هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
أثارت احتجاجات السويداء جنوبي سورية الكثير من الأسئلة ليس حول أسبابها (قطع الدعم عن مواد أساسية، مثل الخبز وغاز التدفئة والوقود، عن شرائح واسعة من السوريين، في ظل تفاقم الأوضاع الكارثية التي تعصف بغالبية السوريين في مناطق سيطرة النظام)، وإنما حول آفاقها ودلالاتها، فذهب البعض إلى اعتبارها امتدادا للثورة التي اندلعت عام 2011، بسبب مطالبتها بإسقاط النظام، وبسبب تماهي الشعارات تقريبا (بدنا نعيش بكرامة، وكرامة مساواة عدالة).
يقدم هذا المقال قراءة مختلفة لمآلات الحراك الاحتجاجي في السويداء: لا يتعلق الأمر بكون المطالب الاقتصادية المعيشية اليومية هي سبب الاحتجاجات، فهذه أسباب أولية في معظم ثورات العالم، وسرعان ما تتحول إلى مطالب سياسية. ويتساءل لماذا غابت احتجاجات السويداء مع اندلاع الثورة قبل أكثر من عشر سنوات؟ ولماذا ظهرت الآن؟
الجواب بسيط، لأن أي فعل احتجاجي جرى في السويداء كان مرتبطا بتداعيات مباشرة عليهم، سواء حين تعلق الأمر بقرارات النظام سحب الشباب إلى الجيش قبل سنوات، أو حين تعلق الأمر بدخول "داعش" إلى مناطقهم، أو حين تعلق الأمر بتردي أوضاعهم الاقتصادية كما حصل مؤخرا.
هذا يعني، أن مطالب الكرامة في الحراك الاحتجاجي بالسويداء ومطالب إسقاط النظام، مرتبطة فقط بتردي الوضع المعيشي ومرتبطة بالأذى الاقتصادي الذي تعاني منه الطائفة ليس إلا، وليست ناجمة عن وعي وطني بضرورة إنهاء الاستبداد وإقامة دولة ديمقراطية، ودولة القانون والمؤسسات، ودولة العدل والمساواة والحرية، الدولة القائمة على المواطنة بغض النظر عن الانتماءات الأقوامية الفرعية.
لقد بينت التجربة السورية خلال العقد الأخير، أن الأقليات في سوريا ـ كمنظومة متماسكة أو كوعي جمعي ـ لم تمتلك حسا وطنيا بأهمية لحظة الثورة باعتبارها لحظة تاريخية فارقة يمكن من خلالها تغيير وجه سورية بالكامل إلى وجه يشارك فيه جميع السوريين على مختلف انتماءاتهم الضيقة.
لقد فضلت الأقليات (خصوصا الطائفتين المسيحية والدرزية) عدم المشاركة في الثورة، فتبنت الأولى خطابا حادا في تأييدها للنظام، فيما آثرت الثانية الحياد، وكأن الثورة، وما أنتجته من صراع سياسي لا يعنيهم.
لقد بينت التجربة السورية خلال العقد الأخير، أن الأقليات في سوريا ـ كمنظومة متماسكة أو كوعي جمعي ـ لم تمتلك حسا وطنيا بأهمية لحظة الثورة باعتبارها لحظة تاريخية فارقة يمكن من خلالها تغيير وجه سورية بالكامل إلى وجه يشارك فيه جميع السوريين على مختلف انتماءاتهم الضيقة.
في معرض كتابه "الانتقال الديمقراطي وإشكالياته" كتب د. عزمي بشارة ما يلي: "لقد جرى تداول أفكار عديدة في العالم العربي عن خوف الناس من أن يتقبل الإسلاميون الديمقراطية والانتخابات ظاهرا كي يتمكنوا من الوصول إلى السلطة، ثم يغلقوا بعد ذلك بابها لمنع غيرهم من الوصول إلى الحكم، وهذا غير صحيح، لأن عموم معارضي مشاركة الإسلاميين لا يخشون امتناع الإسلاميين عن إجراء انتخابات نزيهة بعد وصولهم إلى الحكم تحديدا، وإلا لما كان العديد منهم يفضل الدكتاتورية التي تمنع أي انتخابات أصلا على حكم إسلاميين منتخبين".
ويتابع بشارة، "إن العامل الرئيس يعود إلى خشيتهم من تدخل نظام حكم إسلامي في مجالهم الخاص، وفرض نمط حياة شمولي عليهم، فضلا عن فرضه في المجال العمومي، وهذا ما لا تقدم عليه الأنظمة السلطوية غالبا".
ويستنتج بشارة، "أن مشكلة فئات واسعة مع الإسلاميين هي تعبير عن شرخ اجتماعي ثقافي وليس عن خلاف سياسي، لأنه يتعلق بتوجهات شمولية تتناول طابع الدولة والمجتمع وحتى نمط الحياة الخاص، وهو الأمر الذي يفترض أن تتناوله أي عملية إصلاح".
هذا الشرخ الاجتماعي الثقافي، مع وعي زائف بالمخاطر المترتبة على وصول السنة إلى الحكم، مع رفض المشاركة في الثورة، كل ذلك يجعل الطائفة الدرزية على سبيل المثال لا الحصر، طائفة لا تاريخية، لأنها رفضت التواجد في الانعطافات التاريخية الهامة، وفضلت التحرك على هامش التاريخ، والسبب في ذلك ذاتي، أي وعي الطائفة لذاتها وحاجاتها ومصالحها، ففي حالة الثورة عام 2011، كانت اللحظة لحظة سنية ـ علوية ولم تكن لحظة درزية وفق منظورها، وفي كلا الحالتين، لم تنظر الطائفة إلى لحظة الثورة على أنها لحظة وطنية.
أن يحدث حراك احتجاجي في مناطق النظام، فهذا أمر مستحسن ومطلوب، لأنه قد يمهد لتوسيع العمل الاحتجاجي في مختلف مناطق سيطرة النظام، بما قد يؤدي مستقبلا إلى تدمير القاعدة الشعبية للنظام، والمساعدة على سقوطه.
هذا شيء، وأن يُنظر للحراك في السويداء من منظور الرفض للبنية الاستبدادية للنظام وممارساته الاستبدادية، والوعي بأهمية بناء الدولة الوطنية الديمقراطية، فهذا شيء آخر تماما.
*كاتب وإعلامي سوري