هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
نشرت مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية، مقال رأي للكاتب مايكل بيكلي، الأستاذ المشارك في قسم العلوم السياسية في "جامعة تافتس"، تحدث فيه عن انهيار النظام العالمي الحالي، وتشكّل نظام عالمي جديد يحرّكه الخوف من الصين.
وقال الكاتب، في مقاله الذي ترجمته "عربي21"، إن النظام العالمي يشهد في الوقت الحالي تقهقرا لا يمكن إنكاره، رغم ادعاء البعض أنه يمكن إصلاحه.
ووفقا لبعض الدول، تحتاج الولايات المتحدة إلى إعادة تكريس نفسها لقيادة النظام الليبرالي الذي ساعدت في تأسيسه منذ حوالي 75 سنة، بينما يجادل آخرون بأن القوى العظمى في العالم ينبغي أن تشكل وفاقا لتوجيه المجتمع الدولي إلى عصر جديد قائم على التعاون متعدد الأقطاب. في المقابل، يدعو البعض الآخر إلى إبرام صفقة كبرى تُقسّم العالم إلى مناطق نفوذ مستقرة.
اقرأ أيضا: صحيفة: هل تؤسس روسيا والصين تحالفا عسكريا وسياسيا؟
وبحسب الكاتب، فإن ما تشترك فيه هذه الرؤى وغيرها هو افتراض أن الحوكمة العالمية يمكن تصميمها وفرضها من خلال نظام هرمي الشكل، وأنه من خلال ترجيح الكفة لصالح القادة الأكثر حنكة سياسيا وعقد مؤتمرات واسعة يمكن إعادة الهدوء إلى العالم، واستبعاد تضارب المصالح والأحقاد التاريخية، واستبدالها بالتعاون المربح للجميع.
لكن بالعودة إلى التاريخ، لا يوجد سوى أسباب قليلة للثقة في الحلول التعاونية. لم تكن أقوى الأنظمة في التاريخ الحديث -من ويستفاليا في القرن السابع عشر إلى النظام الدولي الليبرالي في القرن العشرين- منظمات شاملة تعمل من أجل الصالح العام للإنسانية، بل تحالفات بنتها قوى عظمى لخوض منافسة أمنية ضد خصومها الرئيسيين. وما خلق هذه الحالة من الفوضى هو الخوف والعداء لعدو مشترك، وليس الدعوات المستنيرة لجعل العالم مكانًا أفضل.
وأشار الكاتب إلى أن النظام الليبرالي الراهن ينهار لأسباب عديدة، لكن السبب الأساس لذلك أن التهديد الذي صُمم في الأصل لهزيمة الشيوعية السوفييتية اختفى قبل ثلاثة عقود. ولم يتمكن أي من البدائل المقترحة للنظام الحالي من الصمود في ظل غياب تهديد حقيقي واضح بما يكفي لفرض تعاون مستمر بين الجهات الفاعلة الرئيسية في العالم.
وقال إنه من خلال موجة القمع والعدوان، أرعبت الصين البلدان القريبة والبعيدة وظلّت تنتهج سياسات عدائية في شرق آسيا، وتحاول إنشاء مناطق اقتصادية خالصة في الاقتصاد العالمي وتصدير الأنظمة الرقمية التي تجعل الأنظمة الاستبدادية أكثر فعالية من أي وقت مضى. ولأول مرة منذ الحرب الباردة، تواجه مجموعة مهمة من البلدان تهديدات خطيرة لأمنها ورفاهيتها وأساليب حياتها، وتنبع جميعها من مصدر واحد.
ويتسلح جيران الصين ويتحالفون مع القوى الخارجية لتأمين أراضيهم وممراتهم البحرية، وتسعى العديد من الاقتصادات الكبرى في العالم بشكل جماعي لتطوير معايير تجارية واستثمارية وتقنية جديدة تُقصي ضمنيًا الصين.
وفي الوقت الذي توحد فيه الديمقراطيات جهودها لوضع استراتيجيات لمكافحة الأنظمة الاستبدادية على الصعيد المحلي والخارجي، تنبثق منظمات دولية جديدة لتنسيق هذه الحرب. وما يبدو واضحًا في الوقت الحالي أنه تمخّض عن المنافسة مع الصين نظام دولي جديد.
أنظمة الإقصاء
وأوضح الكاتب أن الفكر الليبرالي الحديث يربط النظام الدولي بالسلام والوئام. ومن الناحية التاريخية، كانت الأنظمة الدولية تدور حول التقليل من شأن ونفوذ المنافسين أكثر من توحيد البلدان. ووفقا لمُنظِّر العلاقات الدولية كايل لاسكريتس، فإن الأنظمة الرئيسية في القرون الأربعة الماضية كانت "أنظمة قائمة على الإقصاء" صممتها القوى المهيمنة لنبذ الخصوم والتغلب عليهم.
وذكر الكاتب أن الخوف من العدو، وليس الإيمان بقدرات الحلفاء، يمثّل حجر الأساس للنظام العالمي في كل العصور، حيث طوّر أعضاؤه مجموعة مشتركة من المعايير من خلال تنصيب أنفسهم في مواجهة ذلك العدو مستفيدين من الدافع الأكثر بدائية للعمل الجماعي للإنسانية.
وتعد السمات الرئيسة للنظام الليبرالي السائد اليوم السلالة المباشرة لتحالف الحرب الباردة للولايات المتحدة. بعد أن قرّر السوفييت عدم الانضمام إلى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة، أعيد استخدام هذه المؤسسات بغرض توسيع النظام الرأسمالي - أولاً، لإعادة بناء الاقتصادات الرأسمالية، ولاحقًا للترويج للعولمة.
وأرسى مشروع مارشال أساس المجتمع الأوروبي من خلال إغداق المساعدات الأمريكية على الحكومات التي وافقت على طرد الشيوعيين من بلدانهم والسعي نحو اتحاد اقتصادي.
من جهته، أنشأ الناتو جبهة موحدة ضد الجيش الأحمر. وقد تم إنشاء سلسلة من التحالفات الأمريكية في شرق آسيا لاحتواء التوسع الشيوعي، وخاصة التهديد الذي تشكله الصين وكوريا الشمالية. وكان تعاون الولايات المتحدة مع الصين، الذي استمر من السبعينيات إلى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، مناورةً لاستغلال الانقسام الصيني السوفييتي.
وأشار الكاتب إلى أن كل هذه المبادرات مثّلت عنصرا في نظام صُمّم بشكل أساسي لهزيمة الاتحاد السوفييتي. وفي ظل غياب التهديد الذي تسبب في اندلاع الحرب الباردة، لن تتسامح اليابان وألمانيا الغربية مع الاحتلال العسكري الأمريكي المطول على أراضيها.
ومن شأن التهديد الذي تشكله قوة عظمى شيوعية مسلحة نوويًا أن تُجبر العديد من البلدان على وضع مصالحها المتضاربة وخصوماتها طويلة الأمد جانبًا لبناء أقوى مجتمع أمني ونظام تجارة حرة في التاريخ.
الصمود تحت الضغط
وتعرف الولايات المتحدة وحلفاؤها القيم التي يدافعون عنها وعدوهم، إلا أن انهيار الاتحاد السوفييتي خلق مجموعة من التهديدات الصغيرة. وفي فترة ما بعد الحرب الباردة، حاول الحلفاء الغربيون مضاعفة التزاماتهم تجاه النظام الحالي بدلا من بناء نظام جديد.
وعلى الرغم من انهيار عدوهم، أي الاتحاد السوفييتي، فإن مهمة الحلفاء الغربيين لم تنته وعملوا على مدى العقود الثلاثة التالية على توسيع النظام الليبرالي الغربي وجعله نظامًا عالميًا، إلا أن ذلك لم يدم.
ولطالما افترض الكثيرون في الغرب أن النظام الليبرالي يمثل استثناءً للنمط التاريخي، لكن كل الدول كانت قادرة على الانضمام للاقتصاد المعولم ويمكن للمؤسسات الليبرالية استيعاب جميع أنواع الأعضاء، حتى غير الليبراليين منهم.
ومع انضمام المزيد من الدول، ظهرت بعض التغيرات الإيجابية، مثل مساهمة التجارة الحرة في تعزيز الرفاهية والرخاء، ثم الديمقراطية، ثم التعاون الدولي، وبالتالي المزيد من ازدهار التجارة. والأهم من ذلك، أن النظام لم يواجه معارضة كبيرة، لأنه سبق له أن هزم عدوه الرئيس.
لكن تبين أن هذه الافتراضات خاطئة، فمن خلال تعزيز الأسواق الحرة والحدود المفتوحة والديمقراطية والمؤسسات فوق الوطنية، تحدى هذا النظام المعتقدات التقليدية والمؤسسات التي وحدت المجتمعات لقرون. ومن خلال القضاء على خصمه الرئيسي، أطلق النظام الليبرالي العنان لكل أنواع المعارضة القومية والشعبوية والدينية والسلطوية.
اقرأ أيضا: NYT: الصين شريان حياة لبوتين بصراعه مع أمريكا حول أوكرانيا
وأشار الكاتب إلى أن العديد من أعمدة هذا النظام تنهار على ما يبدو تحت الضغط، حيث تمزق الخلافات حول تقاسم الأعباء حلف الناتو. كما أن النظام الليبرالي يبدو غير مهيأ للتعامل مع المشاكل العالمية الملحة مثل تغير المناخ والأزمات المالية والأوبئة والمعلومات المضللة وتدفق اللاجئين والتطرف السياسي.
وأدرك صناع السياسة هذه المشاكل منذ فترة طويلة، بيد أن الفكر الإصلاحي لبعضهم لم يحظ بأي دعم لأن بناء النظام مهمة مكلفة. لكن هذه التغييرات لن تتبلور بشكل طبيعي وحدها، لهذا السبب يحتاج بناء النظام عادةً إلى عدو مشترك، وهو العامل الغائب على مدى 30 عامًا.
دخول الصين
أفاد الكاتب بأن الصين لطالما كانت واضحة بشأن أهدافها التي تشمل استعادة مكانتها كقوة مهيمنة في آسيا وأقوى دولة في العالم. وخلال العقود الأربعة الماضية، اتبعت الدولة نهجًا صبورًا وسلميًا نسبيًا لتحقيق هذه الأهداف، لذلك فقد تبنّت الصين استراتيجية "التطور السلمي" بالاعتماد في المقام الأول على النفوذ الاقتصادي لتعزيز مصالحها.
لكن خلال السنوات الأخيرة، توسع نفوذ الصين على جبهات متعددة، وسيطر الموقف العدائي على كل جزء من سياسة الصين الخارجية، التي تضع العديد من البلدان أمام أخطر تهديد واجهته منذ أجيال.
يتجلى هذا التهديد بشكل أكبر في منطقة شرق آسيا البحرية، حيث ملأت الصين الممرات البحرية الآسيوية بخفر السواحل الصيني وسفن الصيد، وعززت المواقع العسكرية عبر بحر الصين الجنوبي وزادت من استخدامها لاستراتيجيات التصدي لطرد الدول المجاورة من المناطق المتنازع عليها. وصرّح مسؤولون صينيون للمحللين الغربيين بأن الدعوات لغزو تايوان تنتشر داخل الحزب الشيوعي الصيني، حيث يشعر مسؤولو البنتاغون بالقلق من أن مثل هذا الهجوم قد يكون وشيكًا.
واتبعت الصين سياسة الهجوم الاقتصادي أيضا، وتجلّى ذلك في خطتها الخماسية الأخيرة للسيطرة على ما يسميه المسؤولون الصينيون "نقاط الاختناق"، وهي السلع والخدمات التي لا تستطيع البلدان الأخرى العيش من دونها، ثم فرض هذه الهيمنة. هذا إلى جانب استغلال أهمية السوق المحلية الصينية بالنسبة لباقي الدول لإجبارها على تقديم تنازلات.
لتحقيق هذه الغاية، أصبحت الصين المُقرِض الأول للديون الخارجية، وكبدّت أكثر من 150 دولة ما يناهز التريليون دولار من الديون، واتخذت نفوذها الاقتصادي كوسيلة ضغط على أكثر من 12 دولة خلال السنوات القليلة الماضية.
لقد أصبحت الصين قوة عظمى مُناهِضة للديمقراطية في ظل قيامها بتصدير أدوات متطورة تشجّع الاستبداد في جميع أنحاء العالم، مثل كاميرات المراقبة وتقنيات الذكاء الاصطناعي والتعرّف البيولوجي، وتقنيات التعرّف على الوجه والكلام.
الفعل ورد الفعل
أوضح الكاتب أن سعي الصين لإخماد ما تبقى من النظام الليبرالي يثير ردود فعل دولية عنيفة، وقد كشف استطلاع أن 75 في المئة من كبار مسؤولي السياسة الخارجية صرحوا بأن أفضل طريقة للتعامل مع الصين هي تشكيل تحالفات من الدول المعادية لها.
ووفق الكاتب، فقد بدأت المشاعر المعادية للصين تتأرجح في رد فعل ملموس، لكن المقاومة لا تزال في مهدها ويرجع ذلك إلى أن العديد من الدول لا تزال معتمدة على التجارة الصينية. لكن الاتجاه العام واضح، وهو يتمثل في أن الجهات الفاعلة بدأت في توحيد قواها لسحق قوة بكين، وإعادة تنظيم العالم.
حتى بعد الحرب الباردة، عندما أصبحت الديمقراطية أداة ترويج للدول الغربية، تجاهلت الولايات المتحدة وحلفاؤها مخاوف حقوق الإنسان من خلال السماح بانضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية. أما الآن، فقد أصبح الانفتاح الاقتصادي عبئا على الولايات المتحدة وحلفائها لأن الصين منغمسة في كل جوانب النظام الليبرالي تقريبا، وهو ما يشكّل تهديدا جديدا.
وأضاف الكاتب أنّ بكين تستغل تقديم المساعدات وأجهزة التجسس لمساعدة شركاتها على الهيمنة على الأسواق العالمية، وتعمل على حماية سوقها المحلية من خلال الحواجز غير الجمركية. كما أنها تقوم بفرض رقابة على الأفكار والشركات الأجنبية على شبكة الإنترنت الخاصة بها، فيما تسمح بالدخول إلى الإنترنت العالمي لسرقة الملكية الفكرية ونشر المعلومات التي تُحسّن من صورة الحزب الشيوعي الصيني.
وتسعى بكين لتوّلي مناصب قيادية في المؤسسات الدولية الليبرالية، مثل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، لتقوم بعد ذلك بعكس مسارها نحو اللاليبرالية. وتستخدم جيشها لتعزيز السيطرة على مساحات شاسعة من شرق الصين وبحر الصين الجنوبي.
وتيقّظت الولايات المتحدة وحلفاؤها للخطر، فالنظام الليبرالي الجديد، لا سيما الاقتصاد المعولم في باطنه، يعملان على تمكين خصم خطير. وهم يعملون الآن على بناء نظام جديد يستبعد الصين من خلال جعل الديمقراطية شرطًا للانخراط فيه.
وخوفا من الإمبراطورية الاقتصادية الصينية، فقد بدأت الديمقراطيات الرائدة في تشكيل شبكات تجارية واستثمارية حصرية لتعجيل تقدمها في القطاعات الحيوية وإبطاء النمو الصيني.
ومن بين هذه التعاونات "شراكة القدرة التنافسية والمرونة" بين الولايات المتحدة واليابان. وفي حين ركزت مخططات أخرى على تقليص النفوذ الاقتصادي الصيني من خلال تطوير بدائل للمنتجات والتمويل الصيني، فقد تضافرت جهود أستراليا والهند واليابان لإطلاق مبادرة تقدم حوافز لشركاتها لنقل عملياتها خارج الصين.
وعمدت البلدان التي تشكل أكثر من 60 بالمئة من سوق المعدات الخلوية في العالم إلى فرض قيود على شركة هواوي، المزوّد الرئيسي لشبكة الجيل الخامس للاتصالات.
وقال الكاتب إن التحالفات الديمقراطية تعمل على تقييد وصول الصين إلى التكنولوجيات المتقدمة، وتعمل المؤسسات الجديدة على إرساء الأسس لنظام شامل متعدد الأطراف لمراقبة الصادرات، ويعمل مجلس التجارة والتكنولوجيا على وضع معايير مشتركة عبر المحيط الأطلسي لفحص الصادرات إلى الصين واستثمارات الذكاء الاصطناعي وغيرها من التكنولوجيات المتطورة.
وأشار الكاتب إلى أن الميزة الثانية للنظام الجديد قيد التشكّل تتمثل في وجود حاجز عسكري مزدوج لاحتواء الصين يتضمن منافسين يسعون إلى منعها من السيطرة البحرية والجوية. وفي الوقت الحالي، تعمل القوى الديمقراطية - أستراليا والهند والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، على تعزيز هذه الجهود عن طريق تقديم المساعدة والأسلحة والمعلومات إلى جيران الصين.
ويزداد هذا التعاون الأمني قوة من خلال ظهور الحوار الأمني الرباعي وإنشاء اتفاقيات جديدة مثل "أوكوس". وفي حين أن الهدف المعلن لهذه الأنشطة هو الحفاظ على الوضع الاقليمي الراهن في شرق آسيا، فإن هدفها الفعلي إنقاذ تايوان من خطر الغزو الصيني، وقد طورت اليابان والولايات المتحدة خطة معركة مشتركة للدفاع عنها.
تصادم الأنظمة
لا يُعد تاريخ بناء النظام الدولي تاريخ تعاون متناغم، بل هو تاريخ منافسة شرسة بين أنظمة اتخذت في أفضل أوقاتها شكل حرب باردة يتنافس فيها كل جانب لتحصيل فائدة، وتحولت في كثير من الحالات إلى حرب ضروس انتهت بهزيمة أحد الطرفين.
يدعو العديد من صانعي السياسة والمحللون اليوم إلى تنسيق جديد للقوى لفرز مشاكل العالم وتقسيم مناطق نفوذ الكرة الأرضية. لكن فكرة النظام الشامل الذي لا تسيطر عليه رؤية قوة عظمى واحدة لا تشكل سوى تخيلات للمثاليين من الحكومات العالمية والمنظرين الأكاديميين.
لا يوجد في الوقت الحالي سوى نظامين قيد الإنشاء أحدهما بقيادة الصين والآخر بقيادة الولايات المتحدة - وسرعان ما يتحول التنافس بينهما إلى صدام بين الاستبداد والديمقراطية وبين أيديولوجيتين متعارضتين. وفي حين تضع الصين نفسها في موقع المدافع العالمي عن التسلسل الهرمي والتقاليد ضد الغرب المنحط وغير المنضبط، فإن الولايات المتحدة تسعى إلى تشكيل تحالف جديد لاحتواء النفوذ الصيني وجعل العالم مكانا آمنا للديمقراطية.
ويرى الكاتب أن هذا الصراع سيحدد معالم القرن الحادي والعشرين ومن شأنه التسبب في تقسيم العالم. ستنظر الصين إلى النظام الديمقراطي الناشئ على أنه استراتيجية احتواء تهدف إلى خنق اقتصادها وإسقاط نظامها. وردًا على ذلك، ستسعى إلى حماية نفسها من خلال تأكيد سيطرتها العسكرية على ممراتها البحرية الحيوية، وإنشاء مناطق اقتصادية خالصة لشركاتها، ودعم الحلفاء الاستبداديين من خلال زرع الفوضى في الديمقراطيات.
سيخضع العالم الرقمي لسلطة نظامين. فعندما يسافر الأشخاص من نظام إلى آخر -إذا كان بإمكانهم حتى الحصول على تأشيرة- فسوف يدخلون إلى عالم رقمي مختلف. لن تعمل هواتفهم ولن يتمكنوا من الولوج إلى مواقعهم المفضلة أو حسابات بريدهم الإلكتروني أو تطبيقاتهم على منصات التواصل الاجتماعي. ستشتد حدة الحرب السياسية بين النظامين، حيث يحاول كل واحد منهما تقويض الشرعية المحلية والجاذبية الدولية لمنافسه.
لن تنتهي المواجهة إلا عندما يهزم أحد الجانبين أو يستنفد قوى الآخر. واعتبارًا من اللحظة الراهنة، فإن الأموال الذكية تقع تحت سيطرة الجانب الأمريكي، الذي لديه ثروة وأصول عسكرية أكثر بكثير مما تمتلكه الصين وآفاق نمو أفضل في المستقبل. وفي الواقع، فإن من الصعب أن نرى كيف يمكن لدولة تواجه العديد من التحديات أن تحافظ على نظامها الدولي لفترة طويلة، لا سيما أمام المعارضة الصارمة التي تواجهها من الدول الأكثر ثراءً في العالم.
ويستبعد الكاتب إمكانية بقاء النظام الديمقراطي بقيادة الولايات المتحدة متماسكًا. فمن المحتمل أن الولايات المتحدة ستواجه أزمة دستورية في الانتخابات الرئاسية لسنة 2024 وتنجرف إلى حرب أهلية. وحتى إذا لم تواجه مثل هذا السيناريو، فقد تعاني الولايات المتحدة وحلفاؤها من انقسامات شديدة.
وفي الوقت الحالي، يعاني العالم الديمقراطي من أكبر أزمة ثقة ووحدة منذ الثلاثينيات في ظل تنامي النزعات القومية والشعبوية ومعارضي العولمة. ومن جانب آخر، فقد ابتليت ديمقراطيات شرق آسيا بنزاعات إقليمية مستمرة مع بعضها البعض. لذلك بات ينظر العديد من الأوروبيين إلى الصين على أنها فرصة اقتصادية أكثر من كونها تهديدا استراتيجيا، ويشككون بجدية في مصداقية الولايات المتحدة كحليف. وفي حال فشل التحالف الناشئ المناهض للصين في ترسيخ نظامه الدولي، فسوف ينزلق العالم تدريجيًا إلى فوضى مركزها صراع بين القوى المارقة والكتل الإقليمية.
مضاعفة جهود إرساء الديمقراطية
يُظهر التاريخ أن العصور التي هيمنت فيها مرونة التعددية القطبية تنتهي عادةً بكارثة. فعلى سبيل المثال، شهد العالم في أواخر القرن الثامن عشر ذروة عصر التنوير في أوروبا، قبل أن تنحدر القارة إلى جحيم الحروب النابليونية. وفي بداية القرن العشرين، تنبأت العقول المستنيرة في العالم بنهاية صراع القوى العظمى لاسيما بعد أن أصبح العالم مترابطًا بشكل وثيق بسبب اختراع السكك الحديدية وكابلات التليغراف والسفن البخارية.
وبحسب الكاتب فإن من المفارقات المثيرة للسخرية أن إرساء أنظمة دولية بات أمرا ضروريا لتجنب الفوضى في العالم خلال ذروة التنافس بين القوى العظمى. وعلى الرغم من أن منافسة الولايات المتحدة وحلفائها مع الصين ستكون محفوفة بالمخاطر، فإنها ربما تكون الطريقة الوحيدة لدرء مخاطر أكبر.
وخلص الكاتب إلى أن بناء مستقبل أفضل يقتضي من الولايات المتحدة وحلفائها تبني رؤى مستنيرة أكثر تخدم مصالحها أفضل من تلك التي تبنوها خلال الحرب الباردة. لا يعد خيار المواجهة هينا، لأن الوقوف في وجه الصين سيترتب عنه تكاليف اقتصادية كبيرة على المدى القصير والطويل. وفي الوقت الحالي، تُعلّق الآمال على تجديد الالتزام بالقيم الديمقراطية، حيث تشترك الولايات المتحدة وحلفاؤها في طموح مشترك يتمثل في إرساء نظام دولي قائم على المبادئ الديمقراطية التي تكرسها الاتفاقيات والقوانين الدولية.