قضايا وآراء

أهمية ومخاطر الجغرافيا السياسية.. أوكرانيا أنموذجا

حسين عبد العزيز
1300x600
1300x600

لا تنفصل السياسة الخارجية للدول عن جغرافيا المكان، وبهذا، فإن الجغرافيا السياسية ليست سوى علاقة تأثير وتأثر بين الجغرافيا والسياسة، وإن اتخذ هذا التأثير والتأثر أشكالا متنوعة بتنوع السياقات التاريخية والمتغيرات المحلية والإقليمية للدول.

في لحظات تاريخية معينة قد لا تتماهى السياسة مع جغرافيا المكان، فتصبح السياسة هنا عبأ على الجغرافيا، أو بعبارة أخرى، حين لا يستطيع الفاعلون السياسيون الاستفادة من الموقع الجغرافي سياسيا، لكن في لحظات سياسية أخرى يحدث العكس، حيث تتجاوز السياسة مقومات الجغرافيا السياسية للدولة، وقد تنجح هذه العملية ـ بالتأكيد مؤقتا ـ في حال كان ثمة فراغ استراتيجي على مستوى الإقليم، ولا توجد دولة كبيرة معادية، إلا أن الخطورة تكمن في حال قرر الحكام اتباع سياسات خارجية تتجاوز حدود الجغرافيا السياسية لبلدهم، مع وجود قوة كبرى في المحيط الإقليمي، وعلى عداء معها.

هذا ما حدث تماما في الحالة الأوكرانية: اتخذ الحكام في كييف عام 2014 قرارا بالتوجه نحو الغرب ضمن صيغة استراتيجية تشكل تهديدا كبيرا للمجال الحيوي الروسي، متجاهلين من جهة طبيعة موقع بلدهم الجغرافي الواقع في قلب التصدع الأوروآسيوي، ومتجاهلين من جهة أخرى تنامي القوة الروسية ومطامحها وخطوطها الإقليمية الحمراء.

قبل نحو أسبوع، نشرت صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية مقالا عن آراء المؤرخ المختص بتاريخ روسيا روبرت سيرفيس الذي قال إن هناك خطأين تسببا في الغزو الروسي لأوكرانيا: 

الأول، جاء في 10 تشرين الأول (نوفمبر) عندما وقعت الولايات المتحدة وأوكرانيا ميثاق الشراكة الإستراتيجية، والذي أكد دعم أمريكا حق كييف في متابعة العضوية في منظمة حلف شمال الأطلسي.

الثاني، يكمن في استهانة الرئيس الروسي بمنافسيه الغربيين.

على الرأي ذاته، ألقى عالم السياسة الأمريكي جون ميرشايمر باللوم على الولايات المتحدة في جر روسيا لغزو أوكرانيا، بعد إخلال الولايات المتحدة بالوعد الذي قطعه الأمريكيون للاتحاد السوفييتي عام 1989 بعدم التمدد شرقا، ثم دعوة الرئيس جورج بوش لكل من جورجيا وأوكرانيا للانضمام إلى حلف الناتو، وأخيرا الثورة الملونة المدعومة من طرف الغرب عام2014 لإطاحة الرئيس الأوكراني السابق الموالي لروسيا يانوكوفيتش.

ويذهب ميرشايمر أبعد من ذلك، ليقول إن إستراتيجية الغرب في التصدي للتدخل الروسي في أوكرانيا من خلال العقوبات الاقتصادية ليست فعالة، فالمسائل الأمنية والعسكرية خلال الحرب لها الأولوية المطلقة على الاقتصاد أو الدبلوماسية، وهذا يعود إلى أن الإدارة الأمريكية تفكر بمنطق القرن الحادي والعشرين، فركزت على مفاهيم مثل سيادة الدول والقانون الدولي وغيرها من المفاهيم.

تتموضع أوكرانيا في موقع استراتيجي، فهي تطل على السواحل الشمالية للبحر الأسود وبحر آزوف، وتقع على الحدود مع عدد من الدول الأوروبية بولندا وسلوفاكيا والمجر في الغرب، وروسيا البيضاء في الشمال، ومولدوفا ورومانيا في الجنوب الغربي، وروسيا في الشرق. 

لقد ضرب حكام أوكرانيا الثقل التاريخي والجغرافي والعسكري للقوة المحاذية لهم شرقا عرض الحائط، وما ذاك إلا لأن عقولهم السياسية سكنها وعي زائف بأن الغرب سيحميهم، ولم يتذكروا الماضي القريب حين أحجمت الولايات المتحدة عن التحرك، بعد الغزو الروسي لجورجيا عام 2008، وأوكرانيا عام 2014.

ولم يتنبهوا إلى أن القمة الافتراضية التي جمعت الرئيسين الأمريكي والروسي في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، لم تنجح في التوصل إلى تفاهم، فلم يحصل بايدن على ضمانات روسية بعدم اجتياح أوكرانيا، في وقت حدد سقف الرد الأمريكي بالعقوبات الاقتصادية، وهي عقوبات تصبح غير مهمة حين يتعلق الأمر بالتهديدات التي تطال المجال الاستراتيجي الحيوي للدول.

 

تبدو الولايات المتحدة الدولة الوحيدة المستفيدة من الهجوم الروسي، وربما لعبت دورا رئيسا في إيصال الأمور إلى ما وصلت إليه، فهي تريد ـ بسبب تراجعها الاقتصادي ـ أن تعيد بناء العلاقة بين ضفتي الأطلسي على أسس جديدة من خلال إعادة إحياء الهواجس الأوروبية من الخطر الروسي الذي يشكل امتدادا للخطر السوفييتي،

 



لن تقبل روسيا على الإطلاق أن تصبح أوكرانيا جزءا من حلف شمال الأطلسي "الناتو"، فبحكم المادة الخامسة من اتفاقية "الناتو"، فإن أي هجوم يتعرض له عضو في الحلف يعتبر هجوما على الحلف بأكمله، ما يعني أن أي هجوم عسكري روسي على أوكرانيا يعني وضع موسكو في مواجهة مباشرة مع الدول الـ27 الأعضاء في الحلف، فضلا عن أن الصواريخ الغربية ستصبح محاذية لروسيا.

بالنسبة لموسكو، فإن الاستراتيجية الأمريكية حيال أوكرانيا إذا ما حققت نتائجها، تعني تهديدا للجغرافية السياسية الروسية.

تبدو الولايات المتحدة الدولة الوحيدة المستفيدة من الهجوم الروسي، وربما لعبت دورا رئيسا في إيصال الأمور إلى ما وصلت إليه، فهي تريد ـ بسبب تراجعها الاقتصادي ـ أن تعيد بناء العلاقة بين ضفتي الأطلسي على أسس جديدة من خلال إعادة إحياء الهواجس الأوروبية من الخطر الروسي الذي يشكل امتدادا للخطر السوفييتي، ولواشنطن مصلحة كبرى في وقف تصدير الغاز من روسيا إلى أوروبا، ولها مصلحة أيضا في أن تشارك أوروبا أكثر في تكاليف الأمن.

كيف لم تدرك أوكرانيا هذه الحقائق؟ هل أعمت هواجسها تجاه روسيا حقائق الجغرافيا والسياسية؟ هل كانوا يعتقدون فعلا أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي سيتدخلون عسكريا لمنع الروس؟ لو كان ذلك حقا لفعلوا قبيل بدء الهجوم الروسي، ولعل ما قاله زعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ الأمريكي ميتش مكونيل يعبر عن الواقع، "من المؤسف أن الردع بعد الحقيقة ليس ردعا على الإطلاق".

لا شك أن الرغبة في أن تكون أوكرانيا جزءا من المنظومة الغربية وتتطور فيها الديمقراطية ـ الليبرالية، أمرا مهما، لكن كان على حكام كييف تحقيق هذه الأهداف بروية وهدوء والاستمرار في الانفتاح على الغرب، لكن من دون أن يؤدي كل ذلك إلى تهديد المصالح القومية العليا لروسيا، التي ما زالت إلى الآن تعتبر في القاموس الأمريكي أحد أهم وأخطر الأعداء.

لن يكون أمام أوكرانيا بسبب مأزقها الجغرافي إلا خيار الحياد الإيجابي، ومن خلال هذا الحياد تستطيع أن تتلمس مستقبلها السياسي والاقتصادي، خارج نوسان العلاقة بين الشرق والغرب.

ليس هذا المقال دفاعا عن روسيا، ولا يمكن أن يكون، إنه دفاع عن وجهة نظر يجب أن تأخذ حقائق الجغرافيا المرة بعين الاعتبار، وإلا ستكون النتائج كارثية.

*كاتب وإعلامي سوري


التعليقات (1)
الكاتب المقدام
السبت، 12-03-2022 06:33 م
*** بعيداُ عن العبارات الفخيمة والمصطلحات المعقدة التي حفلت بها المقالة، والتي يعجب باستخدامها هواة التنظير والتعميم والإسقاط والتقعر من نوعية: "في لحظات تاريخية معينة قد لا تتماهى السياسة مع جغرافيا المكان"، وبغض النظر عن الجمل المبتسرة التي اقتطعها الكاتب من سياقها لمن وصفهم بكونهم من الخبراء الثقات ليؤيد بها وجهة نظره بحديثه عن "تجاهل تنامي القوة الروسية ومطامحها وخطوطها الإقليمية الحمراء"، ففيم يتعلق بالترويج لدعاية القوة الروسية المتنامية، فبعد انهيار الامبراطورية السوفيتية، بعد عجزها عن استمرار احتلال الجمهوريات الخمسة عشر المستقلة عنها، نتيجة لانهيارها الاقتصادي الداخلي، بفعل النظام الشيوعي الديكتاتوري الشمولي الذي لم يشهد العالم مثيلاُ له منذ فاشية موسوليني ونازية هتلر، وما تلاه من انحلال حلف وارسو في أوروبا الشرقية وانحسار نفوذ روسيا الدولي، فإن روسيا تحت حكم بوتين الاستبدادي الفاسد قد استمر تدهور أوضاعها السياسية والاقتصادية الداخلية، حتى تحولت إلى دولة شبه دول العالم الثالث، في اعتمادها شبه الكلي على تصدير المواد الخام كالنفط والغاز والقمح، وتمكن بوتين من تقزيم روسيا واخترالها في ذاته وتهميش دور شعبها، بحيث يصح القول بأن غزو اوكرانيا هي حرب بوتين العبثية ونتيجة لحساباته الشخصية من أجل دعم بقاءه على كرسي الحكم، وليتمكن من سحق معارضيه بدعوى أنه "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، ولاتحقق لروسيا وشعبها أي مصالح استراتيجية أو سياسية أو اقتصادية، وبعد جرائمه في سوريا وليبيا، سيتحمل الشعب الروسي مزيد من تدهور أحواله نتيجة تورطه في حرب بوتين الأخيرة في اوكرانيا، إلى أن يتم التخلص منه إلى مزبلة التاريخ التي يقبع فيها أمثاله.