كتاب عربي 21

الشعب المستور والزعيم المُنكشف

شريف أيمن
1300x600
1300x600
عانينا نحن المصريين من الضغوط الاقتصادية المتوارثَة من نظم الحكم المتعاقِبة، ورغم دوام ضيق الحال كان الرد الدارج على لسان مَن يُسأل عن ظروف معيشته: "الحمد لله مستورة"؛ فالحياة -بقسوتها- مصحوبة بنسائم التراحم والتكافل. ثم طرأ علينا طارئ بدّل كلمة "العَوَز" بالستر، وبدّل كلمة "الفقر" بالغِنى، وبدّل حال النظام من قائد إلى تابِع، فأصبح المصريون "فقراء جدا" بفقر مُخَيّلة حاكمهم قبل أن يُفقرهم بسَفَه نفقاته.

قبيل سِنِيه العجاف في الحكم، كان يَعِدُنا بالرخاء لأن دولتنا دولة كبيرة، ومقومات النهوض فيها واسعة، فلما أمسك بهذه المقومات استأثر بالرخاء لنفسه، وأنفق على مجده الشخصي، لا على قوت يومنا، ومع ذلك فهو لا يدع مجالا إلا ونبَّه فيه إلى حكمته وعمله الدؤوب لرخاء المصريين. والحق أنهم، رغم السَّتْر، أصبحوا أقل تحمّلاً لمشاق الحياة، ولم تَعُدْ كلمات المواساة تكفي لرفع العَنَت.

يتحدث الطاووس المصري عن المصانع التي يفتتحها، والمشاريع الإنتاجية التي ملأت أرجاء بلدنا، ورغم ذلك فالأسعار تتزايد ولا تنخفض، ونسب الفقر ترتفع ولا يتم احتواؤها. ويجري تبرير ذلك إما بالأزمات العالمية، أو ارتفاع سعر المنتج عالميا، أو ارتفاع سعر صرف الدولار أمام الجنيه، أو جشع التجار، والأكثر انحطاطا ربط الأزمات بسوء سلوك المستهلك؛ كأن يروّج الإعلام لاستهلاك المصريين للشاي بما يوازي مئات الملايين من الجنيهات، وكأن تجرّع ورق الشجر أصبح مَسَبَّة في حق الهاربين من الضغوط باستخدام مكيّفات متداولة في العالم.
الأسعار تتزايد ولا تنخفض، ونسب الفقر ترتفع ولا يتم احتواؤها. ويجري تبرير ذلك إما بالأزمات العالمية، أو ارتفاع سعر المنتج عالميا، أو ارتفاع سعر صرف الدولار أمام الجنيه، أو جشع التجار، والأكثر انحطاطا ربط الأزمات بسوء سلوك المستهلك

إذا كان ذلك الطاووس يسعى لكشف "سَتْر" المصريين، فإنه ينكشف في كل أزمة، وآخرهم أزمة الصراع الروسي- الأوكراني؛ فأسعار القمح في السوق المصري ارتفعت سريعا، رغم التأكيد الحكومي بكفاية مخزون السلع، ويرتبط بالقمح أسعار العلف الذي سيرفع بالتبعية أسعار اللحوم والدواجن، كما أن وقف إمدادات النفط الروسي سترفع أسعار البنزين، وبالتبعيّة سترتفع كل الأسعار لارتباطها بتكاليف النقل أو تكاليف التصنيع التي تستهلك الغاز أو البنزين. فنحن أمام بدايات أزمة مرعبة مرتبطة بارتفاع الأسعار وهذه الأزمة لها سبب رئيس؛ أننا دولة غير مُنتِجة، ونعتمد على إنتاج غيرنا.

كان الحاكم بأمره يُحدّثنا عن حقول الغاز ذات الإنتاجية الضخمة، ولكننا لم نشهد في أي لحظة انخفاضا في أسعار الغاز، بل إنها تتزايد باستمرار. وكان يُحدّثنا عن مشروع المليون ونصف فدّان زراعي، لكن أسعار المنتجات الزراعية تتزايد، وكان يُحدّثنا عن مزارع السمك، لكن الأسماك (تحديدا سمك البلطي) تحولت من طعام مناسب السعر للأسرة المصرية إلى وجبة مكلفة. ولا تقف هذه القائمة عند حدٍّ، بل يمكن مدّها إلى كل ما يتعلّق بالحياة اليومية للمصريين.

حدّثنا عن الحياة الكريمة، وتكفي زيارة واحدة لمصلحة حكومية، أو مستشفى حكومي، أو مدرسة حكومية، ليجد المواطن فيها أصناف الذل والإهانة إن كان الموظف غير معتدل المزاج، أو يتلذذ بمشاهدة معاناة غيره، فلا يرشد المواطن إلى احتياجاته من استيفاء الأوراق بصورة كاملة، فيطلب منه بيانا، ثم يطالبه بآخر بعد استيفائه الأول، وهكذا حتى يذوق المواطن أصناف العذاب، أو يدفع إليه أموالا يقتطعها من قوت أبنائه ليرتاح من العذاب.
التسريبات التي تخرج من دوائر سابقة لصنع القرار في كيان الاحتلال والعواصم الأوروبية، تبين مدى التبعية التي غرق فيها النظام، ليس حتى للقوى العظمى، بل لأنظمة في المنطقة استطاعت شراء القرار المصري، عن طريق مهانة زعيمه وضعفه أمام إغراءات المال

حدّثنا كذلك عن العمالة والارتهان للخارج، لكن التسريبات التي تخرج من دوائر سابقة لصنع القرار في كيان الاحتلال والعواصم الأوروبية، تبين مدى التبعية التي غرق فيها النظام، ليس حتى للقوى العظمى، بل لأنظمة في المنطقة استطاعت شراء القرار المصري، عن طريق مهانة زعيمه وضعفه أمام إغراءات المال.

ربما نشهد تطويرا في جانبين تحديدا، وهما لا علاقة لهما بمصالح أبناء البلد؛ فمشاهد التحديث تجري في الضرائب والتحصيل، وهي مشاهد إحكام سيطرة على مصادر الدخل أكثر من كونها مشاهد تحديث رقمي، وهو تطوير يستهدف التفنن في وضع يد النظام السياسي في جيوب المصريين.

والجانب الثاني من مشاهد التطوير نجده في المنظومة الأمنية، وهو مرتبط تحديدا بإحكام السيطرة على المعارضة السياسية، لا الجزء الخاص بضبط الأمن، وسكان المناطق الشعبية يعلمون تحديدا من يتاجر في المخدرات، وأماكن بيعها، وقيامهم بالاعتداء على من يعارضهم وربما قتلهم. كما تشهد هذه المناطق شجارات قد تستمر لوقت طويل دون تدخلات أمنية، في حين أن دقائق ستكون كافية لتوجه قوة أمنية لفض تجمع معارض للسيسي، الأمر الذي يُظهر حالة التقاعس فيما يتعلق بأمن المواطنين، وحالة اليقظة فيما يتعلق بأمن النظام السياسي.

تأثَّر المجتمع بالإجراءات الاقتصادية التي قام بها النظام السياسي، فذاع العَوَز والاحتياج، لكن سيظل الانكشاف الفعلي هو انكشاف النظام السياسي وزعيمه. فنحن أمام تَجَلٍّ لكذب دعايات العمالة الخارجية والإنتاج والتطوير، وأمام حقيقة أن النظام السياسي تابع وغير مُنتج ويعاني من التخلف الإداري والتنظيمي، ويتبوأ مكانته العليا بين النُّظم الفاسدة، ونأمل للمجتمع أن يعود للسَتْر، وللنظام أن يستمر في التعرِّي.

twitter.com/Sharifayman86
التعليقات (0)