ثمة عدة ملاحظات على الانقلابين الأخيرين اللذين وقعا في كل من
تونس والسودان؛ أهمها:
أولاً: لم يعد بالإمكان تمرير الانقلابات وفرضها أمرا واقعا بالسهولة المعهودة سابقا، حيث ظهر عامل جديد في المعادلة السياسية وهو "التمنع الشعبي".. تمنع شعبي واسع واستنفار سياسي لا يُستهان به للتصدي للانقلاب في كلا البلدين، وهذا دليل على تقدم الوعي السياسي والانخراط أكثر في الشأن العام، وإدراك عميق لقيمة المجتمع في حركة التغيير.. ومن ثم التصميم الرائع للشعبين
السوداني والتونسي على رفض الرضوخ للانقلاب قد أربك فعليا سلطة الانقلاب أكثر وعقّد مهمتها وخلط حساباتها في البلدين.
ثانياً: ومن أهم مخرجات انقلاب السودان على مستوى الوعي السياسي الجماهيري؛ هو تشكل وعي جديد مفاده أنه لن يكون ثمة انتقال سياسي للسلطة عندما يكون الجيش هو المسيطر على الحكم والقرار.
ثالثاً: أما في تونس فالوعي السياسي الذي تشكل مفاده أنه ليس هناك أخطر ولا أسوأ ولا أبشع من أن تكون إرادة حكم الفرد لها قوة القانون النافذ.
رابعا: قيس سعيد هو رأس الثورة المضادة في تونس، لكن التدبير ليس بيده، فهو أعجز عن إدارة العملية الانقلابية، وإنما تُرسم له خريطة الطريق وهو يسير على منوالها، فهو ليس إلا أداة وواجهة لسلطة ظلامية انقلابية تنفخ في غروره وجنونه، لتصنع منه واجهة لدكتاتورية جديدة في تونس وتنهي بهذا تجربة التحول الديمقراطي.
خامسا: في تونس توجد طبقة سياسية مترهلة، أتت بالأسوأ سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، لهذا سرعان ما انفض عنها المنخدعون ببريق شعاراتها الزائفة والتحق كثير منهم بالحركة الشعبية المقاومة للانقلاب.
سادسا: في تونس ثمة شارع سياسي يزداد زخما على الأرض، في تجربة غير مسبوقة، يدافع عن مكتسبات الثورة الشعبية وعن الخيار الديمقراطي ويقاوم الانقلاب تحت قيادة سياسية متعددة الأطياف والتوجهات تتصدى للعملية الانقلابية منذ الأيام الأولى، كتجربة حركة "مبادرة مواطنون ضد الانقلاب" في تونس؛ التي كسرت جدار الصمت وتحدت طغيان الرئيس سعيد وحكم الفرد الكارثي.
سابعا: يأتي بعد ذلك ومن أهم الملاحظات أيضا أن أمريكا والغرب خفَ تحمسهم للانقلابات، فضلا عن التورط فيها بشكل مباشر أو غير مباشر، فقد أعيتهم المغامرات العسكرية وجرت عليهم الويلات، واستنزفتهم حروب المنطقة، وأوروبا صارت أعجز من أن تغير أوضاعا خارج حدودها، فهي غارقة في أزمات داخلية ولن تخرج منها أقوى مما كانت. وأمريكا تتجه نحو التخفف تدريجيا من أعباء المنطقة، وأصبحت أكثر انفتاحا في التعامل مع قوى سياسية جديدة غير التي حمتها ودعَمتها في العقود الماضية، خاصةً وقد تبين لخبرائها واستراتيجييها في السنوات الأخيرة؛ أنهم ساندوا ولفترة طويلة حكّاما فشلة فاسدين عاجزين أغرقوا المنطقة في حروب لا نهاية لها.
ثامنا: محاولات إخماد الاحتجاجات الشعبية بالقوة، كما فعل عسكر السودان في 2019، كانت سوء تقدير كبير، وخطأ فادحا منقطع النظير، ولا تحظى بالدعم الواسع حتى من داخل أجهزة الدولة والحكم.. فقد تعلمت حركات الاحتجاج أيضاً من إخفاقات الماضي وأصبحت الآن أكثر تعقيداً، مع وجود شبكة على مستوى البلاد - هذا في السودان تحديداً - من اللجان المحلية قادرة على التنظيم بفعالية.
تاسعا: ليس هناك أخطر على البلدان في الوقت الحالي وعلى أمنها وحاضرها ومستقبلها من حكم الفرد وسيطرة الجيش، وخطرهما لا يضاهيه أي خطر بما فيها التهديدات والمخاطر الخارجية الحقيقية أو المحتملة أو المتوهمة. وهذا أدركه كثير من الناس، وربما لا يكاد يفرق كثير منهم بين المحتل الخارجي والمستبد الداخلي في حجم الخراب والتحطيم للإنسان والمجتمع والبلاد.
عاشراً: التعويل على الموقف الخارجي في دعم التحول الديمقراطي ببلداننا سرابٌ بقيعة يحسبه العطِش للتحرر من أغلال القهر ماء، حتى إذا جاءه لم يجده ووجد الاستبداد والكبت.
الحادي عشر: واهم من يعتقد أن الوضع سيستقر لحكم الجنرالات بعد الانقلاب العسكري في السودان، فداخل الانقلاب هناك تصدع وانقسام، بين الجنرالين النافذين؛ البرهان وحميدتي، وكل يريد حسم الموقف لمعسكره. وقضية إثيوبيا أكثر ما يهدد العلاقة الفاترة بينهما، وقد تؤول إلى الانفجار الداخلي، فمصر النظام مع البرهان، والإمارات مع حميدتي.
الثاني عشر: مصر معنية كثيرا بالوضع في السودان، لأنها تريد استخدام الخرطوم في صراعها ونزاعها مع إثيوبيا حول مياه النيل، بدعم معارضي سلطة أديس أبابا، وهو ما يميل إليه البرهان بتحريض من السيسي، أما حميدتي، قائد قوات الدعم السريع، فتربطه علاقات وثيقة مع بعض المسؤولين في العاصمة الإثيوبية يرفض دعم معارضيها، ويرفض السيسي أي وساطة تصب في مصلحة سلطة أديس أبابا، وكل محاولة للتوسط يفشلها.
الثالث عشر: روسيا تبحث عن تعزيز حضورها ونفوذها في أفريقيا، وحلفاؤها إلى الأبد هم العسكر، وبعضهم رأى في موسكو مظلة أمنية للحماية بديلا عن الغرب. وأمريكا متخوفة من تمدد الصين وتوسعها في العمق الأفريقي، وتعمل على قطع الطريق عليها. وتركيا ببراغماتيتها تحاول أن تتسلل من أي ثغرة أو منفذ استثماري، وأما أوروبا فهي أعجز من أن تتحرك.
الخلاصة، البيئة الإقليمية المحيطة بنا مضطربة ومحفوفة بالمخاطر والتهديدات، والأنظمة الاستبدادية فيها من أوهن الأطراف ولا تأثير لها يذكر في مسار الأحداث العالمية، وكلما تغلبت على تلك الأنظمة المستبدة سياسة الانغلاق والضعف والانقسام والهشاشة؛ انكشف الأمن القومي لبلداننا وصرنا الحلقة الأضعف بين أمواج البحر الهائج.