نحوّل من غبننا الحفرة إلى مفهوم تحليلي نقرأ به واقع
تونس وهي في عمق حفرة
الاستئصال السياسي، ويمكننا بلا مجاز أدبي أن نحلل به واقع أمة العرب، نقول إن الحفرة قد صارت مفهوما فيها يموت الأطفال والحرية. ومن صدف اللغة أن الريان كان جبلا وقال شاعر عشق حبيبة تحت سفحه:
حبذا جبل الريان من جبل وحبذا ساكن الريان من كانا
لكن بئست حفرة ابتلعت طفلا ملاكا ذات لحظة غفلة فصارت مفهوما، وهل عاش شعب بروح أشد بؤسا من شعب يحول الحفرة إلى مفهوم ليجد معنى دقيقا لوضع يوشك أن يلتهم بلدا وشعبا وثورة فارت ذات يوم بالأمل كما تفور عين ماء من جبل؟
الجميع في تونس متيقن من نهاية الانقلاب
الرابط بين حديث فرقاء السياسة العقلاء أو من فيهم بقية من رصانة أن الانقلاب انتهى سياسيا وأخلاقيا، وقد ظهرت كل علامات الانهيار الاقتصادي المؤذنة بسقوطه. وكلهم يقولون على الخاص وعلى العام إنها مسألة وقت، لكن أمام السؤال الجارح: لماذا لا تخرجون إلى الشارع خرجة أخيرة تعصف به وتستعيد الدولة ومؤسساتها؛ لنستأنف مسارنا السياسي الذي كان حتى وقت قريب محل إجماع مبني على دستور عظيم؟.. هنا يفقدون سلاسة الخطاب ويأخذون وقتا لالتقاط النفس ثم يستخرجون الجمل الخشبية القديمة، لتغطية الخلاف عما بعد الانقلاب. فإذا زدت سؤالا بسيطا: ما هو موضوع الخلاف على ما بعد الانقلاب؟ ينتقل الخطاب إلى طلب ضمانات من حركة
النهضة، كأنما حزب حركة النهضة هو من انقلب على
الديمقراطية ويقود عملية تخريب الدولة.
الرابط بين حديث فرقاء السياسة العقلاء أو من فيهم بقية من رصانة أن الانقلاب انتهى سياسيا وأخلاقيا، وقد ظهرت كل علامات الانهيار الاقتصادي المؤذنة بسقوطه. وكلهم يقولون على الخاص وعلى العام إنها مسألة وقت، لكن أمام السؤال الجارح: لماذا لا تخرجون إلى الشارع خرجة أخيرة تعصف به وتستعيد الدولة ومؤسساتها؟
عندما ينتقل الحديث من رفض الانقلاب إلى طلب ضمانات في ما بعده، نرى فوهة الحفرة التي ابتلعت الديمقراطية والتي لم يكن الانقلاب إلا فصلا منها. هنا نقول إن اليقين بنهاية الانقلاب وسقوطه الأخلاقي والسياسي لم ينه مناخ عدم الثقة الذي أدى إلى الانقلاب.. حزب النهضة متهم بكل العيوب والمثالب، وعليه أن يقدم ضمانات عدم الهيمنة بعده. دعك من حديث إعلام يروج لنهاية حزب النهضة، فالحزب الذي انتهى في وسائل الإعلام يشكل كابوسا لمن يريد الحكم بعده، ولذلك يدور في قلب الحفرة الاستئصالية ويخرج بقرار سياسي استئصالي في العمق.
الانقلاب على علاّته أفضل من تقاسم الحكم مع النهضة ولو دحرت إلى موقع ثانوي.. هذه هي الحفرة التي وقعت فيها تونس، أما التحليلات الموازية فترهات إعلامية تغطي الفعل الاستئصالي الذي يوجه النخب المفعمة بالجمل الكبيرة الخاوية؛ منذ تعلمت السياسة في جامعة يسيطر عليها الوطد والشبيحة.
يوجد اختلاف بسيط بين مكونات المشهد الاستئصالي. فرقة الوطد وفرقة الشبيحة، وهي فرق صغيرة (لها مسميات حزبية متعددة)، صنعتها داخلية ابن علي ووظفتها منذ زمن طويل لاختراق كل ساحة سياسية معارضة، وانتهت في ركاب الانقلاب تدفعه إلى أقصى قدراته في تخريب مشهد سياسي؛ صنعته الثورة وأعطت فيه للنهضة خاصة وللإسلاميين عامة مكانا ودورا. هؤلاء المخبرون المتخفون في الساحة السياسية نراهم ونسمعهم لكن لهم مزية وضوح الصوت الاستئصالي، بينما يربك التحليل والموقف والمشهد استئصاليون لهم صوت عال في الديمقراطية، ولكنهم يريدون ضمانات من النهضة التي هي أول ضحايا الانقلاب.. الحفرة مفتوحة.
الانقلاب سيء لكن النهضة أسوأ
يقولها الوطد والشبيحة بصوت جهير فهم حاسمون في رفض النهضة حية وميتة، لكن آخرين يقولونها بصوت خافت. والذين خرجوا من هذا الموقف المتطرف وينسقون عملهم السياسي مع حزب النهضة في الشارع رغم أنهم طيف متعدد الأسماء والوجوه ولهم مواقف واضحة؛ وُصموا بالنهضويين أو بمضاد الصدمات الذي توظفه النهضة، فكأنهم قوم بلا رأي ولا عقل، ومطلوب منهم سرا وجهرة أن يبتعدوا عن النهضة ليمكن التفاوض معها على ما بعد الانقلاب دون سند. إن في خروجهم من حفرة الاستئصال قوة للنهضة، فهم يتحدثون معها كشركاء لا كواضعي شروط.
الانقلاب على علاّته أفضل من تقاسم الحكم مع النهضة ولو دحرت إلى موقع ثانوي.. هذه هي الحفرة التي وقعت فيها تونس، أما التحليلات الموازية فترهات إعلامية تغطي الفعل الاستئصالي الذي يوجه النخب المفعمة بالجمل الكبيرة الخاوية
عند طيف آخر يفاوض النهضة سرا ولا يخاطبها علنا يوجد ما بعد الانقلاب، ولكن لا يجب أن تكون فيه النهضة شريكا، أو بشيء من التواضع أن تكون حاملا لا محمولا أي وسيلة لا شريكا. نجد هذا في جمل كثيرة وفي مواقف مواربة تقول لا ونعم في جملة واحدة، كتركيز الحديث عن زعيم النهضة (رئيس البرلمان) ووصفه بعقدة أمام طرق الحل السياسي.
هنا يستوي الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي والسيد نجيب الشابي وطيف حقوقي واسع يؤمن بالديمقراطية (لا يتسع المجال لكل أسمائه)، لكن بوده أن تكون دون النهضة ولا يعلن ذلك صراحة، لكنه لا يفسر لنفسه وللناس لماذا هو فرد صمد دون حزب ودون قاعدة، ولا يفوق دوره خطابا في اجتماع جمعته له النهضة من أبنائها ليُسمع صوته للناس. هؤلاء سدنة الحفرة وإن تنكروا لدورهم الاستئصالي "السوفت"، ويجب أن نسميهم بأسمائهم لأنهم يخدعون الناس عن الانقلاب بما في قلوبهم من عجز. وكل عمل معهم بعد الانقلاب هو مواصلة للانقلاب، والحديث عن تكوين الجبهة المضادة للانقلاب يجب أن يتوقف مع هؤلاء ما لم يقروا للنهضة بحجمها ودورها، وقبل ذلك بحقها الصريح الذي يحدده لها صندوق الانتخاب كحكم وحيد على الأحجام والأدوار في المستقبل.
النهضة تنافق المشهد باسم التجميع ضد الانقلاب
وهذا باب آخر للحفرة.. خطاب التجميع دون وضع علامات طريق هو خطاب خادع ومنافق لا يقل خطره عن خطر خطاب الاستئصال؛ لأنه يرحّل الخلافات الجذرية إلى ما بعد الانقلاب فيؤجل حلها ويتمسكن حتى يتمكن (وهذا مثل تونسي). في ظاهر الخطاب توافق وفي باطنه نفاق سيكون له أثر مدمر عند الوصول إلى مرحلة البناء بعد الانقلاب، وهي مرحلة قادمة مهما تأخرت.
البناء على وضوح سياسي مطلوب قبل الانقلاب لا بعده، حتى لا يعاد إنتاج الأزمات السياسية التي عصفت بالتجربة منذ الثورة. والحجة أن الأولوية لإسقاط الانقلاب ثم يكون حديث بعده، وهو باب يؤدي إلى الحفرة السياسية إياها.
البناء على وضوح سياسي مطلوب قبل الانقلاب لا بعده، حتى لا يعاد إنتاج الأزمات السياسية التي عصفت بالتجربة منذ الثورة. والحجة أن الأولوية لإسقاط الانقلاب ثم يكون حديث بعده، وهو باب يؤدي إلى الحفرة السياسية إياها
يمكن تقديم دليل واحد يغني عن كثير حديث، فالذين يرغبون في العمل مع النهضة لا ينبسون بكلمة عن الأراجيف المروجة عن الحزب وعن قياداته؛ يقولون للحزب في الخاص إنها أكاذيب لكنهم يسكتون عنها علنا وينتظرون ثمرتها، أي تدمير سمعة الحزب والحط من وزنه الانتخابي القادم. وهذا نفاق بيّن (استثمار في كذب الآخرين عن الحزب) تراه النهضة وتسكت عنه، وتسعى إلى هؤلاء باسم التجميع ضد الانقلاب.
هل المطلوب من هؤلاء أن يتحولوا إلى ألسنة دفاع عن النهضة فيما النهضة صامتة؟ غير مطلوب منهم أن يدافعوا، لكن من الرجولة السياسية أن يصرحوا برأي واضح، وأن لا يبنوا تكتيكاتهم على نهضة مطعون في شرفها من طرف أحزاب وزارة الداخلية التي ألّفها ابن علي. ليكون هناك موقف صلب يمكن البناء عليه يجب أن تختفي من خطاب هؤلاء جمل من قبيل على النهضة أن.. (وقائمة مطالب طويلة بلا نهاية)، وتوضع جملة: للنهضة الحق في العمل، ويمكن البناء معها ومجادلتها لأنها حزب ديمقراطي وقف قبل الأدعياء ضد الانقلاب ولم ينافق الديمقراطية.
هل هذا دفاع عن النهضة؟ هذا سؤال يطرحه الوطد والشبيحة فقط.. هذا المقال دفاع عن ديمقراطية سليمة بعد الانقلاب، ومن لم يفهمه في هذا السياق فهو استئصالي ينافق الديمقراطية. سيكون هناك ما بعد الانقلاب وسنكون شهودا.