هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في اليوم الأخير من الحرب (7 / 7 / 1994) دخلتْ إلى حضرموت قوة بسيطة مكونة من سيارات (لاند كروزر) وأطقم مصفحة، بقيادة أحمد مساعد حسين ومعه قيادات جنوبية كانت محسوبة على الرئيس علي ناصر محمد سابقا، وصارت مؤيدة للرئيس علي عبد الله صالح"، لم يعترض أحد هذه القوة حتى وصلت إلى مقر قيادة الجبهة الأمامية في ساحل حضرموت. هناك صودف وجود صالح أبو بكر بن حسينون وزير النفط والقائد العسكري المُجَرّب.
ترجل مرافقو الوزير وبدؤوا الكلام مع رفاقهم الجنوبيين بطريقة ودية، إلى أن تعرف هؤلاء على ابن حسينون، فأطلقوا النار عليه وسقط للتو. بعد سقوطه استدعى أحمد مساعد القوات الحكومية التي اندفعت إلى المكان بعد أن تأكدت خلوه من الجاهزية القتالية" (شاهد عيان في مسرح العمليات رفض الإفصاح عن هويته)، في هذا الوقت كان علي سالم البيض في "غيل باوزير"، فصعقه نبأ مقتل صديقه ورفيق دربه، فضلا عن انهيار دفاعات "المكلا" وبخاصة عدم تفجير الممر الجبلي في "بروم"، ذلك أن التفجير من شأنه أن يقطع الطريق على القوات المهاجمة، ويحمي المكلا عدة أيام بانتظار استعدادات جديدة. لقد حال التسلل المباغت لقوات أحمد مساعد دون الضغط على زر التفجير وضاعت كل التحضيرات العسكرية سدى.
صالح أبو بكر بن حسينون
على الرغم من الوضع الأمني الخطير وسيطرة القوات الحكومية على المحافظة، "أصرّ علي سالم البيض على حضور دفن ابن حسينون ولم يعبأ لتحذيرات المرافقين. بعد المراسم، توزع ومن معه على ثلاثة مواكب برية، وانطلقوا كل من طريق باتجاه محافظة المهرة ومنها إلى الحدود مع سلطنة عمان. استعانت المواكب في سيرها بالبدو وأصحاب الخبرة في الطرقات الصحراوية، وكانت فرصة ليشاهد البيض بأم العين طرق تهريب الناس والبضائع التي كانت تتم خلال قبضة الحزب الاشتراكي الحديدية على جنوب اليمن" (ودائما بحسب شاهد العيان الذي كان ضمن الوفود).
وصل البيض إلى النقطة العسكرية الحدودية في صلالة عن طريق المهرة من دون اتصال مسبق مع السلطات العمانية، لكن حرس الحدود رحبوا به كما سيرحبون من بعد بالوفود الأخرى التي وصلت تباعا، ومنهم ياسين سعيد نعمان ومحمد سعيد عبد الله (محسن) ومحمد حيدرة مسدوس وعبد العزيز الدالي وقيادات عسكرية مع أسلحتها، فضلا عن طائرات هليكوبتر".
رفض العمانيون دخول العسكر وكانوا قد تلقوا ضغوطات كبيرة من صنعاء لهذا الغرض، لكن البيض أصرَّ على دخولهم ولو مؤقتا بانتظار تدبير لجوئهم إلى دول أخرى، فاشترط العمانيون أن يمتنع عن العمل السياسي خلال إقامته مقابل دخول العسكريين، فقبل الشرط وبادر خلال أسابيع قليلة إلى ترتيب إقامات المعنيين في أبو ظبي والقاهرة والرياض، وظل وحيدا مع أسرته في مسقط" (المصدر نفسه).
أمضى البيض سنوات طويلة في سلطنة عمان من دون الإدلاء بتصريحات، أو ممارسة أنشطة سياسية علنية إلا فيما ندر عندما يكون خارج السلطنة، ورفض عروضا متكررة ومغرية باللجوء لدولة عربية كبيرة. استقبله السلطان قابوس شخصيا ورحب به في "مسقط"، وكان يلتقيه بين وقت وآخر ويعامله معاملة رئيس دولة، فيما مكتب البلاط السلطاني يشرف على جميع أموره بتوجيهات مباشرة من السلطان. تفرغ البيض خلال إقامته العمانية للمطالعة والركض اليومي ومتابعة مشاكل أنصاره وتوفير الحلول اللازمة لهم.
مكالمة صالح والبيض
في بدايات استقراره في السلطنة، حاول الرئيس علي عبد الله صالح أن يتواصل معه، لكنه رفض بحسب المقربين منه إلى أن تمكن في إحدى المرات من الحديث عبر بدالة الهاتف، متنكرا بهوية صديق للبيض يقيم في صنعاء. حدثّه صالح بزهو المنتصر وطلب من البيض أن يرسل أسرته إلى اليمن ووعده بأن تعامل معاملة مفضلة وأن يعتبرها كأسرته. رفض البيض وقال؛ إن الأسرة أمرها سهل، لربما من الأفضل الاهتمام بأسر شهداء الحرب التي "أطلقتها على الجنوب"، وسأله صالح إن كان يكتب مذكراته فرد البيض: "لا لم أكتب بعد. سأنتظرك لنكتب معا لأنك لن تبقى على كرسيك".
امتنع علي سالم البيض عن الانضمام إلى حركة المعارضة الجنوبية (موج) التي شكلتها المملكة العربية السعودية بقيادة السيد عبد الرحمن الجفري؛ لأنه كان يدرك أن هذه المعارضة آيلة إلى الفشل، وقد انتهت بعد ترسيم الحدود اليمنية ـ السعودية، واشتراط الطرفين اليمني والسعودي الامتناع عن إيواء ودعم معارضي النظامين.
بالمقابل، تمكن من خلال زياراته المتكررة إلى النمسا من تشكيل "حركة تقرير المصير" المعارضة بقيادة أحد العسكريين المقربين منه، ونجح في إرجاع عدد من القيادات العسكرية إلى الداخل، ومن بينهم رئيس المجلس الانتقالي الحالي في عدن عيدروس الزبيدي (يضم المجلس عمرو البيض أحد أبناء الرئيس الجنوبي)، وكان معظم العائدين من منطقة الضالع.
لم تتوسع حركة البيض المعارضة والمطالبة بـ "حق تقرير المصير"، إلا بعد وصول التطورات الخطيرة في جنوب اليمن إلى مرحلة شديدة السوء خلال أكثر من 13 عاما بعد الحرب. كانت نقطة الانطلاق عام 2007 عندما نظم عسكريون متقاعدون تظاهرات مطلبية بقيادة الجنرال ناصر علي النوبة، الذي لم يكن متطرفا ولا كان انفصاليا، لكنه يعبر عن ضيق العسكريين من ظاهرة آخذة بالتنامي منذ نهاية حرب العام 1994، حيث تم فصل آلاف العسكريين والموظفين من أعمالهم بذريعة التقاعد أو تأييد الانفصال.
اتسع حجم عمليات الفصل التعسفي لأسباب مختلفة، من بينها إشراف عبد ربه منصور هادي وعلي محسن الأحمر على الملف الجنوبي بعد الحرب، ومن ثم إعادة ترتيب الأوضاع في المحافظات الجنوبية وفق قاعدة الولاءات الجديدة. ومن غير المستبعد أن يتصرف المشرفان على هذه العملية بما يتيح للصيغة الوحدوية الجديدة أن تستقر على غالب ومغلوب فيكون المفصول انفصاليا، وغيره وحدوي ووطني، ومن غير المستبعد أيضا أن يكون الانتقام بأثر رجعي لأحداث يناير قد أدى دورا في هذه العملية، ومن غير المستبعد أيضا أن يكون الفساد والمحسوبيات قد تسببت في التخلص من آلاف الموظفين.
في السياق نفسه، ما كان الحزب الاشتراكي قادرا على التدخل للحؤول دون هذه "المجزرة" الوظيفية التي لا تبتعد كثيرا عن عملية التطهير الجهوي والقبلي، فقد اختط لنفسه طريق المعارضة وعقد تحالفات ضد السلطة، لا تتيح له حماية المتضررين الجنوبيين من إجراءات الحكومة المركزية في صنعاء. هنا تجدر الإشارة إلى عودة ظاهرة المشايخ والألقاب القبلية، وفي بعض الأحياء كانت تطبق بعض الحدود وفق أحكام الشريعة الإسلامية.
حزب "خليك بالبيت"
أذكر أمثلة عاينتها بنفسي بعد تلك الحرب، من بينها حرمان أحد الوزراء الاشتراكيين من منزل له الحق في تملكه في "المدينة الليبية" التي تولى الراحل معمر القذافي إعدادها مساكن للقادة الاشتراكيين في صنعاء. كان عليّ أن أواظب على التدخل لثلاث سنوات متواصلة مع رئيس الجمهورية والمحيطين به كي لا يبقى هذا الوزير مشردا، وما زلت أذكر عندما طالبت للمرة الأولى بإنصافه أن رئيس الجمهورية قد لمح إلى أن الأمر عند عبد ربه منصور هادي وعلي محسن الأمر، وكلاهما لا يطيق سماع اسمه.
وتدخلت في حالات أخرى للحؤول دون فصل موظف يساري من أحد السفارات، وفي إعادة منزل نهب محتوياته لصاحبه، وفي إعادة أوراق مصادرة لسفير اشتراكي فُصِلَ من عمله وأُعِيدَ إليه بعد حين.
من حسن الحظ، أنني كنت ألقى آذانا صاغية في حينه، وسط عمليات التطهير الواسعة في الجنوب بعد هزيمة المحاولة الانفصالية. بموازاة أعمال الفصل الانتقامية عادت الألقاب القبلية والدينية، وعاد الناس لاستخدامها في يومياتهم كما عادت بعض أسر السلاطين إلى الحياة العامة.
يجب ألا ننسى أن الدولة الاشتراكية كانت "رب العمل" الوحيد في البلاد، ومن ثم كان الجنوب يضم عددا من الموظفين يفوق نظراءهم الشماليين بأربعة أضعاف مقابل عشر سكان الشمال، وهذا يعني أن المس بالموظفين هو مس بالقاعدة الشعبية للمجتمع. ما زلت أذكر أيضا أن المفصولين كانوا يقدمون قضيتهم بروح الدعابة، ويقولون إنهم ينتمون إلى حزب "خليك بالبيت"، وهو اسم برنامج تلفزيون لبناني.
وحتى لا نبالغ في إرجاع هذه الظاهرة إلى الحكومة الصنعانية حصرا، فإننا نذكر بأن سقوط السلطات في الجنوب والشمال كان يتحول إلى وبال على أنصارها، ومن ثم فإن ما جرى للجنوبيين لا يشكل استثناء، فالناس ومن بينهم الحكام يتصرفون بوسائلهم ومعارفهم وتقاليدهم: هذا التفسير لا يبرر بالطبع، ولا ينتقص من بشاعة الإجراءات الانتقامية في هذه الحالة وفي الحالات التي سبقتها.
سيؤدي اتساع حزب "خليك بالبيت" إلى الانتقال من البيوت إلى الشارع وتأسيس حركة مطلبية فرضت نفسها على المسرح السياسي في اليمن، وحملت الحكومة على التراجع عن إجراءاتها التعسفية وتسوية أوضاع عدد كبير من المعنيين، لكن نجاح الحراك سيكون له ما بعده وصولا إلى العام 2011، حيث انخرط في تيار ما سمي بـ "الربيع العربي" اليمني.
تبقى إشارة ضرورية في هذا المقام حول إدارة الدولة الاندماجية التي قامت على الحكم بالتراضي مع مراكز القوى التمثيلية في البلاد، وكان الدخل الوطني يعاد توزيعه على هذه المراكز وعلى الجيش ومؤسسات الدولة، وبما أن الدخل الوطني كان محدودا، فمن الصعب تحصيل رضى كل المجموعات التمثيلية الأمر الذي يفسر جزئيا على الأقل، ظاهرة التمرد الجنوبي الذي انتظم من بعد بكل مكوناته تحت سقف حل الدولتين.
الانتقال إلى بيروت
في هذا الوقت، قرر علي سالم البيض التحرر من القيود المفروضة عليه في سلطنة عمان، ومن ثم التخلي عن الجنسية العمانية، فسافر إلى النمسا ومنها بدأ تحركه من أجل دعم "الحراك الجنوبي". وقد انتقل من بعد إلى بيروت حيث توفرت له فرص عمل واسعة بتغطية من "محور المقاومة"، وبالتفاهم مع "أنصار الله" الذين كانوا يرفعون شعار "حق تقرير المصير" للجنوبيين. وقد تمكن البيض من تأسيس محطة تلفزيونية (عدن لايف) ومن تنظيم تظاهرات حاشدة وعصيان مدني. سيتغير الموقف تماما بعد تولي الحوثيين السلطة في صنعاء وتخليهم عن "حق تقرير المصير"، وقد طلبت الجهات المعنية في بيروت من البيض أن يتكيف مع الواقع الجديد بانتظار ظروف أفضل، لكنه رفض وعاد إلى النمسا ومنها إلى الإمارات العربية المتحدة.
علي سالم البيض مع علي ناصر محمد والعطاس وبحاح عام 2018.
حاول علي سالم البيض تحقيق مصالحة جنوبية لطي صفحة الأزمات التي ضربت جنوب اليمن في فترات مختلفة، بدأها في رد الاعتبار للرئيس سالم ربيع علي (سالمين) ورجال عهده المستبعدين عندما كان يتولى السلطة في عدن، وأشرف على مصالحة مع علي ناصر محمد بحضور حيدر أبو بكر العطاس لطي صفحة يناير الدامي عام 1986. اعترف رجال سالمين بأهمية مبادرة المصالحة، أما في قضية يناير، فالواضح أن أحدا لم يلتزم بوجوب طي الصفحة وآخر العابثين بها رئيس الوزراء الأسبق العطاس، الذي اتهم البيض بتصفية عبد الفتاح إسماعيل.
تبقى خلاصة لسيرة البيض بين القرنين العشرين والواحد والعشرين يمكن اختصارها في عباراته التي أطلقها في قمة بغداد العربية، حيث أكد أن اليمنيين طردوا الاحتلالين العثماني والبريطاني وبنوا دولا بعضهم ضد بعض، وجيوشا بعضهم ضد بعض، وأمنا بعضهم ضد بعض، واقتصادا بعضهم ضد بعض. واعتبر أن الحل الوحيد هو تجميع قواهم لبناء دولة تحفظ مصالحهم وتستثمر ثرواتهم وتواجه أعداءهم.
في كلمته أمام القمة، أكد البيض ضمنا أن حل مشاكل اليمن يكمن في مصالحة الداخل ومواجهة الخارج حينا ومجابهته إن اقتضى الأمر. وهذا الحل ما زال صالحا أقله من الناحية المبدئية، لكن الخراب الذي يرتسم في أجزاء اليمن المختلفة وأقلمة وتدويل الأزمة اليمنية، ينقل هذا الكلام إلى الخانة الطوباوية دون أن يدحضه.
في ختام هذه السيرة، لا يسعني إلا أن أتمنى لليمنيين في كل أرجاء بلادهم الاتفاق على حلول طوعية لمشاكلهم، بعيدا عن الإلغاء والإكراه والاستبداد والاستنجاد بالخارج.. حلول لا ضرر فيها ولا ضرار.
اقرأ أيضا: سالم البيض.. اشتراكي يمني اختبر أفكاره السياسية ودفع ثمنها
اقرأ أيضا: البيض.. هاشمي جذبته القومية والاشتراكية والوطنية الديمقراطية
اقرأ أيضا: البيض.. هكذا انتصرنا على بريطانيا ووحدنا 22 مشيخة وسلطنة
اقرأ أيضا: البيض.. راديكالي بحكومة ثورية هدفها نفط الخليج وتحرير فلسطين
اقرأ أيضا: علي سالم البيض.. فقد مناصبه السياسية بسبب زواجه ثانية
اقرأ أيضا: كيف نجا البيض من مجزرة التواهي ووصل إلى السلطة في معاشيق؟
اقرأ أيضا: علي سالم البيض يكتب الفصل الأخير في سيرة النظام الاشتراكي
اقرأ أيضا: قسم الوحدة اليمنية على القرآن الكريم في جبل "حقات"
اقرأ أيضا: البيض.. نجم قمة بغداد يخفق في دمج حزبي الحكم ويعتكف في عدن
اقرأ أيضا: لماذا فشلت وثيقة "العهد والاتفاق" بين البيض وصالح في اليمن؟
اقرأ أيضا: لماذا أعلن علي سالم البيض الانفصال ولجأ إلى سلطنة عُمان؟