علينا أن نفهم جيدا أننا لسنا مطالبين بالانحياز لأحد المعسكرين؛ فكلاهما متهم، وكلاهما مارس الوحشية في العالم على طريقته، وفي سبيل تحقيق مصالحه، وكلاهما أجرم في حق دول وشعوب حول العالم، وقد ذقنا نحن
العرب والمسلمين من ويلاتهما ما لا يغتفر وما لا ينسى.. وآفة العرب النسيان والتغاضي حين تأتيهم الوحشية والظلم من القوى العظمى التي نكلت بهم واستعمرت بلادهم ونهبت خيراتهم وبسطت نفوذها عليهم..
الولايات المتحدة حين غزت فيتنام مارست أبشع صنوف القتل والبطش والإجرام بحق الفيتناميين، وحين غزت أفغانستان قتلت عشرات الآلاف من المدنيين، وأقامت معسكر اعتقال خارج القانون في (غوانتنامو) وهو أسوأ معتقل في التاريخ البشري؛ حيث إهانة آدمية البشر، والحط من المبادئ والقيم الإنسانية في أجلى صورة من صور البطش الممنهج ومجافاة القوانين الدولية بالتحايل عليها.. وفي العراق حيث وثّقت التسجيلات المصورة قتل المدنيين وهم يمشون في الشوارع أو الصبيان وهم يلعبون أمام منازلهم.. لقد دمروا العراق وأعادوه مئة عام للوراء، وتركوه في حلبة مصارعة، بعد أن مكنوا -عن قصد- لطائفة بعينها، وتركوا إيران تعبث فيها كما تشاء..
إننا والحالة هذه غير مطالبين بالاصطفاف إلى جانب روسيا أو حلف الناتو، بل من الجهل وقلة الوعي أن ننحاز لطرف على حساب آخر، لكن من حق السوريين والليبيين أن يفرحوا لأية هزيمة تلحق بروسيا
ولم يكن الغزو الروسي لأفغانستان بأقل بشاعة من الغزو الأمريكي، وقد دحر الأفغان كلتا القوتين، وأذاقوهما مرارة الهزيمة بالتوالي.. لقد أجرم الاتحاد السوفييتي السابق في حق أفغانستان التي كانت أحد أبرز الأسباب في تفكك الاتحاد السوفييتي السابق. وفي سوريا شاركت
روسيا إيران في إفشال الثورة السورية، وأسهمت في قتل مئات الآلاف من السوريين وتشريدهم وتدمير بيوتهم. وحق للسوريين أن يفرحوا بإسقاط طائرة روسية وأسر قائدها، وهو أحد أخس الطيارين الروس الذين شاركوا في الحرب على السعب السوري، فدمروا حلب، وقصفوا عديد المناطق في سوريا، وهو الذي
يظهر إلى يمين بشار الأسد في صورة جمعته ببشار وبوتين.
كذلك فقد قدمت روسيا الدعم بالأسلحة للحوثيين في اليمن عبر إيران، وللانفصاليين في الجنوب. وفي ليبيا وقفت إلى جانب حفتر، وزودته بالأسلحة الفتاكة ودعمته بعصابات الفاغنر التي تقاتل عن روسيا بالوكالة، مما أدى إلى تشتيت الجهود التي بذلت دوليا وعربيا للتغلب على حالة الانقسام، وتوحيد التراب الليبي.. والشواهد على تجاوز القوانين الدولية من قبل الطرفين كثيرة، وما ذكرناه غيض من فيض.
إننا والحالة هذه غير مطالبين بالاصطفاف إلى جانب روسيا أو حلف الناتو، بل من الجهل وقلة الوعي أن ننحاز لطرف على حساب آخر، لكن من حق السوريين والليبيين أن يفرحوا لأية هزيمة تلحق بروسيا، ومن حق سنة العراق أن يفرحوا لأية هزيمة تلحق بأمريكا وبريطانيا ودول الحلف التي شاركت في تدمير العراق وتسليمه لإيران ومليشياتها، كما إنه من حق الفلسطينيين أن يفرحوا بأية هزيمة تلحق بأمريكا وبريطانيا تحديدا..
نحن مطالبون فقط بالتشفي بمن قهرنا واستخف بنا، وتعامل معنا ومع أوطاننا بكثير من الاستهانة والإهانة، ومطالبون بالبحث عن مصالحنا الحيوية، وأن نتعلم الدروس الضرورية التي تقدم لنا مجانا، وأن ندرك بأن القوة العسكرية والنفسية يجب أن تكون على رأس الأولويات لردع أي عدو قد يتربص ببلادنا التي يحكمها حكام هم في واد والوعي والإخلاص للوطن في واد آخر، لكن هذا لا يعني أن تظل الشعوب منبطحة أمام إرادة الحاكم المنبطح، وعليها أن تتجيش نفسيا وتوعويا لمواجهة احتمالات المستقبل، بالحاكم المرتهن أو بدونه؛ فمعظم أبناء الشعب العربي بمن فيهم السعوديون لا يثقون بحكام العربية السعودية، لكنهم ضد ممارسات الحوثيين ومن ورائهم إيران، ويتمنون لليمن التحرر من هذا السرطان الفارسي الذي لا يقل في خطورته عن خطر كل من الولايات المتحدة وروسيا..!!
كلا الطرفين الروسي والأمريكي يلعب لعبة قذرة ضد الآخر، ولا يستبعد أن الولايات المتحدة قد تعمدت توريط روسيا في أوكرانيا لتشتت القوات الروسية وإضعافها، دون أن تخسر شيئا باستثناء بضعة عشرات أو مئات ملايين الدولارات، قيمة الأسلحة التي قدمتها وتقدمها لأوكرانيا لإطالة عمر الحرب واستنزاف روسيا على حساب المدنيين الأوكرانيين
إن كلا الطرفين الروسي والأمريكي يلعب لعبة قذرة ضد الآخر، ولا يستبعد أن الولايات المتحدة قد تعمدت توريط روسيا في أوكرانيا لتشتت القوات الروسية وإضعافها، دون أن تخسر شيئا باستثناء بضعة عشرات أو مئات ملايين الدولارات، قيمة الأسلحة التي قدمتها وتقدمها لأوكرانيا لإطالة عمر الحرب واستنزاف روسيا على حساب المدنيين الأوكرانيين الذين راحوا ضحية هذه الحرب؛ فتركوا ديارهم وبيوتهم ولجؤوا إلى دول الجوار في درجات حرارة دون الصفر في وجود الأطفال وكبار السن. ومهما قدمت الولايات المتحدة وأوروبا لأوكرانيا من مساعدات عسكرية وإنسانية، فلن تكون خسارتها بالمجمل شيئا يذكر أمام خسارة روسيا في أثناء الحرب وبعدها، وربما لوقت طويل، ولا أستبعد أن يكون الرئيس الأوكراني نفسه متواطئا مع الولايات المتحدة في إشعال الحرب وإدامتها لوقت طويل، ومما يؤشر على احتمالية ذلك تصريحاته المتحدية لروسيا قبيل نشوب الحرب طوال نحو أسبوعين.
نحن العرب بحكم موروثنا الديني والإنساني والأخلاقي نتمنى للشعب الأوكراني السلامة، ويعز علينا سقوط القتلى والجرحى من المدنيين، فقد جربنا على يد كلا الفريقين القتل والوحشية والدمار في فلسطين والعراق وسوريا وليبيا، هذا إذا لم نتحدث عن الاستعمارين البريطاني والفرنسي لدول عربية أهمها فلسطين التي سلمها الإنجليز لليهود ليقيموا عليها وطنهم اللقيط، والجزائر التي قتل فيها الاستعمار الفرنسي ملايين المدنيين، ناهيك عن الدعم المطلق للكيان الصهيوني من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا ومعظم دول أوروبا وإن بتفاوت..
الانحياز الأيديولوجي من قبل بعض الأحزاب والحركات في الوطن العربي، سواء من قبل اليسار العربي أو العلمانية الغربية لروسيا أو أمريكا، يعد نوعا من الترف الفكري العقيم، وقد آن للعرب بكل مشاربهم وتوجهاتهم الفكرية أن يعملوا لصالح أمتهم وشعوبها المغلوبة على أمرها
إن لكل من روسيا وأمريكا أهدافا في هذه الحرب التي فشلت فيها روسيا ميدانيا حتى اليوم. وتتلخص أهداف روسيا المعروفة في إسقاط الديمقراطية في أوكرانيا واستبدالها بحكم دكتاتوري تابع لها، وبذلك تضمن عدم انضمامها لحلف الناتو، أما أهداف أمريكا غير المعلنة، فهي إضعاف روسيا عسكريا واقتصاديا وكشف قدراتها العسكرية واستنزافها في أوكرانيا. وهذا لا يعنينا في شيء، ولا يقربنا من الله زلفى، إلا أنني أرى، كما يرى غيري، أن وجود معسكرين أو قطبين عالميين من مصلحتنا بغض النظر عن مواقفنا منهما؛ فعالم القطب الواحد لا يمكن أن يكون في صالح العرب ولا صالح البشرية، وكم كنا نتمنى أن يكون ثمة قطب عربي ينافس هاتين القوتين، ويفرض وجوده على العالم كما كنا يوما ما..!!
إن الانحياز الأيديولوجي من قبل بعض الأحزاب والحركات في الوطن العربي، سواء من قبل اليسار العربي أو العلمانية الغربية لروسيا أو أمريكا، يعد نوعا من الترف الفكري العقيم، وقد آن للعرب بكل مشاربهم وتوجهاتهم الفكرية أن يعملوا لصالح أمتهم وشعوبها المغلوبة على أمرها، بعيدا عن الانحياز الأعمى لقطب تخلى عن الشيوعية، وما زال بعضنا يؤلهه ويعده رمزا للتحرر العالمي، أو لقطب استعماري بغيض يتغول على العالم بقوته الناعمة مرة والخشنة أخرى..
لقد آن لنا أن نجعل نصالحنا في المقام الأول، وأن نعمل سوية من أجل وطن الحرية والعدالة والقوة، بعيدا عن التجاذبات التي لن تمنحنا شيئا مجانيا..!