهر ابن عاشور.
ولمّا اُستعمل النصّ التّوراتي خاصّة في المادّة التّاريخيّة التي كتبت عن المنطقة، وللوقوف على درجة موضوعيّة بعض الكتابات التّاريخية وجد الباحث المقاربة التّاريخية والأركيولوجيّة لموضوع القدس مدخلا ثانيا. فاعتمد إنتاجات وبحوثا تاريخيّة مقارنة، محاولا الاستفادة من أعمال مؤرّخين تخصّصوا في التّاريخ القديم الإسرائيلي. وحتى ينفتح على منجز العلوم الإنسانية الحديثة اعتمد مقاربة أنتروبولوجية ولغوية اهتمت بالتّاريخ الثّقافي والإثنيّ للشّعوب التي ارتبط اسمها بالقدس والأرض المقدّسة أو المباركة عامّة.
ورغم هذه الاتجاهات المنهجية المختلفة تبقى الدراسة في عمقها وصفية تحليلية تعمل على البحث عن "الحقيقة التّيولوجية" التي نشأت حول النّصّ المقدّس، وتحاول مقارنتها بالحقيقة التّاريخية سعيا إلى فهم المسألة في سياقها الأوّلي والتّأسيسي، وتشكّلاتها اللاّحقة في التّاريخ والطّقوس وإلى البحث في العقل الدّيني الممزق بين "جغرافية الرّوح" و"جغرافية الفضاء". فيتساءل "هل الفضاء المقدّس مجال التقاء أم هيمنة واحتواء؟ وهل أن القدس هي مدينة الله أم مدينة الإنسان؟ وهل يمكن أن تكون مدينة كوسموبولوتية"؟
3 ـ سياق بناء الهيكل تاريخيا
خصّص بو بكر المباركي الباب الأول لتتبّع دلالات الفضاء في النصّ التّوراتي وما تعلّق بطبيعة الأرض المقدّسة من المنظور اليهودي أو بمعالم القدس اليهوديّة. فلاحظ أنّ التّجربة الدّينية اليهوديّة لم تكن تتطلب أرضا مقدّسة أو هيكلا. فقد خاطب إبراهيم لوطا في التكوين قائلا: "لا تكن مخاصمة بيني وبينك وبين رعاتي ورعاتك لأنّنا نحن إخوان. أليست كلّ الأرض أمامك؟ اعتزل عني. إن ذهبت شمالا فأنا يمينا وإن يمينا فأنا شمالا" [العهد القديم، سفر التكوين 9/13] وقد أفضى الأمر بإبراهيم وأبنائه من بعد إلى إقامة معابد وقتيّة حينا ومعابد أخرى منقولة لتصاحب الشّعب في ترحاله وخروجه حينا وسبيه أيضا أحيانا أخرى.
ويستنتج ممّا تقدّم دور التجربة الثقافية والاجتماعية في ترسيخ فكرة الأرض المقدسة في المعتقدات اليهودية. فمدينة القدس لم تكتسب أهمّيتها الخاصّة في اليهودية إلاّ في العصر الحديديّ الذي يعود إلى ما بين 1500 و1000 ق م واستعمل فيه الإنسان الحديد في صناعة أدواته.
رغم أنّ المسلمين قد اتخذوا من الكعبة في مكّة قبلتهم بعد سنتين فقط من الهجرة، وقد كانوا يولون وجوههم إلى قبلة بيت المقدس في الصّلاة فإن ارتباط المسجد بالرحلة الليلية الخارقة والفعل المعجز ودخول أرضه الديانة الإسلامية بوصول الرسول كلّها عناصر أسهمت في جعله ثالث الحرمين عند المسلمين
ويتتبع مسار منح المدينة رمزيتها الدينية. فيلاحظ أنّ التّوراة قد أومأت في مواضع كثيرة إلى أنّ هذا الفضاء قد شهد بناء الهيكل حيث مسكن "ياهو" الإله التّوراتي الشّديد وحيث قدس الأقداس التي يمنع الولوج إليها على كلّ الأغيار أين تتلى أسفار موسى الخمسة التي تستعيد لحظات الخلق والنبوّة الموسويّة الجامعة للثّالوث: الإله، الأرض والشّعب. ومصطلح "الأغيار" كما هو معلوم مصطلح يهودي يطلق على غير اليهود ويختزل وفق الباحث، نظرتهم الخاصّة للأنا في علاقتها بالآخر المختلف. ويسهب النصّ التّوراتي في شرح حلول الإله في الأرض لتصبح أرضا مقدّسة ومركزا للكون وحلوله في آن في الشّعب ليصبح شعبا مختارا. فقد ورد سفر التّثنية ما يلي "لأنّك شعب مقدّس للرّب إلهك وقد اختارك الرّب لتكون له شعبا خاصّا فوق جميع الشّعوب التي على وجه الأرض".
4 ـ صورة القدس من المنظور التوراتي
ولا شك أن رفع بناء الهيكل للمرّة الأولى على أرض بعينها سيمنحه عند معتقدي الديانة اليهودية هالة من القداسة "لأنّه هبة من الإله أراده لينعم به عباده المصطفون، ولا يرفع البناء إلاّ عند نقطة بعينها من تلك الأرض" وفق تقدير الباحث وحيد السّعفي. وعندها نشأت فكرة الأرض المقدسة (أورشاليم) وضبط العقل الديني حدودها. فجعلها تمتدّ من نهر مصر إلى النهر الكبير (نهر الفرات). وغدت "الأرض المختارة وهي صهيون التي سكنها الرّب وهي الأرض المقدّسة" [التثنية]. وهكذا أخذت المصادر اليهودية تسرف في مدح هذه الأرض فإذا هي "سرة العالم" ولا "تضاهيها في الحسن مدينة" ولمكانتها الدينية "لم يكن يفصلها عن الإله أي فاصل". وإجمالا اكتسبت القدس قداستها من رحم الانتماء الديني والذاكرة الجماعية والحنين إلى العودة. وهكذا امتدت المسافة بين حقيقة المدينة الخارجية، التاريخية والجغرافية وصورتها في النص المقدس والمخيال اليهودي. وليس أدل على ذلك من أنّ اليهودية الحاخامية تحرّم العودة إلى أرض فلسطين وتجعله قصرا على "آخر الأيام".
ولعلّ تمثل هذا المسار أن يغدو أوضح حينما نقارنه بمساره لدى الفرع الثاني من ورثة الدّعوة الإبراهيميّة أي الفضاء العربي الإسلامي المنافس.
5 ـ رمزية القدس في المخيال الإسلامي
يتتبع الباحث مسار تشكّل رمزية القدس في الضمير الإسلامي. فيكاد ينتهي إلى المراحل نفسها. ففي مرحلة الإسلام المبكّر لم يكن تحديد قبلة مختلفة عن التّقليد اليهوديّ / المسيحيّ، أمرا مهمّا. فقد بشّر الله نبيّه أنّ الأرض كلها جعلت له مسجدا وطهورا فأينما يولّي المؤمن وجهه فثمة وجه الله. ويسجل الباحث نزعة لدى الضمير الإسلامي لمنح بعض الأفضية بعدا روحانيا خاصّا بدءا بغار حراء حيث نزل الوحي إلى الكعبة باعتبارها البيت الحرام الذي أمر الله إبراهيم ببنائه إلى المسجد الأقصى حين بلغت تجربة الوحي ذروتها في حدث الإسراء والمعراج من المسجد الحرام إليه.
ورغم أنّ المسلمين قد اتخذوا من الكعبة في مكّة قبلتهم بعد سنتين فقط من الهجرة، وقد كانوا يولون وجوههم إلى قبلة بيت المقدس في الصّلاة فإن ارتباط المسجد بالرحلة الليلية الخارقة والفعل المعجز ودخول أرضه الديانة الإسلامية بوصول الرسول كلّها عناصر أسهمت في جعله ثالث الحرمين عند المسلمين خاصّة أنّ هذا الفضاء "يمثل مركز الكون في الجغرافيا الرّوحية للأديان" وفق بو بكر المباركي. فكان بيت المقدس أحد البيوت الثلاثة التي يتضاعف فيها أجر الصلاة وفي الحديث أنّ "الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة والصلاة في مسجدي بألف صلاة والصلاة في بيت المقدس بخمس مائة صلاة".
يخلص الباحث إلى أنّ النصوص التوراتية والإسلامية تبرز التنازع القائم في ميراث الأرض المقدسة بين نسل داوود ويعقوب أي موسى وأتباعه المنحدرين من رحم سارة ومنحدرين من رحم هاجر ويريد نسل إسماعيل وأتباع محمد بالنهاية.
ورغم تأكيده لإشارات في التوراة والتلمود إلى أشكال من التعايش بين العرب الكنعانيين مع العبرانيين ولاعتقاد بعض المؤرخين أن اليهود كانوا يؤثرون حكم العرب على الرومان ويؤثرون حكم الرومان على المجوس يسجل الباحث أنّ التوراة تسكت عن كل إشارة إلى هوية القدس الكنعانية اليبوسية العربية وتتجاهل الوجود التاريخي العربي فيها. وبالمقابل تختلف الرؤية الإسلامية للمدينة ف"تظهر التبجيل لكل ما يذكّر بالأنبياء السّابقين وما تركوا من آثار عليها".
6 ـ صورة القدس بين التوراة والقرآن.. وبعد؟
يخلص الباحث إلى أنّ النصوص التوراتية والإسلامية تبرز التنازع القائم في ميراث الأرض المقدسة بين نسل داوود ويعقوب أي موسى وأتباعه المنحدرين من رحم سارة ومنحدرين من رحم هاجر ويريد نسل إسماعيل وأتباع محمد بالنهاية. ولكنّ أطروحته الكبرى أنّ التوراة والقرآن وما نشأ عنهما من النصوص يعينان المعبد نفسه الذي بناه داود وسليمان وأنّ تشابك أبعاده الرمزية يعود إلى أسباب ثقافية واجتماعية وبشرية بالنهاية أكثر مما يرتبط بجوهره الديني.
ومن الضمنيات البعيدة لهذه الأطروحة القائلة بالقدس "مركز الكون في الجغرافيا الرّوحية للأديان" أنّ حلّ معضلتها اليوم لا يجب أن يكون بالغصب والمغالبة وإنما بمراعاة "الحقوق الروحية والأبعاد الرمزية" لمختلف الديانات فيها وأنّ عدم الانتباه إلى هذه الحقيقة التاريخية من أسباب تعقّد الصراع واستعصاء الحل.
ولعلّ ما يحسب لهذا الأثر حرصه على الموضوعية وتقصيّة للنصوص الأصلية ليفهم المنظورين اليهودي والإسلامي بعيدا عن الحماسة المنفلتة والخطابات المغرقة في الذّاتيّة، بدءا بـ"التّساؤل عن أصالة ظاهرة قداسة المكان وأبعادها وأدوارها المحتملة في التواصل مع الآخر أو إقصائه، وعلاقة القداسة بالأديان والعنف والإيديولوجيا الدّينية التي يبدو أنّها أخضعت البحث العلمي في المقدّس لسطوتها وسلطانها المتعاظم". فمن تبعات هذا الانحراف أنّ الجميع بات يتمثّل صورة القدس انطلاقا من أحكام مسبقة ومصادرات مغلوطة يفعل فيها الإقليمي السياسي والاقتصادي العرقي أكثر مما تؤثر فيها القيم الدينية الصافية.
ولا شكّ أنّ صوت العلم والبحث الرصين مهم جدا في هذا السياق لإعادة الرشد والتعقّل ولتخليص الخطابات من التشنّج. ولكن من حقّ القارئ أن يتساءل بدوره عن جدوى صوت العقل الدّاعي إلى الرصانة والحكمة إذا ما صدر عن المهزوم فيما يتمادى الغاصب في غيّه وفي عمله على استباحة الأرض وتطهيرها عرقيا بغاية تهويدها. وعليه فالجدوى من هذه البحوث لا تتحقّق إلا متى ارتقت إلى أن تكون خطابا كونيا موجّها للجميع مسهما في صد عدوان المعتدي.